إنّنا أمام علامةٍ فارقةٍ في الثقافة والفكر العربِيَيْن، وهذا بائنٌ في مُنْجَزه المتعدد. مُنْجَزٌ فكريٌّ، وآخرُ مُسائِلٌ للراهن العربي والعالمي، وآخرُ أدبيٌّ وإبداعيٌّ. فالنظر إلى هذه الأبعاد الثلاثة يلزم من متتبعه قراءة 46 كتابا إلى حدود الآن، والبقية قادمةٌ لا محالة. لذا حاولنا التحاور معه في هذه المجالات، إلا أننا حصرنا الحوار الأول في البُعد الأخير من مُنجزه، عسانا نُتابع الحوار معه في السنة القادمة، وكل ذلك من أجل تقريبٍ عامٍّ لهذه الشخصية المائزةِ في ثقافتنا المغربية والعربية للقراء. لقد حاولنا خلال سِتِّ لقاءات على مَدَى شهرين الحوار معه انطلاقاً من أسئلةٍ حول الكتابة الروائية، وحول الحرب في لبنان، والأفق السحري في نصيه «رائحة المكان» و«ليليات»، إضافةً إلى النوافذ التي فتحها لنا على ضفاف شخصيته، والظلال التي تحيط بها من قبيل الشعر، الغناء، الموسيقى، بيروت، وعلاقته بشخصيات سياسية وفكريةٍ تواصل معها بطريقة أو أخرى... وبالجملة فإن الإنصاتَ إلى عبد الإله بلقزيز يرفعك إلى مساءلة الجوانية فِيكَ/فينا: كما لو كان الإنصاتُ إليه يحملك إلى آخَرِكَ. هنا تكمن المتعة الفائقة، تستدرجك نحو عوالمَ أرحبَ، تكون فيها الكتابة التزاماً إن لم نقل الشرط الوجودي للكائن. لكن كيف ورطناه في هذا الحوار؟ علماً أنَّه لم يعطِ أيَّ حوار منذ ما يزيد عن عشرين سنةً باستثناء ما قدَّمته القنوات العربية كالمنار، والميادين.. لا أقول إنِّي كنت محظوظاً في تهريبِ صرامَتِه العلميّة إلى القراء. بل أقول له شكراً لأنّه فتح لنا نوافذه، مثلما أشكر الصديق محمد رزيق الذي ساعدني في تفريغ هذا الحوار. o في حسن نصر الله ما يدهشني وأعشقه، خاصة في تدبيره العميق والناجح للحرب في 2006. في هذا التدبير أصبحواْ يُنْصتون إليه، في الكيان الصهيوني، ويصدقونه أكثر مما يصدقون قادتهم. وتجربته ليست فقط تجربة مناضلين سابقين أو قادة سابقين ولكن أعتقد أن تجربة حسن نصر الله تجربة القارئ العارف بأمور العدو الصهيوني. n ما تقوله صحيح؛ هو رجل يدرك أن واحدة من أسباب فقداننا الصدقية في أعين العالم خطابتنا الجوفاء نقول أكثر مما نفعل، ثم نكذب على جمهورنا. كان حريصاً باستمرار على أن لا يقول إلا ما يفعل ولا يفعل إلا ما يقول. فلذلك أصبح العدو الصهيوني وكل الدوائر السياسية في العالم، الأمريكية والأوربية. تأخذ كلامه على محمل الجد، وتَقْطع أن هذا الرجل ليس من طينة أولئك الذين عرفناهم قبل في العالم العربي. حينما يقول سأفعل شيئاً يفعله؛ حينما يقول للإسرائيليين سأؤدبكم يعرفون أنه سيؤدبهم ثم تبدأ حالة استنفار يلعب فيها على أعصابهم لأيام وربما لأسابيع إلى أن ينفذ تهديده. هذه أكسبته ليس فقط مصداقية ولكن أكسبته ورقةَ قوةٍ في الصراع مع العدو؛ رجل يلعب بأعصاب العدو. أذكر جيداً في حرب 2006 حينما كان إعلام «حزب الله» يعلن أنه سوف يوجّه نصر الله خطاباً في الساعة الفلانية، كانت شوارع فلسطينالمحتلة في اللحظات تلك كأنها في حالة إعلان حالة الطوارئ أو حظر التجوال. كانت تخلو تماماً من المارة ومن السيارات. الجميع على شاشة التلفاز ينتظرون خطاب حسن نصر الله الذي كان يترجم ترجمة فورية إلى العبرية. