هذه النارُ نارُ ليلى فَمِيلوا... من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط صديقي العزيز ، أنا من المعجبين برائية أبي صخر الهذلي ، التي يقول في مطلعها : للَيْلى بذات البَيْن دارٌ عرَفْتُها وأخرى بذات الجيش آياتُها سَطْرُ بل إني أعتبرها واحدة الواحدات ، أو ( إحدى الإحَد ) كما يقول الراجزُ القديم . و رغم أنهم يَستعملون عبارة ( إحدى الإحَد ) بمعنى ( إحدى الدواهي ) ، فلن نبعدَ كثيراً عن رائية أبي صخر الهذلي . إذْ يقول محمد مظلوم ، في كتابه ( أصحاب الواحدة ) إنهم كانوا يسمون هذه القصيدة « الموت الأحمر.» و على أية حال ، فالذين يعتبرون هذه الرائية أحسنَ قصائد الغزل العربي معذورون . و بيتُ قصيدها في نظري هو قوله : عجبتُ لسَعْي الدهر بيني و بينها فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهرُ و أنا أتصور الآن ذلك العاشق المعشوق ، الذي يعيش كل وقته مستثارا مشغولا ، لا يجد وقتا و لا راحة و لا تقر به أرض أو تستقر فوقه سماء ، فإذا انقضى العشق هدأت النفس و طال الوقت و خمد الحس فكأنّ الدهرَ ساكنٌ لا يتحرك . أليس هذا بعجيب ؟ ثم ما رأيك يا صديقي في هذه الواحدة الأخرى النادرة الغريبة : لامية أبي محمد المرتضى الشهرزوري ، التي يتحدث فيها عن نار غريبة ، لا تشبه نيرانَ الشعر العربي التي نعرفها . يقول الشاعر في مطلع هذه القصيدة : لمعَتْ نارهمْ و قد عسعسَ الليلُ وملَّ الحادي و حارَ الدليلُ ويقول متحدثا عن هذه النار : ثم قابلتُها و قلتُ لصحبي هذه النارُ نارُ ليلى فَميلوا إلى أن يقول : نارُنا هذه تضيءُ لمنْ يسري بليل لكنها لا تُنيلُ منتهى الحظّ ما تزودَ منه اللحْظُ و المدركون ذاك قليلُ فيا صديقي العزيز ، هل ترى هذه النار؟ أما أنا فأراها . و لكنني لا أعرفها . هل هي نار الصوفية ؟ نار الفلاسفة ؟ نار الحب ؟ نار النور ؟ أم هي نار الأحلام ؟ يراها كل واحد حسب حلمه . و الأحلام بصمات لا تتشابه و لا تتكرر. من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور يا لهذه النار التي وصفها الشهرزوري في لاميته ! و إني لأتساءل معك : أية نارٍ هي ؟ هل هي نار الصوفية ؟ نار الفلاسفة؟ نار الحب ؟ نار النور ؟ نار الأحلام ؟ هل هي نارٌ باشْلارية ، نسبة إلى العالم و الفيلسوف الفرنسي غاستون باشْلارْ ، صاحب المؤلف الشهير عن « النار في التحليل النفسي ». وهل تُراها تستعر مثل ( نار مجوس) التي وصفها كل من امرئ القيس و الحارث بن التوأم اليشكري في قصيدتهما الرائية المشتركة : أحَارِ أريكَ بَرْقاً هبَّ وهْناً كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا ومن هي يا ترى ليلى ، التي يتحدث عنها الشهرزوري حين يقول : ثم قابلتُها و قلتُ لصحْبي هذه النارُ نارُ ليلى فَميلوا ؟ هناك شعراء آخرون رأوا نارَ ليلى أو نارَ لبنى أو لُبَينى ، و وصفوها في قصائدهم . فمنهم المجنون و منهم الشماخ بن ضرار و منهم عدي بن زيد العبادي الذي قال : رُبَّ نارٍ بتُّ أرقبُها تقضم الهنديَّ و الغارا ولها ظبْيٌ يؤججها عاقدٌ في الخصْر زنّارا ويحكى أن معاوية بن أبي سفيان قد طربَ لهذا الشعر حين سمع ابنَ صياد يغَنّيه و قال : «لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان» . و قد تساءل شيخ المعرة في ( الفصول و الغايات) عن نيران هؤلاء الشعراء وعن كنهها . و تحدث الجاحظ قبله عن جوانب مختلفة تتعلق بالنار و ذكرَ فيما ذكر قصة َسهم بن الحارث الذي أشعلَ ناراً في الليل فجاءته الجن فقال في ذلك بيتَه العجيب: أتَوْا ناري فقلتُ : «مَنُونَ أنتمْ » ؟ فقالوا « الجنُّ» قلتُ :«عِمُوا ظلاما» وتحدث الجاحظ كذلك عن النار التي يراها المرءُ و لا حقيقة لها ، و هي تُسمى «نار الحُباحب». و قد ذكرها النابغة في شعره (ويوقدن بالصّفّاح نارَ الحباحبِ.) وأوردَ الثعالبي في « ثمار القلوب « أخبارا عجيبة عن نار الحَرَّتَين . و هي نار ببلاد عبْس. فإذا كان الليل فإنها تسطع في السماء و ربما تأتي على كل شيء فتحرقه . و إذا كان النهار فإنما هي دخان يَفور ! و يحكي الثعالبي عن هذه النار وقائعَ هي أقرب ما تكون إلى الأساطير .