اجتماع "لجنة المالية" يشعل غضب مكونات المعارضة في مجلس النواب    الأمم المتحدة: افتتاح الدورة ال69 للجنة وضع المرأة في نيويورك بمشاركة المغرب    الوزارة تكشف عدد السياح الذين زاروا المغرب عند متم فبراير    الأحمر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    هل تُنقذ الأمطار الربيعية الموسم الفلاحي في المغرب؟    عاجل.. تسليم الطفلة القاصر ملاك لوالدتها التي تقرّر متابعتها في حالة سراح في قضية المدعو "جيراندو"    اندلاع حريق مهول في السوق البلدي لمدينة المحمدية    كلية الآداب والعلوم الانسانية بالمحمدية تنظم احتفالاً باليوم العالمي للمرأة    دراسة أمريكية.. قلة النوم تزيد من خطر ارتفاع ضغط الدم لدى المراهقين    رئيس النيابة العامة يستقبل وزير العدل الفرنسي ووفد رفيع المستوى    شفشاون تتصدر مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية.. وهذه توقعات الثلاثاء    شرطة محطة القطار بطنجة توقف مروجا لمخدرات بحوزته 600 قرص من نوع "زيبام"    هذا موعد إعلان الركراكي عن قائمة أسود الأطلس    حماس تقول إن إسرائيل "تواصل الانقلاب" على اتفاق الهدنة في غزة    مقاييس التساقطات المطرية المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    اعتقال سائق سيارة أجرة بتهمة الإخلال بالحياء    الجزائر تغازل إدارة ترامب وتعرض معادنها النادرة على طاولة المفاوضات    فالفيردي يصل إلى 200 مباراة في "الليغا"    التامني: القوانين وحدها غير كافية لتغيير وضعية النساء ومدونة الأسرة تحتاج إصلاحات جذرية    فتح باب الترشح لنيل جائزة التميز للشباب العربي 2025 في مجال الابتكارات التكنولوجية    ملخص كتاب الإرث الرقمي -مقاربة تشريعي قضائية فقهية- للدكتور جمال الخمار    "البيجيدي" يطلب رأي مجلس المنافسة في هيمنة وتغول "الأسواق الكبرى" على "مول الحانوت"    أوضاع كارثية وأدوية منتهية الصلاحية.. طلبة طب الأسنان بالبيضاء يقاطعون التداريب احتجاجا على ضعف التكوين    ذكرى وفاة المغفور له محمد الخامس: مناسبة لاستحضار التضحيات الجسام التي بذلها محرر الأمة من أجل الحرية والاستقلال    المغرب – سوريا إلى أين؟    من وهم الاكتفاء الذاتي إلى استيراد مليون رأس غنم بشكل مستعجل! أين اختفت السيادة الغذائية يا تبون؟    الوزير عبد الصمد قيوح يعلن إدخال تحسينات جديدة على مطاري البيضاء ومراكش لتسهيل حركة المسافرين    "نساء متوسطيات" يمنحن مراكش أمسية موسيقية ساحرة    إدارة السجن بني ملال تنفي ما تم تداوله حول وفاة سجين مصاب بمرض معدي    تعليق الدراسة بسبب سوء الأجواء الجوية بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    حقيبة رمضانية.. فطور صحي ومتوازن وسحور مفيد مع أخصائي التغذية محمد أدهشور(فيديو)    كيف يتجنب الصائم أعراض الخمول بعد الإفطار؟    قلة النوم لدى المراهقين تؤدي إلى مشاكل لاحقة في القلب    الكوكب يبسط سيطرته على الصدارة و"سطاد" يستعد له بثنائية في شباك اليوسفية    "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..؟" !!(1)    أدت ‬ببعضها ‬إلى ‬الانسحاب.. شركات مالية ‬مغربية ‬تواجه ‬أوضاعا ‬صعبة ‬بموريتانيا    في رثاء سيدة الطرب المغاربي نعيمة سميح    هَل المَرأةُ إنْسَان؟... عَلَيْكُنَّ "الثَّامِن مِنْ مَارِسْ" إلَى يَوْمِ الدِّينْ    غاستون باشلار وصور الخيال الهوائي :''من لايصعد يسقط !''    