قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... كنت أفكر في المعارض القديم وأنا أتوجه إلى منزله، في التعذيب والإهانات التي تعرض لها، في التهديدات التي تلقاها أقاربه، دوره في التطورات الأخيرة في سوريا. هل مدخل إقامته مراقب؟ من المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، كنت ألتقط الصور الكثيرة المنصوبة لبشار الأسد ووالده، عندما رن هاتفي : صوفيا، لقد سقط مبارك! صاح رئيس تحريري من باريس. لا أدري إن كان علي أن أفرح أو أستسلم لنوع من الإحباط، لأنني لم أكن متواجدة في ساحة التحرير، حيث أطلق المصريون ثورتهم، هناك حيث يحتفلون بهذا النصر الثاني للربيع العربي بعد النصر التونسي . طلبت من السائق تشغيل مذياع السيارة وزيادة سرعتها , ضاعفت الأجواء الملبدة لشوارع دمشق الذكريات الملونة التي احتفظ بها عن ساحة التحرير القاهرية. وصلت إلى مقصدي، الزقاق يبدو خالياً. حياني ميشيل كيلو بسرعة قبل العودة أمام شاشة تلفزته وهي تبث مباشرة من القاهرة صور احتفالات المصريين. جالساً في صالون بيته محاطاً بالكتب، كان الكاتب الشيخ فرحاً، بالكاد ينتبه لوجودي، يتجاوب مع الجماهير المصرية. لقد انتهى! الثاني. ومتى يأتي دور سوريا؟ على الفور تغيرت نبرة ميشيل كيلو. للأسف، نحن لسنا في مصر. هؤلاء المستبدون العرب سيتم كنسهم جميعاً، ولكن في سوريا سنكون آخر من يتحرك. نظامنا هو الأعنف من بينهم جميعاً، سيكون آخر من تخرج ضده الاحتجاجات. أربعون سنة من الرعب. هل تعرفون ما معنى أربعون سنة؟ إنه عمرك. أليس كذلك؟ بالنسبة لميشيل كيلو، المجتمع السوري ليس «فقيراً»، بالمقارنة مع المجتمعات التونسية أو المصرية، لكن ينتفض بالرغم من المخاطر. الأيام الأولى لدعوات التظاهر، كانت الشوارع خالية. حتى الذين كان عليهم أن يخرجوا من أجل التبضع أو الصلاة في المسجد فضلوا البقاء في بيوتهم خوفاً من اعتقالهم. وبرأي ميشيل كيلو الذي أجبر على الالتزام بوقف أي نشاط سياسي قبيل الإفراج عنه سنة 2009، النظام البوليسي للأسد دفع الناس إلى خلق مجتمع بديل، مجتمع شبكات التواصل الاجتماعي التي تضمن حداً أدنى من الحرية للمواطنين وتسمح بالتبادل المفتوح. الشباب مثل الذين التقيتهم من قبل هم ركيزة هذا المجتمع، لكنه يبقى مجتمعاً افتراضياً، وحتى إن كانت ملتصقة بالواقع، فإنها عاجزة عن أن تكتب فيه معركة أفرادها. بعد شهر وأربعة أيام، يوم 15 مارس 2011، ستندلع الثورة السورية، سينهض الشعب السوري، ويفاجىء العديد من المراقبين، ومن ضمنهم ميشيل كيلو. وأنا أستعد لتوديعه، طلب مني الشيخ المعارض عدم بث المقابلة قبل إخباره. ومحاولا شرح ذلك قائلا: ربما يتم الإعداد لحدث كبير. هل تعرفون سهير؟ إنها هي من يشرف على كل هؤلاء النشطاء في شبكة الأنترنيت. أليست هي... أوسيان؟ لا أعلم، رد على سؤالي وهو يملي على رقم هاتفه. اتصلي بها فهي نادراً ما تخرج. سهير موجودة بالفعل في بيتها، ورغم الوقت المتأخر، قبلت استقبالي. استقبلتني بابتسامة ستضيء بعد ذلك كل مغامراتي السورية. سهير الأتاسي هي تجسيد ملائكي للمعركة السلمية والعلمانية للثوريين الأوائل، عمرها 41 سنة حائزة على دبلوم في الأدب الفرنسي، تنحدر من واحدة من العائلات السياسية المرموقة. في سوريا هي أوسيان (الرسم الحركي على الأنترنيت). هذا الجيل الجديد من المناضلين، القادر على إحداث التغيير، سهير رأت هذا التغيير قادماً وساندته ومازالت تشجعه حتى اليوم. سهير كبرت في كنف أب يتمتع بكاريزما قوية، جمال الأتاسي، الصحفي والكاتب والرجل السياسي الوطني، الذي ساند سنة 1970، الانقلاب العسكري الذي قاده حافظ الأسد ضد ابن عمه نور الدين الأتاسي الذي كان رئيساً لسو ريا، أملاً في أن حافظ الأسد سيعمل من أجل تحقيق وحدة سوريا مع مصر. نور الدين الأتاسي كان يتمتع بذكاء بارز وكان واحداً من أبرز منظري حزب البعث الذي يدعو إلى الوحدة العربية ومازال يقود سوريا حالياً. غادر الأتاسي حزب البعث، بعد أن خاب أمله وأسس حزباً سياسياً جديداً سرعان ما حله حافظ الأسد، وظل حتى وفاته واحداً من أبرز معارضي الأسد. سهير أطلقت اسم والدها على أحد منتديات الحوار الذي أطلقته سنة 2001 في سياق ما سمي ربيع دمشق، أي فترة الانفتاح السياسي التي حدثت مع وصول بشار الأسد للسلطة. داخل هذا المنتدى كانت اللقاءات والحوارات ساخنة وبناءة. لكن ربيع دمشق لم يزهر، تسلل رجال المخابرات السورية إلى داخل لقاءات هذا المنتدى، وكانوا يسجلون النقاشات التي تدور داخله بغرض ترهيب المشاركين فيه. توالت التحرشات والمضايقات ضد سكان عمارة سهير، وبعد عدة اعتقالات وتهديدات بالإغلاق، تقرر منع منتدى جمال الأتاسي من أجل الحوار الديمقراطي سنة 2005، بقرار من بشار الأسد. سهير التي ظلت رئيسة له، أحيته افتراضياً سنة 2009 على الفايسبوك من أجل مواصلة معركة المطالبة بالإصلاحات والتنديد بالقمع وتشجيع الثقافة الديمقراطية في سوريا.