التَكَلُّس ليس كلمة. إنه حالة. حالة يجسِّدها المجتمع العربيّ، منذ عقود طويلة، إنْ لم يكن منذ قُرون. إنه السُدّ المطلق أمام الفهْم والتغيُّر والاستيعاب. التكلُّس في علم "تشريح الحياة" هو، نفسه، في الجراجة : يبدأ بقشرة رقيقة، تَثْخُن يوماً بعد يوم، بفعل الاستكانة والرضوخ والخنوع والبلادة، إلى أن تصير شديدة الكَتامَة، فيصبح النَّفاذ منها، وإليها مستحيلاً. التكَلُّس، غالباً، جَمْعيّّ. لكنه يمكن أن يكون فرديّاً، أيضاً. وقد يتجلّى بوضوح لدى بعض الأفراد، والجماعات، أكثر ممّا يتجلّى عند غيرها. وهو مثل أية حالة انسانية أُخرى يمكن أن يكون مقَنَّعاً وخبيئاً، ويمكن أن يكون مكشوفاً. وهو مثل آفات العقل الخطيرة يبدأ هُوَيْناً، ويتَفاقَم خلْسة إلى يغدو الخلاص منه شبه مستحيل. ومهما تعددت مصادره، وتبايَنتْ أسبابه، فنتيجته واحدة : الاضمحلال المؤكَّد، في النهاية، إلا إذا تنَبَّه المتكلُّس، والمتكلِّسون، إلى خطورة الحالة المزدراة التي تحيط به، وبهم، مثل قَوْقعة الذاهب إلى الموت. هو ليس تقدميّاً، ولا هو رجعيّ. فهو قد يصيب الحافتين معاً. لكنه إديولوجيّ، دائماً. وكما أنه يصيب اليمين كثيراً، فاليسار، هو الآخر، مُعَرَّض للإصابة به، إن لم يكن هو الأكثر إصابة، على العكس مما نظنّ. وعلى سبيل المثال، لا الحَصْر، تَكَلَّس الفكر الماركسيّ النقديّ ، حينما صار ستالينيّاً. وتكلّس الفكر الديني عندما صار جامداً، غير قابل للتَطويع، والتجدّد، فسبقَتْه الحياة كثيراً. وكل فكر لا يُسْقى من ماء الوجود الثَرَّ والأصيل، وإنما من "ماء التاريخ" الذي هو ملْح أُجاج، نهايته الاندثار. ولا يسعنا هنا تعداد بقية المنظومة العربية المتباينة المناهج والتوجُّهات. تكَلُّس النُفوس هو الذي يجعل الحياة يابسة، سَهْلة الإنْقِصاف، والتحطُّم، والانهيار. لأن التكلُّس يُزيح كل طاقة إبداعية في الوجود، بما فيها تلك التي تُعيننا على تَحَمُّل المشقّات. وقد تكون هذه الخُصْلَة هي الأولى التي تندثر منذ أن يبدأ التكلّس بالاستقرار في رؤوسنا. وأتصوّر أن قتل روح الإبداع الحر لدى الكائن العربي، وطَمْس أهوائه، ولَجْم نَزْعة التحرر والاستدْلال الشخصيّ عنده، وكَبْح كل مبادرة خارجة عن نطاق المقبول اجتماعياً، حتى ولو كانت لا خوف منها، و... هي بعض الأسباب الأساسية للتكلُّس العربيّ المعمم، الذي بدأ يهدد، اليوم، تاريخ الأمكنة والكائنات. في حالة التكلُّس يختفي مفهوم العدالة. وتموت قِيَمُ المواطنة. ولا يسود القانون. فيرتبك الكائن الذي يغدو هَشّاً وبليداً وخائفاً. همُّه، كله، يتركَّز حول يومه التعيس، دون أي تطلُّع إلى أفق "المستقبل". يغمره اليأس وهو صامت. لا يجرؤ على الصراخ. ولا يملك "طاقة " تجعله يربط بين التكلُّس وقانون الوجود. لكأنه لا يدري أن "التكلُّس سلطة". وهو، مثل أي سلطة أخرى، وبالتحديد مثل السلطة الدينية، والسياسية، أعْمى. فالسلطة، دائماً، عمياء عندما يتعلّق الأمر "بالعبيد الجُدد"، أبناء الشعب، الذين حوَّلَتْهم إلى أزلام مرتبطين بها إلى الأبد (كما تظن). ف"الأبد"، بالنسبة إليها، هو زمنها الخاص. فهي ليست جديرة بأن ترى "زمن التاريخ". التكلّس ليس الرجوع إلى الماضي،أو الاستعانة به، أو استعادته من أجل إدراك الحاضر، وإنما هو الإقامة المؤبَّدة فيه. هو تفريغ الكائنات من جوهرها الآنيّ الخلاق، ووَضْعها في "حظيرة التماثُل"، من أجل استيعابها بشكل أسهل وأعمق. وهو، من هذه الزواية، ليس ظاهرة عابرة، وأنما هو "منهج خانِق" للحياة. إنه خديعة الوجود العظمى التي لا خلاص منها إلا بإدراكها، والتمرّد عليها. تفجير القشرة الثخينة والصلبة التي صارت تمنع الفكر العربي من التفتّح والتوَهُّج والانتشار، وتُعيقه من أن يقوم بما يناسب الحياة الحديثة، أصبح، اليوم، ضرورة وجودية. هذه القشرة الكتيمة هي التي تقتل الابداع، وتحرف المزاج، وتجعل الكائن العربي يعيش وكأنه ليس مسؤولاً عن وجوده، بعد أن سَلَّم هذا الوجود برضاه، أو بدونه، إلى الآخرين، أياً كانت مزاياهم، ونواياهم. المهمّ أنه لم يعد مسؤولاً عن حياته، وهو بالتالي "لا يستحقّها". "فإذا عاشَ، عاشَ غير عزيز، وأذا ماتَ، ماتَ غير فقيد" كما يقول المتنبي. وفي النهاية، ما يجري اليوم، في العالم العربي نتيجة منطقية للتكلُّس الذي استمر قروناً. اربطوا التكلُّس بما يحدث حولكم، تَفْهموا ما أقول. اكسروا قشور تكلُّسكم، كي يزهر الوجود.