زيلينسكي يتوجه إلى السعودية قبل محادثات بين كييف وواشنطن    ترامب: التعليم في أمريكا هو الأسوأ في العالم    نهضة بركان على بعد خطوة من تحقيق أول لقب له بالبطولة    كندا.. المصرفي السابق مارك كارني سيخلف جاستن ترودو في منصب رئيس الوزراء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    عمر هلالي يعلق على أنباء اهتمام برشلونة    الصين تعزز الحماية القضائية لحقوق الملكية الفكرية لدعم التكنولوجيات والصناعات الرئيسية    كوريا الجنوبية/الولايات المتحدة: انطلاق التدريبات العسكرية المشتركة "درع الحرية"    دراسة: الكوابيس علامة مبكرة لخطر الإصابة بالخرف    أبطال أوروبا .. موعد مباراة برشلونة ضد بنفيكا والقنوات الناقلة    رجاء القاسمي.. الخبرة السينوتقنية بلمسة نسائية في ميناء طنجة المدينة    إسرائيلي من أصول مغربية يتولى منصب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي    مباراة الوداد والفتح تنتهي بالتعادل    بطل في الملاكمة وبتدخله البطولي ينقذ امرأة من الموت المحقق … !    8 مارس ... تكريم حقيقي للمرأة أم مجرد شعارات زائفة؟    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    نورة الولتيتي.. مسار فني متألق في السينما الأمازيغية    رحلت عنا مولات "جريت وجاريت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الله العروي وعوائق ترسيخ منطق الدولة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 06 - 2015

ما يلفت النظر أن المفاهيم التي اشتغل عليها المفكر الواقعي عبد الله العروي ، مفاهيم مترابطة فيما بينها ، وكل مفهوم يحيل إلى مفهوم آخر ، ولا يستقيم الفهم ويرتفع اللبس إلا إذا تم تناول المفاهيم في أبعادها الاقتضائية ضمن منظومة مفاهيمية شاملة ، حيث لا يمكن الإحاطة بمفهوم الدولة دون استدعاء مفهوم الحرية ، ولا يمكن استيعاب مفهوم الحرية دون استحضار مفهوم الدولة والعقلانية . مما ينم عن وجود منطق يحكم صياغة وترابط المفاهيم وإن كان كل مفهوم على درجة عالية من التجريد والتدقيق ، يشكل لوحده مشروعا قائم الذات ، قابلا للأجرأة والتصريف إن توفرت لدى صناع القرار الجرأة والرؤية الاستراتيجية للتفاعل والاستفادة من الفكر الخلاق .
من بين المفاهيم المركزية التي أبدع فيها النابغة عبد الله العروي ، شأن باقي المفاهيم ، هو مفهوم الدولة ، ليضع أمام القارئ ، حالا واستقبالا ، مادة تسعفه ، في فهم أعقد إشكالية وأخطرها في التاريخ الإنساني .
انطلاقا من الوعي بأهمية الموضوع ونظرا لما يكتنف المفهوم من لبس في الفهم ، فإننا ارتأينا أن نقدم هذه المساهمة للتركيز على ما يشكل عوائق تقف حائلا دون ترسيخ منطق الدولة في تجربتنا المغربية ، أبرزها تشتيت ولاء الفرد بين القبيلة والفقيه والدولة ، محاصرة العلوم الاجتماعية ، ثقل الموروث/ أدب الموت وترجيح المنطق العائلي الشريفي .
أدى الإخفاق إلى تدخل أوروبي مباشر بدعوى أن السلطة الأجنبية وحدها القادرة على التوفيق بين أهداف الخصمين : المحافظة على نفوذ السلطان من جهة وتلبية مطالب الجماعات التي تكون الرعية من جهة ثانية (5).
