إنّنا أمام علامةٍ فارقةٍ في الثقافة والفكر العربِيَيْن، وهذا بائنٌ في مُنْجَزه المتعدد. مُنْجَزٌ فكريٌّ، وآخرُ مُسائِلٌ للراهن العربي والعالمي، وآخرُ أدبيٌّ وإبداعيٌّ. فالنظر إلى هذه الأبعاد الثلاثة يلزم من متتبعه قراءة 46 كتابا إلى حدود الآن، والبقية قادمةٌ لا محالة. لذا حاولنا التحاور معه في هذه المجالات، إلا أننا حصرنا الحوار الأول في البُعد الأخير من مُنجزه، عسانا نُتابع الحوار معه في السنة القادمة، وكل ذلك من أجل تقريبٍ عامٍّ لهذه الشخصية المائزةِ في ثقافتنا المغربية والعربية للقراء. لقد حاولنا خلال سِتِّ لقاءات على مَدَى شهرين الحوار معه انطلاقاً من أسئلةٍ حول الكتابة الروائية، وحول الحرب في لبنان، والأفق السحري في نصيه «رائحة المكان» و«ليليات»، إضافةً إلى النوافذ التي فتحها لنا على ضفاف شخصيته، والظلال التي تحيط بها من قبيل الشعر، الغناء، الموسيقى، بيروت، وعلاقته بشخصيات سياسية وفكريةٍ تواصل معها بطريقة أو أخرى... وبالجملة فإن الإنصاتَ إلى عبد الإله بلقزيز يرفعك إلى مساءلة الجوانية فِيكَ/فينا: كما لو كان الإنصاتُ إليه يحملك إلى آخَرِكَ. هنا تكمن المتعة الفائقة، تستدرجك نحو عوالمَ أرحبَ، تكون فيها الكتابة التزاماً إن لم نقل الشرط الوجودي للكائن. لكن كيف ورطناه في هذا الحوار؟ علماً أنَّه لم يعطِ أيَّ حوار منذ ما يزيد عن عشرين سنةً باستثناء ما قدَّمته القنوات العربية كالمنار، والميادين.. لا أقول إنِّي كنت محظوظاً في تهريبِ صرامَتِه العلميّة إلى القراء. بل أقول له شكراً لأنّه فتح لنا نوافذه، مثلما أشكر الصديق محمد رزيق الذي ساعدني في تفريغ هذا الحوار. o أنت تعرف أكثر منّا مرسيل، مستشفيات عدة في جنوب لبنان وفي صيدا أيضا كان وراء تمويل إنشائها وفي فلسطين أيضاً، دون أن يتكلم عنها إلا في ما بعد، هنا تظهر القيمة المائزة ليس للمغني وللفنان وإنما للإنسان؟ n طبعاً مرسيل قدم حفلات غنائية بالعشرات في لبنان ريعها كان يذهب رأسا للمؤسسات الخيرية: استشفائية، مدارس للمخيمات الفلسطينية إلخ. وهو كان يدرك تماماً أن هذا الشعب (الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني) الذي يحبه ينبغي أن يبادله الحب بطريقة أخرى. ليس أن يقدم له الأغنية التي يريد؛ الأغنية البديلة والأغنية الجديدة، وإنما أن يقدم له، أيضا، ما يستطيع به أن يسد بعض أوده. مرسيل يقول: فلسطين لها دين كبير علي، إذا أنا ساهمت في بناء مستشفى في رام الله أو معهد موسيقي في رام الله لن أقدم واحداً بالمائة مما يقدمه لي الشعب الفلسطيني. مرسيل حينما يغني في إربد أو في الزرقاء أو في عمان أو مهرجان جرش، عشرات الآلاف من الفلسطينيين يأتون من فلسطين 48، ومن الضفة الغربية ليحضروا حفلاته، ويعودون براً عبر الحافلات والسيارات وغيرها. وهو ما يقع في لبنان نفسه؛ نصف جمهوره تجده من المخيمات؛ من مخيمات «نهر البارد» و»البداوي»، والميّة وميّة»، و»شاتيلا»، و»برج البراجنة»، و»عين الحلوة»، و»برج الشمالي»...الخ، ناهيك بمخيم «اليرموك» في سورية. كان يتدفق منها الآلاف لحضور حفلات مرسيل خليفة لأنهم يعرفون أن هذا الرجل كرس فنه لقضية فلسطين. حفلات مرسيل دخلها جيد. طيب لماذا لا يوفر قسماً من هذا الدخل لخدمة الشعب الذي أحَبّه؟ هذا هو الفارق بينه وبين الآخرين بين الذين يسمّونهم فنانين ومغنين ?وما هم بفنانين ولكن شُبِّهَ لهم - ويجمعون الأموال من كل حدب وصوب ويبنون القصور هنا وهناك، من دون أن يكونوا قدّموا شيئاً غير الزعيق المُقرِف والتفاهات، وبين شخص يعرف أن هذا المال له وظيفة سياسية واجتماعية وإنسانية وليس مالاً خاصاً بصاحبه الذي يحصل عليه. وأكثر من ذلك هو يحصل عليه من وراء قضية فلسطين وقضايا الأمة فلماذا لا يهبه لهذه الفلسطين؟ o أستاذ ماذا حصل في أكادير مع الشبيبة الاتحادية سنة 94 في حفلة مرسيل خليفة، هل كانت هناك سرقة؟ n لا ليس سرقة. الذي حصل أن الشبيبة الاتحادية حينما طلبوا مني أن أقنع مرسيل بالمجيء واتصلت به، وطلبت منه أن يأتي، أوعزت لشخص قريب من أحد أعضاء الشبيبة بأن يكون هو متعهد هذه الحفلات لأن الشبيبة ليست جمعية ذات نفْعٍ عام في القانون. فهذا الشخص هو الذي سرق الشبيبة الاتحادية ولم يرد أن يقدم لمرسيل وللأوركيسترا حقوقهم من الحفلات الخمس التي رافقته فيها (طنجة، فاس، الرباط، الدار البيضاء، أغادير). واختفى المتعهّد، وكنا في ذلك الحين نتندّر حين نسهر بأن الليلة «ليلة القبض على فلان». كان قد مر وقت قصير على المسلسل المصري الرائع الذي كتبته السيدة سكينة فؤاد التي أصبحت في ما بعد مستشارا للرئيس عدلي منصور - وهي سيناريست شهيرة كبيرة- وعنوانه «ليلة القبض على فاطمة». الجميع كان يبحث عنه فاختفى في آخر حفلة كانت في الدار البيضاء، وأصبح البحث مفتوحاً عنه وشارك فيه الجميع من الشبيبة الاتحادية. وقتها كان الأخ محمد الساسي هو الكاتب العام للشبيبة الاتحادية. ولكن الجميل في الأمر أن مرسيل رفض حتى أن يكتب في الصحف أنه وقع نصب عليه. o هل سيستقر في طنجة حقاً؟ n سيشرف مرسيل خليفة، من الآن فصاعداً، على معهد موسيقي في طنجة أُسِّسَ حديثاً. وهو أكبر معهد في القارة الإفريقية كلها بمعنى أنه قد يكون أكبر من معاهد مصر أيضاً. سيشرف على هذا المعهد الذي سيكوِّن أطرا موسيقية وسينهض بدورٍ في التنشيط الموسيقي خلال المهرجانات العالمية للموسيقا إلخ. وحسنا فعلت السلطات المحلية في طنجة، مع وزارة الثقافة، حينما اختارت مرسيل خليفة مديرا لهذا المعهد، علماً أنه كان قد أسس الأوركسترا السمفونية في قطر (في الدوحة)، وهي مؤلفة من حوالي مائتي عازف من خيرة العازفين في العالم أجروا مباريات. وبعضهم كانوا عازفين كباراً ومن أوركسترات عالمية، فانتقى منهم مائتين من بينهم حوالي خمسة عشر عازفاً من العالم العربي خاصة من سوريا ومن لبنان وفلسطين ومصر. وحينما عرضت عليه فكرة أن يدير معهداً موسيقياً في طنجة ارتأى أن يضحي بالأوركسترا العالمية في قطر ورأى أن يقيم في طنجة، وسيبدأ في العام القادم على ما قال لي. o جورج حبش؟ n جورج حبش يقال في حقه ما يقال في الكبار، في عالمنا المعاصر من قادة الحركات الوطنية وحركات التحرر الوطني. لجورج حبش بصمة قوية في تاريخ الحركة القومية العربية والحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدأ يتلقى دروسه في الجامعة في بيروت في أواخر الأربعينيات ويستقبل فكرة القومية كما بلورها قسطنطين زريق، في ذلك الحين، مروراً بتأسيسه «حركة القوميين العرب»، في مطالع الخمسينيات، برفقة بعض رفاقه مثل وديع حمداد وأحمد الخطيب وهاني الهندي. وهي حركة ذات شأن في التاريخ السياسي العربي الحديث. هي الفرع الثالث من فروع الحركة القومية العربية إلى جانب الناصرية و»حزب البعث». لكن «حركة القوميين العرب» تميزت بأمور عدة منها؛ أولها أنها لم تكن حركة سياسية في السلطة، كما كان الأمر في مصر وفي العراق وفي سورية؛ كانت حركة شعبية. ثانياً كان تأثيرها أفقياً بحيث استطاعت أن تتغلغل في كثير من الأقطار العربية، وأقامت لها فروعاً. ولم يكن ينقص جورج حبش الرأسمال الكاريزمي الذي كان لجمال عبد الناصر أو لميشيل عفلق في الحركتين القوميتين الأخريين. وظل جورج حبش متمسكاً بهذا الخط العروبي حتى حينما بدأ يكرس جهداً كبيراً لقضية فلسطين في الستينيات. كان من الذين ساهموا في إحداث الانعطافة الفكرية والسياسية ل»حركة القوميين العرب»، في بدايات الستينيات، حين التحمت بالناصرية. طبعاً لا أغمط الآخرين حقهم؛ هاني الهندي، محسن إبراهيم، نايف حواتمة...هؤلاء كلهم كانوا من ذلك الرعيل الأول الذي أخذ «حركة القوميين العرب» نحو الخيارات الناصرية في بدايات الستينيات. ولكن بعد أن حصلت الهزيمة في عام 1967 ارتكبت «حركة القوميين العرب»، بمن فيها جورج حبش، خطأً فادحاً بحل الحركة، وبالسماح للفروع بتأسيس تنظيمات مستقلة. هكذا نشأت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في الفرع الفلسطيني من الحركة، ونشأت «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» في لبنان، و»الجبهة القومية في اليمن» إلخ. هذا الانتقال الدراماتيكي من الحيز العربي القومي إلى الحيز القطري الفلسطيني كانت له عقابيل وخيمة ليس فقط على الحركة القومية العربية، بل أيضاً حتى على الحركات الوطنية بالوطن العربي، وخاصة إذا نحن أخذنا بالحسبان أن الفرع الفلسطيني الذي التأم في إطار «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» هو نفسه سوف يصبح عرضة للانشقاق أو لانشقاقات جديدة حيث سيقود الجناح الراديكالي بقيادة نايف حواتمة وأبو ليلى وآخرين انشقاقاً قاد إلى تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» في العام 1969. هذا زاد من تشظية وتذرير الساحة الفلسطينية، وإنجاب تنظيمات كان بعضها أشبه ما يكون بالدكاكين السياسية. وأحسب أن جورج حبش أدرك هذا الخطأ في ما بعد، وأنا سمعت منه شخصياً، في بيته في دمشق - حيث كنت أزوره باستمرار كلما زرت دمشق - ما يفيد أنه أخطأ في قرار حل «حركة القوميين العرب». وبعد أن قدم استقالته من الأمانة العامة للجبهة الشعبية في نهاية القرن الماضي، كنت في بيته وكان الحديث يجري حول الوضع في المنطقة وفي الساحة الفلسطينية فأخبرني، بحضور زوجته السيدة هيلدا حبش، بأنه يعتزم إصدار بيان لدعم المقاومة في لبنان، فسألته مازحاً بماذا ستوقع هذا البيان؟ فقد استقال من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقال: سأوقع باسم جورج حبش، فقلت له لماذا لا توقعه باسم جورج حبش مؤسس «حركة القوميين العرب». ابتسم ولم يقل شيئاً، لكنني فوجت أنه في كل التصريحات والبيانات، التي كان يصدرها. كان يوقع بهذه الصفة. جورج حبش مَثَّل مدرسةً في الثورة الفلسطينية، قطعاً كانت ثمة حاجة إليها، هي مدرسة المبدئية الثورية. لم يكن مستعداً لا سياسياً ولا فكرياً ولا نفسياً أن يتخلى قيد أنملة عن أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، ولذلك ناهض التسوية، وناهض الواقعية السياسية وخاصة بعد حرب أكتوبر 73 والتئام المجلس الوطني الفلسطيني وإصداره البرنامج المرحلي للثورة الفلسطينية الذي أعلن فيه عن خطته لبناء السلطة الفلسطينية على أي شبر يحرر من التراب. وهي الأطروحة التي سوف تقوم عليها فكرة الدولة الفلسطينة في حدود الرابع من حزيران (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية) باعتبارها، في ذلك الحين، الامكانية المتاحة أمام الشعب الفلسطيني لتحقيق جزء من حقوقه الوطنية. جورج حبش ناهض هذه الصيغة وظل متمسكاً بالتحرير الكامل لأرض فلسطين. أنا شخصياً مع مثل هذا التمسك، ولكنني في الوقت عينه أدرك تماماً أن الساحة الفلسطينية في مرحلة الجنوح للتنازلات المطلوبة منها من الأعداء كما من الحلفاء (من الاتحاد السوفياتي، من النظام الرسمي العربي) وخاصة أن تعترف بالقرارين 242 و338 الصادرين في أعقاب حرب 5 حزيران 1967 (واللذين يطالبان إسرائيل بالجلاء عن الأراضي المحتلة في حرب 5 يونيو سنة 67) كانت تغامر بأن تأخذها الواقعية السياسيىة إلى ضفاف أخرى. وحين تبلورت فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، تبلورت