لا تَعْذليه فإنَّ العَذْلَ يُولِعُهُ .... قدْ قلتِ حقاً و لكنْ ليس يَسْمعهُ ... إلى أحمد بوزفور صديقي العزيز، إذا كان تميم بن مقبل واحدا من الشعراء الذين اشتهروا ببيت شعري واحد، فإن هناك شعراء كثيرين اشتهروا بقصيدة واحدة . فمنهم الشاعر القديم الأسْوَد بن يَعْفر ، صاحب الدالية المشهورة : نامَ الخليُّ و ما أحسُّ رقادي والهَمُّ مُحتضرٌ لديَّ وسادي ويحكي أبوالفرج الأصبهاني، في كتاب الأغاني ، أن هارون الرشيد رصدَ عشرة آلاف درهم لمن يُنشده هذه الدالية كاملة . و على أية حال فالقصيدة من عيون الشعر العربي . و صاحبُها - و هو من شعراء الجاهلية - معدود ضمن كبار الشعراء . و كان يُلقب بذي الآثار لأنه إذا هجا قوماً تركَ فيهم آثاراً ! و قد قال عنه ابن سلام :» كان الأسود شاعرا فحلاً ، و كان يُكثر من التنقل في العرَب ، يجاورهم فيَذمُّ و يَحمد و له في ذلك أشعار.» و عن هذه الدالية يقول صاحب الطبقات:» وله واحدة طويلة رائعة ، لاحقة بأول الشعر.» و كان الأسود بن يعفر قد كفَّ بصرُه لما شاخ . و هو يتحدث في (واحدته) هذه عن فقدان بصره : ومنَ الحوادث - لا أبا لك - أنني ضُربتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ وفيها يَنعتُ الموتَ بذي الأعواد فيقول: ولقدْ علمتُ سوى الذي نَبَّأتِني أن السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ وجاء في اللسان : «ذو الأعواد هو الموت . و عَنى بالأعواد ما يُحمل عليه الميت . ذلك أن البوادي لا جنائز لهم ، فهم يَضمّونَ عودا إلى عود و يحملون الميتَ عليها.» بعد ذلك يصف الشاعر في هذه الدالية المفضلية البديعة كيف أن الموت ينتظره و يتربص به ، في آخر المطاف ، ثم يَضرب المثل بالسابقين ، الذين لَقوا المصير نفسَه : جَرَت الرياحُ على مكان ديارهمْ فكأنما كانوا على ميعادِ ثم إنه يَذكر شبابَه و أيامَ اللهو والشرب و يصف القيان و كيف يمشين بالأرفاد (أي بالأقداح الكبيرة) فيقول: والبيض تمشي كالبدور و كالدمى ونواعمٌ يمشينَ بالأرفادِ فتأمل معي - صديقي العزيز - في الختام، كيف يُشبّه الشاعرُ النساءَ بالدمى، أي بالصور المنقوشة في الرخام ! من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط صديقي العزيز، (أصحاب القصيدة الواحدة ) موضوع طريف و لذيذ في الوقت نفسه . و قد اشتهر هؤلاء الشعراء بقصيدة واحدة أساساً ، لكنّ هذا لا يعني أنهم لم يقولوا شعرا آخر. فلصاحبك الأسود بن يعْفر مفضلية أخرى ، هي المفضلية 125 ، لكنها لا تصل في شعريتها و فكرها و روحها إلى الدالية التي اشتهرَ بها . و أحبّ أن أقفَ قليلاً عند البيت الذي وقفتَ عنده و هو قوله : ولقدْ علمتُ سوى الذي نبَّأتِني أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ و أنا أتفق معك في الشرح الذي اخترتَه لذي الأعواد . لكني أحب أنْ أشركك معي في تأمل شرح آخر . إذْ يُورد الأنباري - شارحُ المفضليات - عن أبي عُبَيدة أنّ «ذا الأعواد» هو جدُّ أكثم بن صيفي . وقد كان معمرا. و كان من أعزّ أهل زمانه ، فاتُّخذتْ له قبة على سرير ، فلم يكنْ خائف يأتيها إلا أمِن و لا ذليل إلا عَزَّ و لا جائع إلا شَبع . فيقول الشاعر :» لو أغفلَ الموتُ أحداً لأغْفلَ ذا الأعواد .» لا يهمني هذا الشرح - و هو فيما أعتقد مصنوع - و لكن ما يهمني هو ظاهرة غريبة في التراث الأدبي العربي . فلا يكاد يوجَد اسمٌ غريب و لا مَثل و لا كلمة أو عبارة غامضة إلا خلقوا لها قصة تفسرها! أيّ خيال مُحَلّق خلاق هذا ! و أين منه خيالنا الحديث الكسيح ؟ لقد كانت الحياة سهلة مع هذا الخيال . ما إن يجد العربي مشكلة مع شيء صعب أو غامض أو معقد حتى يخلق له قصة تُفَسّره فيرتاح . و قد يكون للعبارة الواحدة تفاسير متعددة و قصص و تأويلات يرتاحون لها جميعا . و ما إن اتصلوا بالإغريق و بالعقل الإغريقي الذي يطلب الحقيقة حتى بدأ العرب يتعسون . ذلك أن طريق العقل لا تصل . و لنعد إلى أصحاب القصيدة الواحدة ، أو « الواحديين «، بتعبيرك الجميل . فأنا أحب منَ « الواحدات « قصائدَ رائعة ، منها عينية ابن زريق البغدادي الشهيرة : لا تعْذليه فإن العذْل يُولعهُ قد قلتِ حقاً و لكنْ ليس يَسمعهُ و منها عينية سويد بن أبي كاهل اليشكري : بسطتْ رابعة ُ الحبلَ لنا فوصَلْنا الحبلَ منها ما اتَّسَعْ و هي عين من عيون الشعر الخالدة ، و تتطلب مجالا خاصا للحديث. و منها « اليتيمة «، تلك القصيدة التي نسجوا حولها و حول قائلها الحكايات و الأساطير . و مطلعها هو : هلْ بالطلول لسائلٍ رَدُّ أمْ هلْ لها بتكَلّمٍْ عَهْدُ ؟ سلام على الواحدات و الواحديين .