إذن ما هو برنامج الإصلاح الإداري والحكومي لهذه المرحلة ؟
يتكون برنامج الإصلاح من تدريب وتسليح الجيش تدريبا و تسليحا أوروبيين، إنشاء طبقة بيروقراطية عصرية لفصل مفهوم الدولة عن شخص السلطان ، تدوين القوانين في مجلات مرتبة ترتيبا سهلا حتى يكون العمل بها يسيرا وتغيير مناهج التعليم لسد حاجيات الجيش والبيروقراطية من جنود وموظفين أكفاء وتنمية موارد الخزينة لتسديد المصاريف المترتبة عن الإصلاح .
هذا البرنامج كما يقر عبد الله العروي هو الذي طبق أثناء مرحلتي الإصلاح : تستلزم عناصره بعضها البعض ، لا بيروقراطية بدون إصلاح قضائي ، لا جيش بدون تعليم عصري ، لا بيروقراطية ولا جيش بدون إصلاح جبائي ، لا إصلاح جبائي بدون ارتفاع الإنتاج . وراء البرنامج منطق هو منطق الفكرة الليبرالية حول الدولة التي كانت رائجة في ق 19 .
ها هنا نطرح السؤال الجوهري : ماذا كانت آثار ذلك على وجدان الفرد الذي يعيش في أحضان الدولة الجديدة ؟ قبل الإجابة يلفت نظرنا عبد الله العروي إلى أن "التنظيمات الحديثة أدخلها في المرحلة الأولى السلطان آملا تقوية سلطته في الداخل والخارج وقام بها في المرحلة الثانية مستعمرون أوروبيون مستهدفين منها تشجيع الاستيطان الأوروبي وتوسيع اقتصاده وبالتالي إضعاف النخبة الأهلية مع كسب ولاء الجماعات الأكثر تضررا من النظام البائد "(6).
بناء عليه نسائل الفقهاء حول موقفهم من سياسية الإصلاح ذات النزعة الليبرالية . هنا وجب التمييز بين مرحلتين : في المرحلة الأولى وافقوا على المضمون الإصلاحي بشرط أن يتقيد السلطان بالشرع لكي تتحقق المصلحة العمومية وترفع معالم الدين . وجد الفقهاء فرصة في أزمة الحكم السلطاني وتهديد الغرب له ، للمطالبة بالرجوع إلى الدولة الشرعية العادلة ، فحصل نوع من الاتفاق الضمني بين فقهاء هذه المرحلة والليبراليين . في المرحلة الثانية أخذ الغربيون بزمام الحكم فتحقق الخطر وانزوى الشرع تماما من معظم مظاهر الحياة العامة . فانعزل الفقهاء عن الليبراليين ، ووضعوا في مقدمة المشكلات تطبيق الشرع ، حينئذ تغيرت طبيعة الحركة الإصلاحية . إذا اتفقنا يقول العروي أن نسمي تلك الحركة سلفية فلا بد من التمييز بين طورين : طور تتداخل فيه السلفية والليبرالية وطور تتميز عنها بكيفية جذرية .
إذا تناولنا ترتيب نماذج الحكم لدى ابن خلدون المتعاقبة من حكم الغلبة والقهر ، حكم السياسة العقلية ، حكم السياسة الشرعية إلى وضع الخلافة الذي يضمن في آن المصالح الدنيوية والأخروية حيث يكون الوازع دينيا ، فأين نضع الدولة المنتظمة أي دولة التنظيمات التي أدخلت عليها إصلاحات ذات طابع ليبرالي ؟ . واضح أن السلطنة قبل الإصلاح كانت تنتمي إلى النمط الأول ، ولم يقم أركان العدل في بداية القرن الماضي إلا إدارات أجنبية أوروبية . إذن الدولة المنتظمة هي دولة السياسة العقلية .