على أساس أن تكون المساحة الجغرافية للدولة هي الأراضي المحتلة سنة 67. جورج حبش كان يقول هذا تنازل وتفريط في حق الوطن، ولا يجوز لأي أن يفرط فيه. وكان يقول نحن حملنا السلاح لتحرير أرضنا حتى قبل أن تُحتَل الضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس. وهذا صحيح، الثورة بدأت في 1 يناير سنة 1965. إذن على علمي أنهذه الاستراتيجية لم يكن لها إمكان تاريخي واقعي، إلا أنني أدركت، مبكراً، ثم أدرك الآن أنها كانت ضرورية. لذلك ظل محترماً، وظل موقفه، حتى من طرف خصوم جورج حبش والجبهة الشعبية، محط تقدير من ياسر عرفات ومن الآخرين. وها نحن اليوم أمام المآلات التي أوصلتنا إليها التسوية والذي عرف في ذلك الحين باسم الواقعية السياسية. اليوم تتعالى الأصوات من داخل الساحة الوطنية الفلسطينية مطالبة بانهاء وهم الدولتين؛ لأن في عبارة الدولتين تفريطاً بحق الشعب الفلسطيني. مازال صوت جورج حبش حياً بيننا؛ كلما تقدمنا وكلما أمعنا في أخطائنا سمعنا هذا الصوت؛ صوت الحكمة في مقاربة مسألة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي اختزل بكل أسف في عبارة واحدة حق تقرير المصير بإقامة دولة مستقلة لأن حق تقرير المصير هو في تحرير الوطن بكامله. جورج حبش بمقدار ما هو رجل مبدئي وثوري واستراتيجي وصلب، في خياراته السياسية، بمقدار ما هو وديع جداً وفطري جدا وبسيط جداً. وكما يقال رجل يدخل إلى القلب بسرعة؛ عاطفي حنون. زرته بعد استشهاد القائد ياسر عرفات في بيته في دمشق، وعزيته في وفاة ياسر عرفات، ففوجئت به يجهش بكاءً ما إن عبرت عن مشاعر المواساة في فقدان القائد أبو عمار. هذا هو جورج حبش؛ كما قلت مدرسة في النظافة والنقاوة. لم يتنازل طيلة حياته وإلى أن رحل، قيد أنملة، عن إيمانه بفكرة وحدة الأمة العربية وحق الشعب الفلسطيني الثابت وغير القابل للتفويت في أرضه، كلِّ أرضه من النهر إلى البحر. ولذلك لم يدخل يوماً في تسوية ولا في مساومة على ما يعتبر أنه غير قابل لأي مساومة. إلى ذلك فجورج حبش بكريزماه كان أستاذا لحركات ثورية في العالم بأكمله من اليابان إلى فينزويلا. ومعروف لدى الجميع أن أغلب حركات التحرر في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا وآسيا تلقَّى مقاتلوها التدريب في معسكرات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وهذا بقدر ما كان يحرج قيادات منظمة التحرير مع بعض الدول، التي يتدرب مقاتلوها في معسكرات الجبهة الشعبية، بمقدار ما كان جورج حبش يغطي هذا الحق لأنه يعتبر نفسه مناضلاً فلسطينياً ومناضلاً عربياً وأمميّاً، وأن قضيته هي قضية شعبٍ وأمةٍ وشعوبٍ في العالم في مواجهة الإمبريالية والصهيونية وكل الرجعيات. ولذلك ظل اسم جورج حبش كبيراً إلى درجة أن كارلوس حينما اعتقل، وهو أحد تلامذة جورج حبش وتلامذة وديع حداد رحمهما الله، ودخل في إضراب عن الطعام في محبسه الباريسي جرب محاموه والأطباء بكل الطرق لكي يفك إضرابه عن الطعام ورفض، وروى جاك فيرجيس، المحامي الفرنسي الشهير وصديق الثورة الجزائرية وصهرها، أنه ما إن أبلغ كارلوس في سجنه أنه ينقل إليه رغبة جورج حبش في أن يفك إضرابه عن الطعام، لأن موته خسارة للثورة وانتصار للإمبرياليين، حتى فك إضرابه فوراً. هذا يُطلعك على مدى المكانة الاعتبارية التي يحتلها هذا الرجل العظيم الكبير في تاريخنا لدى سائر الثوريين في العالم. س:عبد الله إبراهيم؟ ج: عبد الله إبراهيم، كما نعلم جميعاً، أحد قادة الحركة الوطنية في المغرب. بل إن أدواره القيادية بدأت تفصح عن نفسها مبكراً وهو في ريعان شبابه منذ أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين. عبد الله إبراهيم من مواليد سنة 1918، لكنه في سنة 1936، وحينما كان في الثامنة عشرة من عمره، كان معروفاً كقائد في البلاد، ولكنه أيضاً كان معروفا ككاتب وكمثقف كبير. ولعب أدواراً خاصة في مناطق الجنوب (مراكش والنواحي) في تنظيم الخلايا الأولى ل»كتلة العمل الوطني»، التي تأسست في أعقاب تقديم وثيقة تاريخية هي مطالب الشعب المغربي سنة 34، كما لعب أدواراً بعد الانقسام الذي حصل داخل «كتلة العمل الوطني» بين تيار علال الفاسي وتيار محمد بلحسن الوزاني، في إطار «الحزب الوطني» وكان من قادته رغم أنه كان صغيراً في السن. وطبعاً بعد أن قدمت عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير سنة 44، كان عبد الله إبراهيم من موقعيها. لعبد الله إبراهيم فضائل كثيرة كشفت عن نفسها مبكراً: القدرة العالية على التنظيم والتأطير وهذا ما يعترف له به تلامذته أمثال الفقيه البصري، محمد بن سعيد، مولاي عبد السلام الجبلي، محمد الحبيب الفرقاني الذين كانوا، باستمرار، يتحدثون عن كفاءته في تأطير الشباب وإدخالهم إلى الحركة الوطنية، وطبعاً في حكمته. هو رجل دولة، في المقام الأول، تبين ذلك حينما أصبح رئيسا للحكومة. وأستطيع أن أقول إن الحركة الوطنية أنتجت رجلي دولة من الطراز الكبير عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، وهما لا يُضاهَيَان. إلى جانب هذه الكفاءة وهذا الاقتدار في التأطير والتنظيم والقيادة إلخ، كان مفكراً. والحركة الوطنية المغربية أنجبت ثلاثة من كبار المفكرين: علال الفاسي وعبد الله إبراهيم ومحمد بلحسن الوزاني؛ ولهؤلاء إنتاج فكري حقيقي؛ لمحمد بلحسن الوزاني أكثر من خمسين كتاباً، لا أدري إذا كان هذا معروفاً لدى الجميع. وعلال الفاسي، وما أدراك ما علال الفاسي باجتهاده وتأصيله وانفتاحه على الثقافة الحديثة واستدخالها في منظومة الإسلام، وكتبه في هذا المضمار معروفة خاصة