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني، بكل بساطة، أن رجلا في مكان ما مقيماً في الضاحية الجنوبية، لا تعرفه الطائرات الإسرائيلية والاستخبارات الإسرائيلية، قادر على أن يلعب بأعصاب خمسة ملايين ونصف من البشر ثلث هؤلاء أصلا مقيمين في ملاجئ لا يستطيعون الخروج خشية صواريخ المقاومة. هذا عامل جديد في الصراع. صار هناك ميزان قوى أو إذا شئت أن تقول ميزان الإرادات كما سمّيتُه. المعادلات أصبحت عند حسن نصر الله واضحة: تضربوننا نضربكم، تُخيفوننا بالعدوان نخيفكم، تُلجِئوننا إلى الملاجئ نلجئكم إلى الملاجئ، تضربون مطاراتنا نرد بضرب مطاراتكم. هذا هو الردع؛ أن تُشعِر العدو بأنه لم يعد قادراً على أن يقوم وحده بالمبادرة، وأنه ما أن تنطلق رصاصة منه حتى تصله عشر رصاصات. هذا هو الذي أنهى حرب سنة 2006 بتكافُؤ في القوة، بل بالعكس باختلال في القوة لأن العدو كما تعرفون في الأيام الأخيرة أصبح يطالب، كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الحين بالإسراع في إصدار القرار 1701 الذي قضى بوقف العمليات الحربية في الوقت الذي كانت الإدارة الأمريكية تتلكأ وتطلب من إسرائيل أن تصمد لأيام أُخَر! أول مرة ستشعر إسرائيل أنها لن تستمر في الحرب. طيب دعك من 2006؛ حينما قام العدو الصهيوني باغتيال ثلاثة قادة من «حزب الله» في الجولان قبل عام، على الفور أعلن الإسرائيليون حالة استنفار عامة وحالة تعبئة داخل كل إسرائيل. وبقيت إسرائيل في حالة استنفار مشدودة الأعصاب طيلة أسبوع إلى أن أعلن أن حسن نصر الله سوف يلقي خطاباً يوم الخميس، وأصبحت المشكلة بالنسبة إلى الإسرائيليين متى ستنفذ العملية: قبل خطابه أو بعد خطابه؟ ثم نفذت العميلة وراح فيها جنود إسرائيليون كما تعلمون ولأول مرة في التاريخ تُضْرب إسرائيل في «عقر دارها» ولا تستطيع أن ترد، لأنها تعرف أنها إذا ردت سوف تتلقى ضرباً مُبرِّحاً. وهذا هو الدرس الكبير الذي علّمنا هذا الرجل؛ الذي هو الردع. o لهذا أنا سميت هذا الرجل بالقديس حسن نصر الله. n ليس إلى هذا الحد لو سمع منك هذه العبارة لرجاك أن تسحبها. o ومرسيل خليفة؟ n مرسيل صديق عزيز، وفنان كبير، وموسيقي من الطراز الأول، ومثقف ملتزم؛ لم يساوم مرة على قضية شعبه وأمته تحت أي ظرف من الظروف. أغنياته شاعت وأصبحت في متناول عشارات الملايين من الناس. مرسيل موسيقي، في المقام الأول، ولكنه ? من أسفٍ شديدٍ - ليس معروفاً عربياً بهذه الصفة. ربما معروف في أوربا من الوطن العربي. جمع مرسيل بين ثقافته العميقة في الموسيقا الشرقية وقدرته على تطويع آلة العود لأداء جمل مركبة من مقامات عديدة وليس من مقام واحد، وبين الثقافة الموسيقية الغربية السمفونية. في بدايات حياته قبل أن يبدأ الغناء سنة 76 كان في الأصل ينتج موسيقا، ينتج نصوصاً موسيقية بعضها كنصوص حرة من دون أن تكون مرتبطة بعمل فني ما، وبعضها للكاليغراف اللبناني الكبير عبد الحليم كاراكالا في مسرح كاراكلا، إلى أن بدأ يقدم أغنيات في سنة 76. إلى ذلك فإن مرسيل خليفة له حساسية أدبية رفيعة؛ فهو متذوق رفيع للشعر، وكتب وغنى بعض ما كتب. وحينما يكتب، وعادة ما يكتب إما من وحي الذاكرة أو في في رثاء بعض أصدقائه الذين يرحلون، يكتب بعذوبة شديدة جداً. وأنا كنت دائماً أقول لو لم يكن مرسيل مغنياً وموسيقياً لكان شاعراً. وفي المقدمة التي كتبها في تقديم كتابي «ليليات» دليل على أناقته في الكتابة.