إذا كان الفقيه قد عايش السلطنة دون أن يكف عن المطالبة بالعدل عن طريق إقامة معالم الشرع ، فإنه يعايش دولة السياسة العقلية التي تحقق العدل اعتمادا على العقل البشري وهو لا ينفك ينادي بضرورة الرجوع إلى الشريعة لضمان العدل التام . من هنا يستبعد أن يتصالح الفقيه مع الدولة ، هكذا لم يطرأ في العمق أي تغيير على موقف الفقيه اتجاه الدولة . لم يزل متشبثا بطوبى الخلافة ، بل زاد عليها طوبى الإمامة الشرعية . كان يتمنى تحقيق مقاصد الشريعة فأصبح يتمنى تطبيق قواعدها الحرفية .
وبالنسبة للفرد ، هل غيرت دولة التنظيمات المبنية على المنفعة العمومية ، كما يتبينها العقل البشري ، نظرته إلى السلطة ؟ هل يرى فيها تجسيما للإرادة العامة وتجسيدا للأخلاق كما يقول هيغل بعد ماكيافيلي ؟ بعبارة أخرى هل جدت في عهد التنظيمات ظروف مواتية لنشأة نظرية الدولة باعتبارها منبع القيم الخلقية ومجال تربية النوع الإنساني ، حيث يرتفع من رق الشهوات إلى حرية العقل ؟ .
رغم أن الفصم قد ترمم بعض الشيء في الميدان الاقتصادي ( الدولة أداة في خدمة المنتجين) ، لكنه تأكد في الميدان الاجتماعي والثقافي ، في ميدان السلوك والقيم .
بناء على ما سبق فإن الحركة الوطنية لم تر في دولة التنظيمات مزاياها الإدارية والاقتصادية ، بقدر ما رأت فيها سلطة الأجنبي المتسلط ( فصل الإدارة عن عادات الأهالي) . رغم الإصلاح والعدل النسبي والنمو العمراني المهم لم تنغمس الدولة في المجتمع ، لم تتحد القاعدة القانونية بالضمير الخلقي ، لم ينفك الفرد يربط علاقاته في نطاق الأمة وهي الرابطة الوجدانية خارج الدولة أي الرابطة السياسية . تغير جهاز الإدارة والتنظيم والقمع ( دولة المجتمع المدني بتعبير هيغل ) لكن تجربة الفرد مع ذلك الجهاز لم تتبدل .
وهذا الوضع يشمل مجموع الأنظمة العربية ، وفي بعض الظروف الخاصة يسجل عبد الله العروي ، كالتي عاشها المغرب ، بعد إخفاق المقاومة المسلحة ، لم تمثل السلفية والوطنية إلا وجهين لحركة واحدة ، لكن في الظروف العادية هناك فرق في الأهداف بين الوطنية ذات الأهداف السياسية القريبة تعويض الحكام الأجانب بحكام أهليين وبين السلفية ذات الأهداف العقائدية البعيدة فرض الشريعة كمصدر وحيد للتشريع ، لم تختلف نظرة الوطنيين عن نظرة الفقهاء إلى السلطة لأن استئثار الأجنبي بالحكم ، أي استمرار النمط المملوكي ، دفعها إلى تبني النظرة السلفية بكاملها .
تجددت كل الظروف الخارجية ، لكن الوجدان لم يتبدل فبقي الوطنيون أوفياء لتصور الإمامة الشرعية ، والسبب ؟ لم يقتربوا أبدا من آليات الدولة المنتظمة ولم يتعرفوا عليها . لم يتمثلوا واقع الدولة ، لذا لجأوا إلى الحل التقليدي وتصوروا الدولة كما يجب أن تكون . ألم يعمل تشبث الوطنيين بطوبى الإمارة الشرعية ، بكيفية غير مباشرة ، على تكريس دولة التنظيمات كقوة قهرية " عادلة" تأمر فتطاع ، لأنها تؤمن الناس وتنظم شؤونهم الدنيوية ؟ ألم يعمل تجاهل واقع الدولة على استمرار التجربة التقليدية : تجربة الفصم بين السياسة عن الإنتاج والدولة عن المجتمع والتاريخ عن القيمة ؟ .