كتاباه «النقد الذاتي» و»مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها» ناهيك بكتابات سياسية لا يمكن للمرء أن يتجاهلها في تاريخ الفكر وتاريخ الثقافة في المغرب مثل «حفريات في المسألة الدستورية» أو «الحركات الاستقلالية في المغرب العربي». الأمر نفسه بالنسبة إلى عبد الله إبراهيم؛ كتب في التاريخ نصاً تركيبياً لافتاً ومميزاً عنوانه «صمود وسط الإعصار»، وهو كتاب حاول فيه أن يفكر في تاريخ المغرب السياسي منذ العهد الفينيقي فالروماني فالعربي الإسلامي وليس المغرب الأقصى فقط، وإنما المغرب العربي بكامله. وهو نص مذهل في قيمته العلمية وطبعاً له كتب كثيرة مثل «أوراق من ساحة النضال» وفيه نصوصه السياسية، وكتاب آخر حول «الإسلام في آفاق سنة 2000». كتب كلها كانت مثيرة، لكن أكثر الكتب إثارة بالنسبة إليّ أنا شخصياً، وقد فاجأني الكتاب وفاجأني أن يكتبه عبد الله إبراهيم، وهو على أعتاب الثمانين كتاب في الأدب والنقد عنوانه «بالذكاء وقوة الكلمة»؛ وفيه يقوم عبد الله إبراهيم بسياحة في تاريخ نظريات النقد عند العرب وفي مدارس النقد الحديث. وفعلاً هو كتاب مثير لأن هذا رئيس حكومة وزعيم وقائد سياسي. قد نفهم أن يكتب في السياسة، ولكن أن ينشغل بالجماليات وفي النقد الأدبي فهذا يعني أننا أمام رجل من طراز فريد. جمعتني به علاقة وطيدة، وكنت ألتقيه بانتظام، وأهديت له كتاباً من كتبي «الخطاب الإصلاحي في المغرب». وكنا نتناقش باستمرار في قضايا عديدة، ومرة كتب نصاً فقدته في حوالي ثلاثين صفحة يناقشني في كتاب «إشكالية الوحدة العربية» من موقع وحدوي. كنت قد أهديت إليه نسخة منه في بداية التسعينيات. وقد ضاعت مني الرسالة التي بعث لي بها مع الصديق المناضل عبد الفتاح اليعقوبي. وفي هذه العلاقة الممتدة بيني وبين عبد الله إبراهيم، لم أنحز إليه سياسيا ضد عبد الرحيم بوعبيد، ولم أنحز إلى عبد الرحيم بوعبيد سياسياً ضد عبد الله إبراهيم. كنت أعتبر أن ما حصل في صيف سنة 1972 كان حادثة سير مؤسفة، وكان يمكن للحزب أن يبقى ملتئماً دونما حاجة إلى انشقاق لو أن عبد الله إبراهيم فك ارتباطه بالمرحوم المحجوب بن الصديق. لكن عبد الله إبراهيم ظل، من أسفٍ شديد، يغطي الجناح النقابي داخل «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، الأمر الذي حدا بالمرحوم عبد الرحيم بوعبيد والمرحوم عمر بنجلون وآخرين إلى الذهاب إلى تأسيس حزب جديد هو «الاتحاد الاشتراكي». وأحسب أن عبد الله إبراهيم أدرك هذا في نهاية عمره حينما أصدر بياناً يؤيد فيه الاضراب المشترك بين «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» و»الاتحاد العام للشغالين» في سنة 90. وكان ذلك بمثابة إعلان طلاق أو قطيعة بينه وبين المرحوم المحجوب بن الصديق. لكن أكثر ما كان يستهويني في لقاءاتي مع عبد الله إبراهيم، وكان يتحدث فيها عن تجربة الحكومة الوطنية سنة 58 59 60 قبل أن يقيلها الملك الراحل محمد الخامس بالتفاصيل، عفّته في الحديث عن رفاقه كما عن خصومه. وأزعم ? مما سمعته منه في عشرات اللقاءات معه في بيته بشارع محمد عبده ? أنّ لدي الكثير مما أقوله يوم يفتح الحديث عن حكومة عبد الله إبراهيم. لكن أكثر ما كانت تشغف به نفسي في لقاءاتي معه هي الحوارات الفكرية الممتعة. أنت مع عبد الله إبراهيم في حضرة رجل تستطيع أن تقول من دون أي تحفظ إنك أمام فيلسوف. عبد الله إبراهيم كتب مبكراً، وهو شاب، في التصوف، في ابن رشد، في ابن عربي، في المدارس الفكرية في الأندلس. وقد جمعت بعض نصوصه وكان ما يزال حياً، أنا والأستاذ محمد سبيلا بمساعدة عبد الله إبراهيم، وبمساعدة الصديق عبد الفتاح اليعقوبي، ونشرناها ضمن «سلسلة الزمن» في كتاب صدر قبل ما يزيد عن عقد ونصف (ربما من عشرين عاما). ونصوص الكتاب ذات طابع فلسفي تتناول العقل، والفكر. ومن يعود إليها يكتشف أنه أمام رجل غير عادٍ، أمام مفكر رصين. وفعلا هو رجل يقنعك بما يكتب وبما يقول. الجلسات مع عبد الله كانت تمتد لساعات؛ قد تجالسه، أحيانا لعشر ساعات أو أكثر من دون أن تشعر أن الرجل، رغم تقدمه في العمر، أصابه تعب. بالعكس حتى عندما تريد أنت مثلا أن تعتذر له عن عدم استطاعتك الاستمرار في الجلوس معه لالتزام ما لديك، يصر عليك أن تبقى، ويستبقيك لساعات أخرى. لم يأخذ هذا الرجل حقه في هذا البلد، وحينما شعر في لحظة من تطور الحياة السياسية بالمغرب أن منظومة القيم السياسية تهترئ وتتفكك وتتمزق، آثَرَ الانسحاب بصمت والاعتكاف في بيته والقراءة والكتابة. عبد الله إبراهيم من علامات عصرنا الحديث وكتبت بعد وفاته في سنة 2005 نصاً مطولاً عنه نُشر بجريدة «السفير» اللبنانية (كنت أثناء وفاته ? في غشت 2005 ? في لبنان)، وأعيد نشره بجريدة «الاتحاد الاشتراكي». أنا سعيد بأنني عشت في عصر عبد الله إبراهيم، كما أنا سعيد بأنني عشت في عصر ياسر عرفات وجورج حبش وعبد الرحيم بوعبيد. هاته المنارات الكبيرة نفتقدها اليوم، وبافتقادها تدلهم الآفاق لأنها كانت بوصلة حقيقية تطمئن إلى سلامة اختياراتها. عبد الله إبراهيم من هذه الطينة. س: عمر بنجلون؟ ج: الشهيد عمر بنجلون أعرفه كما يعرفه أي مغربي عاش في حقبة السبعينيات. لم تكن لي به علاقة مباشرة. كنت أقرأ ما يكتبه، وحضرت محاضرة له وقبل انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي، وأعجبت به إعجاباً شديداً، وظلت صورته في ذاكرتي صورة عقل متقد، ورجل يقظ، ومفكر كبير. وقد فعل «الاتحاد الاشتراكي» خيراً حينما نشر بعد رحيله مجموعة من كتاباته في كراسة كبيرة حفظت هذا التراث. طبعاً لم يُنشرفيه كل شيء. وعمر بنجلون يكفيه أنه كتب «المذكرة التنظيمية»، وما أدراك ما المذكرة التنظيمية، وأنا أقول باستمرار إنّ هذا النص (المذكرة التنظيمية) هو ثاني أرفع نص في تاريخ الفكر السياسي في مسألة التنظيم بعد ما العمل؟ للينين. ويكفيك أنه كتب «التقرير الإيديولوجي» الذي شاركه آخرون تحريره. لكنه هو الذي وضع الهندسة النظرية والسياسية للتقرير، وحرر أجزاء كثيرة منه، وهو صاحب الدراسة اللامعة والاستثنائية عن القضية الفلسطينية في مجلة «أنفاس» بالفرنسية (سنة 69)، مغربي فلسطيني عربي أممي من الطراز الفريد؛ جمع ما تفرق في البلد؛ جمع الفكر إلى السياسة والسياسة إلى الفكر. قليلون هم أولئك الذين يستطيعون أن يبنُواْ هذا القِرَان بين النظرية والممارسة. في الجيل الذي قبله كان علال الفاسي وعبد الله إبراهيم ومحمد بلحسن الوزاني. في الجيل الثاني للحركة الوطنية رمز واحد ووحيد اسمه عمر بنجلون. كان إلى حد ما أشخاص آخرون المرحوم عزيز بلال في «الحزب الشيوعي» و»حزب التحرر والاشتراكية» و»حزب التقدم والاشتراكية». في اليسار الماركسي اللينيني (الجيل الثالث) محمد الحبيب طالب. هؤلاء يشبهون عمر بنجلون في هذا الجمع ما بين الفكر والعمل السياسي. وهذا نادر لأنه، كما قلت قبل قليل، جمع هؤلاء ما تفرق في البلد. ماذا نجد في البلد؟ إما شخص لا يعرف إلا الفكر أو شخص لا يعرف إلا السياسة ولا يجمع بينهما. لو قيض لعمر بنجلون أن يعيش لما شهدت الحركة التقدمية في المغرب ذلك التشرذم الذي شهدته في السنوات الماضية في السبعينيات، ولا انتهت إلى هذه المآلات الدراماتيكية المأساوية التي آلت إليها اليوم.كان سيكون للسياسة طعم آخر لو كُتِب لعمر بنجلون أن يقود الحركة التقدمية. عمر بنجلون ليس مجرد قارئ، وإنما كان منارة؛ كان رمزاً للجميع. هكذا عرفته في كتاباته، وهكذا عرفته في تاريخه السياسي، ولم تكن لدي به علاقة شخصية حيث كنتُ بالكاد أغادر مرحلة المراهقة حين استُشهد. ولكن كنت أعتبر نفسي واحداً من تلامذته في العمل السياسي حينما كنت أمارس السياسة، أو أزعُم أني أمارسها. س: لهذا تم اغتياله ج: طبعاً تغييب عمر بنجلون كان مطلوباً لإعادة هندسة الحقل السياسي بالمغرب. س: عبد الرحيم بوعبيد؟ ج: ما قلته عن عبد الله إبراهيم في كاريزماه، وشخصيته القيادية، وسُموِّه في ممارسة السياسة، وفي طابعه كرجل دولة من الطراز الكبير، أقوله في عبد الرحيم بوعبيد. لعبد الرحيم بوعبيد كاريزما خاصة، وكل الذين اشتغلوا مع عبد الرحيم بوعبيد يدركون تماماً أن الرجل كان دائماً مصيباً في اختياراته. يختلفون معه ثم يمر الزمن فيكتشفون أنه كان على حق. نظافة الكف، وهذا يقال عن عبد الله إبراهيم وعن علال الفاسي أيضاً، والمبدئية المقترنة بالواقعية، ثم الحزم والصرامة في إدارة الشؤون العامة في الحزب أو الدولة، والهيبة التي تجعل الآخرين يحسبون حساباً لمواقفه..؛ هذه كلها من سجاياه. ونعرف كثيرين داخل الحزب كانوا يتحرجون في إبداء رأي معارض في حضرة عبد الرحيم بوعبيد ليس خوفاً، وإنما إجلالاً لرجل لا يمكنك أن تجادله. وكثير منهم كان يقول لي من حسن الحظ أننا لم نُبْدِ ذلك الموقف في حينه، لأن موقف عبد الرحيم كان هو الصحيح أثبتت الأحداث ذلك. لم يقطع عبد الرحيم بوعبيد مع أحد؛ ظل رجلاً منفتحاً على الجميع حتى الذين يتمردون عليه. يكفيك أنه، بحكم مهنته كمحامٍ، كرس نفسه للدفاع عن المعتقلين السياسيين لليسار، وطوى كل ما كان من جدل بين الحزب وبين هذا اليسار الذي انشق عنه وعن حزب المرحوم علي يعته. وفي المواقف الحرجة في البلاد، وخاصة في الفترات التي كان فيها قدر كبير من الغلظة ومن الشطط في استعمال السلطة، كان عبد الحيم بوعبيد يقول الرأي بشجاعة لا مثيل لها، حيث لا يستطيع غيره أن يقول ما يقول. الوحيد الذي جَرُؤَ، في مناسبات مفصلية في تاريخ المغرب، أن يقول كلاماً يعرف جيداً أن النظام لن يرضى به. كان يقولها بشجاعة ومن دون أن تنتفخ أوداجه، أو أن يَتَبَذَّأَ في الألفاظ. حينما كان يرسل رسالة كان يعرف من يهمه الأمر أن هذا خط أحمر. ثم إن عبد الرحيم بوعبيد أبدى حُنْكَةً واقتداراً استثنائيين في إدارة مؤسسة حزبية تعج بالتناقضات مثل «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، ويكفيه فخراً أنه الوحيد الذي صان وحدة الحزب إلى أن رحل، ويكفيه أنه كرس تقليداً في تاريخ «الاتحاد الاشتراكي» لم يعد محترماً، هو أن لا أحد يُطرد من «الاتحاد الاشتراكي» حتى وإن حمل السلاح وخرج عن خط الحزب السياسي. لا أحد يطرد ? إلاّ إذا شاء هو أن يخرج من الحزب - لأنه لا أحد يملك الوصاية على هذه المؤسسة. كان الاتحاديون بمثابة أبناء له؛ أحد هؤلاء الأبناء متعنف، أحد آخر هادئ، أحد ثالث يتفاهم، أحدهم لا يتفاهم: جميعهم أبناؤه. ولهذا لم يقطع مع أي خيار من الخيارات في السياسة: الضغط الشعبي والتفاهم، الشدّة واللّين. أتيحت لي فرص عدة لأن ألتقي المرحوم عبد الرحيم بوعبيد خاصة في بيته وكان الحديث دائماً مفتوحاً في كل شيء. وكان ينصت، أحياناً يطرح أسئلة قد تجد أنت نفسك في حرج في أن تجيب عنها لأنه يشعرك كما لو أنه يحثك على أن تدُسَّ أنفك في شؤون داخلية لا علاقة لك بها. ولكنه هكذا كان وآخر لقاء كان بيني وبينه قبل وفاته، رحمه الله، في بيته. وكنتُ أنا والصديق العربي مفضال الذي كان مديرَ تحرير جريدة «أنوال». أجرينا معه حواراً نشر في كتابنا «الحركة الوطنية المغربية والمسألة القومية». كان في الكتاب ملحق فيه حوارات: معه ومع المرحوم الفقيه البصري، ومع عبد الكريم غلاب ومع محمد بن سعيد ومع عبد الله إبراهيم إلخ. هذا كان آخر لقاء، وكان مريضاً، حين زرناه، بالزكام. ومع ذلك اتسع صدره للقاء وتحدثنا بتفصيل، وكان أحياناً يطلب عدم تسجيل بعض الفقر لأنها حساسة وهي فعلا حساسة وسمعناها نحن الاثنين منه. وهذا الرجل تكفي جنازته لتشهد له بمن يكون. أنا أحسبها أكبر جنازة في تاريخ المغرب على الاطلاق. ثم هذا رجل ظل محترماً من كل الأجيال؛ من الجيل السابق له من الذين اختلفوا معه في إطار «حزب الاستقلال»، قبل تأسيس «الاتحاد الوطني»، ومحترماً من جيله، ومحترماً من ثلاثة أجيال كان هو أحد مربيها سياسياً. هذا عبد الرحيم بوعبيد كما أراه. س: واعتقاله؟ ج:اعتقاله كان مفاجئاً لي، لأنه ليست المرة الأولى التي سيجهر فيها عبد الرحيم بوعبيد بموقف مناهض لموقف النظام. هذه واحدة، الثانية أن عبد الرحيم كانت تربطه علاقات صداقة بالملك الراحل الحسن الثاني منذ كان ولياً للعهد، وهو يعرفه جيداً ويعرف كفاءته، ويعرف أنه رجل دولة من الطراز الكبير منذ كان وزيرا للمالية ونائب رئيس الحكومة في حكومة عبد الله إبراهيم، ثم ثالثا لأن الدولة المغربية، في ذلك الحين الذي عبر فيه عبد الرحيم بوعبيد عن موقفه في قضية استفتاء تقرير المصير في الصحراء في مؤتمر نيروبي لمنظمة الوحدة الإفريقية، كانت في حاجة إلى مثل موقفه الذي تتقوى به في وجه الضغوط الدولية عليها. نعم، كان يمكن أن يكون موقف عبد الرحيم ورقة في يد الدولة الدولة تقول للعالم أنه حتى اختيارنا لهذا المبدأ مرفوض من طرف المعارضة ومن قبل زعيم المعارضة، بحيث تأخذ هذه الورقة في يدها لتحسين موقعها التفاوضي في قضية الصحراء المغربية. أنا أحسب أن هذا الخطأ، الذي ارتكب في حق عبد الرحيم بوعبيد باعتقاله هو وبعض رفاقه، ونقلهم إلى سجن في ميسور، إنما أتى نتيجة حسابات خاطئة قد يكون لوزير الداخلية الأسبق إدريس البصري دور فيها، لأنه أتي مباشرةً بعد انتفاضة 20 يونيو وما رافقها من تقارير مَهُولة ومخيفة حول الوضع في المغرب. ولكن أحسب أيضاً أنه كان رسالة موجهة إلى فرونسوا ميتران وإلى الاشتراكيين في فرنسا. ولذلك أقول إن اعتقال عبد الرحيم بوعبيد كان خطْأَةً كبيرةً، ومن حسن الحظ أنه أفرج عنه بعد أشهر قليلة ولم يقض فترة طويلة في السجن. ولكن على الأقل سنه كان ينبغي أن تُؤخذ في الحسبان، إن لم يؤخذ في الحسبان مكانته كقائد وطني؛ فهذا رجل من بناة الاستقلال، وقد فاوض، هو والمهدي بن بركة، الاحتلال الفرنسي في مفاوضات إيكس ليبان، وأصرّا على عودة الملك محمد الخامس من المنفى، واستقلال المغرب. وحين كان الفرنسيون مستعدون للمقايضة على العرش رفض عبد الرحيم بوعبيد ذلك، كما رفضه المهدي بن بركة. فلذلك يحز في النفس أن عبد الرحيم بوعبيد تلقى هذا الأذى في مرحلة من تاريخ المغرب وهو الرجل المسالم الذي يقول كلمة الحق وينصح؛ والنصيحة تقليد في تاريخنا الإسلامي كما هو تقليد في السياسات المعاصرة، فالرجالات الكبار دائما يُصْغي إليهم صناع القرار لإنهم يمتلكون من الخبرة والحكمة ما لا تستطيع تقارير مراكز الدراسات أن تقدمه إلى صانع القرار. س: محمد عابد الجابري؟ ج: أستاذ كبير تعلمنا منه جميعاً. رجل نجح في أن يشيِّد مدرسةً في البحث العلمي في مجال التراث، وفضله عليَّ، أنا شخصيا، كبير؛ لأنه نبّهني، منذ وقت مبكر، إلى الحاجة إلى إعادة قراءة الموروث الثقافي والديني في الوقت الذي كنت منصرفاً فيه انصرافاً شبه كلي، خاصة في سنوات السبعينيات إلى الفكر الغربي الحديث وخاصة إلى الفكر الماركسي. ومحمد عابد الجابري رجل عصامي؛ بنى مكانته الفكرية بصبر وتضحيات ودأب وإصرار، ونجح في أن يرسم لنفسه مساراً خاصاً في البحث والدراسة لا يشبه مسارات كثيرين من مجايليه. الجابري أيضاً عُرِف بأنه الباحث أو المفكر الذي اقترنت عنده المعرفة بالالتزام السياسي؛ كان مناضلاً في «الاتحاد الوطني»، ثم في «الاتحاد الاشتراكي»، وفي فترات كان من الصعب على المرء أن يكون فيها مناضلاً في الستينيات وفي فترة كان من الصعب فيها أن يكون المرء كاتباً في جريدة مثل جريدة «التحرير» يجلس في نفس المكتب مع الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي. هكذا كان الجابري واستمر إلى أن قدم استقالته من المكتب السياسي للحزب سنة 80، وانصرف إلى البحث العلمي، ولكنه في كل المناسبات، عشرات المناسبات التي رأيته فيها، كان دائماً يتحدث باعتباره مناضلاً في الحزب. جمع بين الباحث والمناضل والصحفي والتربوي المدرس، ولذلك كانت طريقته في الكتابة تجتمع فيها كل هذه الملامح؛ يكتب الدرس الفلسفي كما لو أنه يكتب المقال الصحفي، الدرس الفلسفي يصل إلى قارئه بتوسط بيداغوجي تربوي؛ كيف يقدم النص، وكيف يرتبه، وكيف يسوق الاقتباسات والاستشهادات ثم يستنتج إلخ. وبمنطق المناضل يريد أن يقنع قارئه برسالته، وهذه طريقة استثنائية لا نجدها عند باحثين آخرين. بعضهم يؤاخذه عليها وبعضهم يحبذها ويستحسنها ويرى إليها بوصفها طريقة ناجعة في مخاطبة جمهور واسع من القراء. لذلك ترى أن جمهور الجابري يبدأ من تلامذة الثانوي حتى النخبة الفكرية. مشروعه الذي طرحه (مشروع نقد العقل العربي) له ما له وعليه ما عليه. أنا لست هنا في معرض الحديث التفصيلي عن هذا المشروع فقد تحدّثتُ فيه في كتابي «نقد التراث»؛ في الفصل المكرس لأعمال محمد عابد الجابري. لكن أستطيع أن أقول إنه المشروع الثاني الوحيد الفكري المتكامل في الثقافة المغربية. المشروع الأول مشروع التاريخانية لعبد الله العروي. لا أستطيع أن أقول إن محمد عزيز الحبابي، الذي هو مؤسِّسٌ للتفكير الفلسفي في المغرب وليس للدرس الفلسفي، فحسب، أنتج مشروعاً فكرياً في الشخصانية بحجم مشروع العروي أو بحجم مشروع الجابري. في النهاية لا تبقى إلا المشاريع الكبرى في التاريخ الثقافي. وحسب الجابري أنه ترك هذا المشروع وترك أسئلة معلقة سوف تستنفر البحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية في السنوات والعقود القادمة. س: وعلي أومليل؟ ج: علي أومليل أيضا أستاذي، درسني في السلك الثالث، وأشرف على بحثي في ديبلوم الدراسات المعمقة. وربطتني به علاقة وطيدة منذ «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» حتى اليوم. علي أومليل مفكر رصين، وأنا أعني ما أقول؛ مفكر رصين لا يسعك إلا أن تعترف بِحُنْكته واقتداره في الكتابة وفي انتقاء الموضوعات التي يكتب فيها وإن لم يكن مُسْهِباً في التأليف. وأعتقد أن هذا الخيار يعيه جيداً، ويعي أنه هو الخيار الوحيد الذي يفتح الطريق أمام النص النوعي التركيبي. علي أومليل مجتهد كبير، ورجل على قدر من الدماثة في الخلق ومن الصرامة في كل ما يتعلق بالبحث العلمي. طَلَبَتُه كانواْ يعرفون هذه الصرامة، ولكن أدركواْ متأخرين أنها خصلة محمودة فيه. ولَعَلِّي أنا واحد ممن تعلموا منه هذه الصرامة في مجال التدريس. علاقتي به، أراه باستمرار هنا في المغرب، وخاصة في العشر سنوات الأخيرة حينما أصبح سفيرا للمغرب في لبنان. نلتقي باستمرار، نتحدث باستمرار، نتبادل الرأي في قضايا الفكر والسياسة وما إلى ذلك. علي أومليل كتب نصين سيظلان مرجعيين في مجاله: «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية» ثم «السلطة الثقافية والسلطة السياسية»، وطبعاً دون أن أنسى في «شرعية الاختلاف» و»التراث والتجاوز». لا يمكن للمرء أن يكتب في تاريخ الفكر المعاصر أو في مسألة الدولة من دون أن يمر بكتابه عن الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، كما لا يمكن أن يكتب في مسألة العلاقة بين المعرفة والسلطة دون أن يمر بكتاب الجدل بين هذين الحدين في الثقافة العربية الإسلامية. علي أومليل كما محمد عابد الجابري علامات كبيرة في التاريخ الثقافي: ليسا في بلدنا فحسب (المغرب) وإنما في الوطن العربي كله. س: فواز طرابلسي؟ ج: فواز طرابلسي رمز لجيلنا نحن اليسار الجديد في الوطن العربي كله، وليس في المغرب، منذ أن أسس هو ولفيف من رفاقه (وضاح شرارة، أحمد بيضون) مجموعة في منتصف الخمسينيات (سنة 65) أسموها «لبنان الاشتراكي». ومجموعة «لبنان الاشتراكي»، التي كانت تضم زبدة النخبة الفكرية في لبنان، في ذلك الحين، هي التي ستأتلف بعد سنوات مع المنظمة الجديدة التي خرجت من الفرع اللبناني لحركة القوميين العرب والتي حملت اسم «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» وكان يقودها محسن إبراهيم ومعه محمد كشلي. توحدت «لبنان الاشتراكي» و»منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» فتشكل منهما حزب هو «منظمة العمل الشيوعي في لبنان». طبعاً فواز طرابلسي، ناهيك عن رمزيته القيادية كأحد رجالات الرعيل الأول لليسار الجديد، مفكر كبير، وأديب كبير، وكاتب من الطراز الأول؛ يكتب بأناقة باذخة، فيها بذخ وفيها مزيج من اللغة الشعرية ومن اللغة النظرية. أنا أحيلك هنا إلى كتابه عن غرنيكا مثلاً، عن لوحة غرنيكا لبيكاسو، والتي يقارن فيها مابين مذبحة قرية في اسبانيا نتيجة القصف الوحشي للفاشية في عهد فرانكو ومذبحة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982. وهو كتب سيرة ذاتية أنا في نظري هي أجمل ما كتب حتى الآن في الثقافة العربية المعاصرة عنوانها «سيرة الفتى بالأحمر»؛ وهي صادرة عن دار الريس في لبنان. ثم ترجم، إلى جانب مؤلفاته، كتباً عدّة منها نصّاً من الإنكليزية إلى العربية، لو كُتِبَ في جماليته باللغة عينِها التي ترجم بها فواز طرابلسي النص. قصدتُ، هنا، كتاب «out of place» (خارج المكان) لإدوارد سعيد. سيرة كتبها المرحوم إدوارد سعيد في أواخر حياته، لا تكاد تضاهيها في القيمة إلا السيرة التي كتبها فواز طرابلسي. فواز، إلى ذلك كله. كان له دور كبير في وضع مجلة «الحرية» التي كانت تصدر بشكل مشترك عن «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وعن «منظمة العمل الشيوعي» في مقام المجلة/المرجع لليسار العربي. لا أقول هو الوحيد؛ محسن إبراهيم أيضاً من الذين منحوا «الحرية» تلك الهالة التي كانت لديها. كنا نتلقف «الحرية» في السبعينيات كما نتلقف قطوف الحقّ والعلم المطلق. لما غادر لبنان سنة أربعة وثمانين، وانتقل إلى باريس لكي يكمل أطروحة الدكتوراه، أسس مجلة اسمها «زوايا» وكان يستكتبني فيها وكنت أكتب مقالات. لكنها لم تُعَمَّر كثيراً: خمسة أعداد ثم أقفلت بسب الضائقة المالية طبعاً. وفي السنوات الأخيرة أعاد الكرة من جديد فأصدر هو وجمع من رفاقه (سليمان تقي الدين وآخرون) مجلة «بدايات». وأحسب أنها أصدرت حتى الآن ستة أعداد. وكتبت فيها في أكثر من مناسبة. لم يتوقف فواز طرابلسي منذ أن اعتزل العمل السياسي في أربعة وثمانين أو خمسة وثمانين عن التأليف والكتابة؛ سواء في مجال التاريخ السياسي، أو في مجال الفكر السياسي، أو في مجال الأدب. وقد صدر له قبل عشر سنوات أو أكثر قليلا كتاب رائع جدا عن التجربة الرحبانية: تجربة السيدة فيروز والأخوين رحباني (صادرة عن دار رياض ريس في بيروت). وفواز صديق حميم وأستاذي أولا. وأنا أعتز بصداقته، وأتحسس غناها وغنى الجلسات الطوال معه كلما التقينا. في الثمانينيات وأوائل التسعينيات كنا نلتقي في باريس كثيراً حينما كان هو مقيماً في باريس. وبعد أن عاد إلى لبنان، في منتصف التسعينيات، بِتْنا نلتقي كلما كنت في بيروت. وما