استطاع أن يحتاز شعبية استثنائية من ثلاثة أجيال تقريباً؛ جيل التحرر الوطني الذي قبلنا، أي الجيل الذي قاد عملية التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ثم جيل مرسيل نفسه: جيل السبعينيات، ثم الجيل الجديد من الطلبة والتلاميذ الذين يحفظون مرسيل. وأنا حضرت عشرات حفلاته في لبنان، في فرنسا، في الأردن، في تونس، في المغرب، في أبو ظبي...إلخ، وأكثر شيء كان يشدني هو تلك الجحافل من الناس التي تحضر حفلات مرسيل بعشرات الآلاف أحيانا علماً أنه هو وزياد الرحباني معاً ممنوعان ومحجوبان من كل أجهزة الإعلام العربية. لا أحد يرى مرسيل على أي من قنوات رجال النفط والغاز اليوم ولا في إذاعات الحكومات ولا في الإذاعات الخاصة إلى غير ذلك. ورغم كل هذا الحصار المضروب على هذا الغناء الرفيع، على هذه الموسيقا الرفيعة، فإنها استطاعت أن تخترق كل الحدود وأن تستوطن القلوب وأن تصبح النموذج المعياري لما ينبغي أن يكون عليه الغناء والموسيقا في البلاد العربية. وأنا شخصيا كتبت عن مرسيل وأعماله كثيراً. رافقتُ تجربته الفنية منذ البدايات؛ منذ 76، أي منذ أربعين عاماً، ولم يكن هناك شريط يصدر لمرسيل منذ «وعود من العاصفة» و»عالحدود» و»عالأرض ياحكم» حتى الآن. لم يحصل أن صدر شريط دون أن أكتب عنه. بل أحياناً كتبت عن بعض الحفلات الكبرى التي أقامها في لبنان أو في فرنسا، طبعاً مع محمود درويش، أو هنا في المغرب أو في الأردن وفي تونس في مهرجان قرطاج (في 1991). ومرة كنت أنا ومرسيل نتحدث عما كتبته عنه، وهو في حدود 250 صفحة، وقال إنه وأنه يستحق أن ينشر في كتاب. لم أتحمس طبعاً لفكرة الكتاب علماً أنه فاتحني في سنة 94 أو 95 في أمر كتابة كتاب عن تجربته لينشر في الذكرى العشرين سنة 96. وأنا اقترحت أن لا أكتبه وحدي وإنما أن يكتبه بعض من الأصدقاء أصدقائي وأصدقاء مرسيل كل يقدم مساهمة: منير العكش، محمود درويش...إلخ. كل يكتب نصّاً ويصدر الكتاب فتحمس للموضوع لكن لم يتابعه. حينما ذكرني بما كتبته أخبرني أنه في حدود 250 صفحة واقترح اصدار الكتاب لكنني لم أتحمس لأن الكتابات كانت موسمية تتعلق بنصوص غنائية أو موسيقية كتبت عنها أو كتبت عنها أحيانا حتى في معرض المقارنات؛ مثلاً في بعض المقالات كتبت أقارن بين الصياغة الموسيقية للنص عند مرسيل خليفة والصياغة الموسيقية عند فاغنر وعند برامس إلى آخره. هذه مفيدة أكثر أعتقد أنه من المفيد جداً أن يعاد نشرها. لكن لا أدري قد تحين فرصة وأكتب ليس بالضرورة عن مرسيل حصراً، يمكن أن أكتب عن الظاهرة الموسيقية الجديدة في الوطن العربي من عاصي الرحباني إلى مرسيل إلى زياد الرحباني وهما الأعلى كعبا اليوم في الموسيقا والغناء في الوطن العربي.