إذا كان الوطنيون حسب التجربة والموقف الذي انتهوا إليه قد كرسوا ، من حيث لا يدرون ، استمرار الدولة التقليدية ، هل هذه الدولة القائمة تعبر عن نشأة مجتمع سياسي أم لا ؟ بما أن مفهوم المجتمع السياسي يستلزم مفهومين محوريين :الشرعية والإجماع .
ها هنا تتجلى عبقرية المفكر عبد الله العروي حين وجه البحث في الذهنيات والسلوك ، بل في الأجهزة التوجيهية والتأديبية ، معتبرا أن من يبهره الجهاز قد يحكم على السؤال بالتفاهة ويقول : الدولة هي الجهاز ، كل ما سواه سطحي لكن من جهة أخرى، كل من يتأمل أحوال الدولة حالا واستقبالا ،يدرك بسهولة ، أن الجهاز وحده لا يضمن الاستقرار في عالم تتعدد فيه النزاعات العقائدية وتتحارب فيه الدول بالأجهزة وغيرها ، بل تعتمد فيه على الضغط النفساني والنقد الأدلوجي أكثر مما تعتمد على الحرب الساخنة . كل دولة لا تمتلك أدلوجة باعتبارها الوجه الأدبي للجهاز ، يضمن درجة مناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها لا محالة مهزومة .
تساؤلنا إذن حول الذهن والسلوك وبالتالي حول موقف الفرد من الدولة بكل مظاهرها ، من هنا جاء عمق بحثنا يؤكد عبد الله العروي بدقة " في عمق ما ورثناه من تجربة الماضي واتضح لنا أن الدولة العصرية لا يمكن أن تعود رمز مجتمع سياسي إلا إذا أوجدت أدلوجة دولوية ، أي قدر معين من الإجماع العاطفي ، الوجداني والفكري بين المواطنين ، هذا الإجماع هو وليد التاريخ (7).
يتضح مما سبق أن مفهوم ولاء الفرد يبقى خاضعا للتجاذبات والاستقطابات ما بين الفقه وقيم القبيلة والدولة ، مما يحول دون توحيد ولاء الفرد المواطن لدولة مدنية تعلي من قيم العقل ومكاسبه.
إن تمسك الفقهاء بالطوبى / حلم عودة الخلافة هي التي منعتهم من أن يمدوا السلطة القائمة بالتبريرات اللازمة ، حيث قالوا للناس : أطيعوا أولي الأمر منكم ، لكن قالوا للناس من قبل : أطيعوا الله والرسول ولم يتبينوا أبدا سبل التوفيق إذا تناقض الأمران .
ولبناء فكر سياسي حديث ، لا بد من البدء بنقد الفكر الديني باستعمال العقل وإخضاع العقيدة لضوابط العقل والفصل ما بين مجال السياسية ومجال العقيدة .
وبما أن العقل أعدل قسمة بين الناس كما قال بذلك ديكارت ، فلا بد من استعماله في مجال العلوم الدقيقة ونظام العقيدة والمجتمع والسياسة لوضع حد للولاء المشتت ، بما أن العقلانية واحدة تؤسس المعرفة العلمية الدقيقة ونظام السياسة الفعال .