تزال الصلة بيني وبينه وطيدة وحارة، وأنا أعتز بصداقته كما أعتز بمساهمته في الفكر السياسي العربي المعاصر. س: إدوارد سعيد عاشق لذاته وللموسيقا وفي نفس الآن مفكر كبير. ج: إدوارد سعيد من أبرز وأظهر وأميز المفكرين الذين أنتجتهم البشرية في العصر الحديث. كان سلطة معرفية ينحني أمامها الجميع: في الولاياتالمتحدة الأمريكية وفي أوربا وفي الوطن العربي. مفكر عميق وموسوعي رصين، وفلسطيني مبدئي ثوري معاد للصهيونية في عقر دارها، شجاعاً في الجهر بمواقفه وفي نقدها، وفي نقد المؤسسة الأمريكية إلى درجة أن الأمريكيين كانواْ يشعرون وكأن بين ظهرانيهم ثعباناً. وكم من معارك خاض مع هذه الأوكار الصهيونية في الولاياتالمتحدة الأمريكية لكي يكرس الحق الفلسطيني والحق العربي. وحين كتب كتابه عن الاستشراق في بداية السبعينيات سنة 74 (صدر بعد ذلك) أحدث ضجة في كل الفكر العالمي لأنه تجرأ على الخطاب الكولونيالي. طبعاً هو لم ينتق سوى الخطاب الكولونيالي البريطاني والفرنسي وأثار حوله أحقاداً من كل حدب وصوب: داخل الولاياتالمتحدة الأمريكية وفي أوربا. الكتاب كان فعلاً عملاً معرفياً ثورياً بامتياز، هو وكتابه «الثقافة والامبريالية» culture and impertialism. إدوارد سعيد كان يصول ويجول داخل اللغة الإنكليزية، وهو في الأصل أستاذ للآداب الإنكليزية إلى درجة أنه كان معروفاً أن لغة إدوارد سعيد هي المثال الذي يحتذى والذي لا يستطيع أحد أن يجاريه فيها. وفي الوقت نفسه كان يتقن اللغة الفرنسية إتقاناً رفيعاً ويقبل على الآداب الفرنسية الكلاسيكية إقبالاً جيداً. وقد فوجئت حينما أخبرني عن المتن الروائي الذي اطلع عليه باللغة الفرنسية. مواقفه السياسية نعرفها جميعاً؛ مواقف صلبة ومتينة ومبدئية ولا يتنازل فيها، ودفع ثمنها لأنه في اللحظة التي أعلن فيها موقفه الرافض لاتفاق أوسلو اتخذت السلطة قراراً أخرق بمنع كتبه من الأسواق الفلسطينية من التداول! علماً أنه في 15 نوفمبر سنة 1988، بعد شهر على انتفاضة أكتوبر بالجزائر في عهد الرئيس الشاذلي بنجديد، انعقد مجلس وطني فلسطيني جديد في دورته الثامنة عشرة على ما أظن أو التاسعة عشرة التي أعلن فيها عرفات قيام دولة فلسطين. نص إعلان الدولة العربي كتبه محمود درويش. وكان ياسر عرفات قد استقدم إدوارد سعيد من الولاياتالمتحدة الأمريكية لكي يحضر (وهو كان عضواً في المجلس)، أصر عليه أن يحضر فحضر، فإذا به يدخله إلى غرفة، ويقفل عليه ويسلّمه النص لترجمته إلى الإنكليزية. والنص الذي ترجمه إلى الإنكليزية لا يقل بهاءً عن النص العربي. للأسف إدوارد سعيد رحل وهو في ريعان شبابه، وكان يحب المغرب وخاصة طنجة. يقضي معظم مصافاته في طنجة. إلى ذلك فإدوارد سعيد معروف عنه، عدا اهتمامه بالفكر والفلسفة والأدب شغفه بالموسيقا. هو ليس فقط musicologue وإنما أيضاً ممارس للموسيقا؛ حيث يعزف على البيانو ويتنج نصوصاً موسيقية. مرة ألقى درساً في الكوليج دو فرانس بالفرنسية، وحضره جمهور كبير في جملته عددٌ من المفكرين الفرنسيين والألمان. وكان مريضا، وكان الدرس درساً حول الموت لكنه لم يكن درساً فلسفياً حياً، كان درساً حول الموت من مجموعة من النصوص السمفونية. وكان الحاضرون في حالٍ من الانبهار شديدة أمام هذا الجبل الشامخ الذي اسمه إدوارد سعيد. وهو كذلك كان رحمه الله. س: محمد الحبيب طالب؟ ج: محمد الحبيب طالب هذا الصديق العزيز وهذا القائد التاريخي من قادة اليسار أستاذٌ لجيل. رجل جمع مثل سابقيه، عمر بنجلون والمهدي بنبركة وعبد الله إبراهيم، ما بين الممارسة السياسية بالمعنى المبدئي وبين الاقتدار الفكري والشغف بالمعرفة وبالقراءة وبالدرس. أنا أعتقد أنه، بعد عمر بنجلون في المغرب، ليس لدينا شخص نستطيع أن نقول إنه قائد حقيقي جمع بين الفكر والممارسة إلا محمد الحبيب طالب مع فارق أن محمد الحبيب طالب رجل في غاية التواضع ولا يتنطع ولا يبحث عن أي موقع، بل إن مشكلة المنظمة التي أسسها عام 70 («منظمة 23 مارس» والتي أصبحت فيما بعد «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي») ومشكلة المناضلين معه أنه هو القائد التاريخي لليسار لكنه يرفض أن يستلم أي منصب رسمي. دائماً كان في الواجهة الخلفية لا يتنطع ولا يقترح نفسه. الحبيب شهادتي فيه مجروحة لأنه صديق عزيز وأراه باستمرار؛ لا يمر أسبوع من دون أن نلتقي. جئت به إلى هذه الكلية في مناسبتين، وأحسب أن أحدا من الطلبة لم يكن يعرف من هو هذا الرجل الذي بينهم. حتى الآن قليلون هم الذين يقنعونني، في المغرب، حين يكتبون نصاً سياسياً. الطالبي على رأسهم جميعاً؛ ليس هنا في المغرب فقط، بل في الوطن العربي. يكتب نصاً كأنّه يَقْمِش، كأنه ينسج قماشاً، بدقة سياسية متناهية وبلغة تبذخ في الجماليات. وأنا لا أضيف جديداً حينما أقول إن أكثر من خمسين في المائة من وثائق اليسار، التي تعرفها في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حررها محمد الحبيب طالب إن وجدتَ نصاً خشبياً فاعرف أنه ليس بقلم محمد الحبيب طالب. إن وجدتَ نصاً ينضح بالطراوة فاعلم حينها أنه نص لمحمد الحبيب طالب. لكن هذا البلد لا يعترف برجالاته، هذا بلد مجحف وجاحد في حق أبنائه البررة وكفاءاته، ولذلك قَلَّ ما تعرف من هم أولئك الذين، بكل صمت وتواضع، قدموا المساهمات الغنية في تطوير الثقافة أو العمل السياسي أو غيره خاصة حينما لا يكونون من أولئك الذين ابتلاهم الله بنزعة الmarketing كيف يسوّقون أنفسهم. محمد الحبيب طالب واحد من هؤلاء الصموتين الذين يشتغلون من دون ضجيج، ويقدمون ما يمكن أن يُحْسَب في عداد النفائس السياسية.