في قلب هذا المشروع لا بد أن يشكل الفرد لبنة يتأسس عليه المجتمع السياسي الديمقراطي ، بموجبه يتعاقد أفراده حول النظام السياسي ، وفي ذلك تنسيب وتحريرللسياسية من قبضة الاستبداد والطوبى للخروج من الخيار الصعب إما قبول الاستبداد النير أو الفتنة . هذا البديل يسهم في إخراج السياسة من مجال المطلق والثبات والسكون إلى حيز الواقع والحركة والتغير ، باعتبار السياسة هي المجال الخاضع للتغير والتداول والتعاقد ، ذلك أن " بناء السياسة على التعاقد معناه انتزاعها من مجال المطلقات وجعلها على مقاس المواطنين ، بوصفهم فاعلين في السياسة وليسوا مجرد موضوع لسلطتها ، وتحويلها من عالم الثبات إلى عالم السيرورة الذي من سماته تداول السلطة وتناوب المواقع بين أغلبية وأقلية مع إمكان مفتوح لتبادلهما المواقع . والفرد عند أصحاب نظرية العقد هو مبتدأ التعاقد (8) .
لذلك لا بد من تفكيك الموروث والتخلص من تأثيراته السلبية ، حيث لا يمكن " أن يقال أن الدين عندنا يتجه بطبيعته إلى السياسة بل السياسة هي التي تبحث عن الدين لإدخاله في حلبة الصراع تم يحصل ما يحصل .
وهذا التوظيف هو المهيمن لدى نظام الاسلام السياسي الذي يعادي قيم الحداثة ولا يمكن أن يكون عصريا . قد يحتوي على مظاهر اقتصادية واجتماعية جيدة ولكنه لا يوسم بالحداثة في القاموس السياسي المتفق عليه حاليا في الأوساط الغربية وحسب بل في أوساط شرقية وإفريقية كثيرة وبالتالي سيقود حتما إلى العزلة والانزواء .
لذلك تمثل الإيديولوجيا العربية المعاصرة نوعا من الرد على ما جاء يقول عبد الله العروي ، في كتاب السيد قطب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " . إن المفاهيم التي ترتكز عليها الدعوة المذكورة تتعارض مع الفكر المعاصر ، وهذا طبيعي إذ تولدت عن رفض ذلك الفكر جملة وتفصيلا لاعتباره مرتبطا بالمسيحية واليهودية والاستعمار.
وإذا كان تكوين زعماء هذه الحركة أي حركات الإسلام السياسي نتيجة تربية لا تقوم الدولة بقسمها الأكبر بل الزاوية والمسجد وبعض الدور الدينية المتكلسة ، إضافة إلى انحطاط مستوى التعليم ومعاداة الانفتاح على الثقافات الكونية ، مما يكرس عوائد العائلة والقبيلة والمنطقة ، الأمر الذي دفع عبد الله العروي إلى اتخاذ موقف صارم : " إزاء حركة مثل هذه أقف موقف المؤرخ والمحلل الاجتماعي ، لا موقف المثقف المرتبط بإيديولوجيا معينة سياسية أو دينية ، فأقول : كيف يمكن لرجال تربوا في هذا الإطار أن يسيروا جهاز دولة عصرية أو شبه عصرية أو في طرق العصرية ؟ في كل الدول التي نعرف تاريخها بتدقيق من فرنسا إلى روسيا ، وجدت حركات مشابهة تعتمد التقاليد الوطنية وتعارض الرأسمالية والتصنيع ، وكانت دائما نشيطة وأحيانا قريبة من دفة الحكم ، ولكنها لم تستطع أن تستولي أبدا على الحكم لسبب تقني هو عجزها عن تسيير الجيش والإدارة والنظام المصرفي . فصاحب السلطة كيف ما كان اتجاهه الشخصي يرى بوضوح أن ترك التسيير لهؤلاء يعود بالكارثة على الدولة وعلى الأمة فينحصر تأثير هذه الحركة في نطاق السياسة الدينية (الكنيسة) وفي التعليم العام ، لا التقني المتخصص ، وأوضح مثال على هذه الوضعية نجده في روسيا القيصرية (9).
لهذه الاعتبارات كان المفكر عبد الله العروي من بين المثقفين العرب والقليلين الذين عارضوا منذ البداية الحركة الخمينية واعتبروها خطرا على الأمة العربية جمعاء ، وتنبأوا بإخفاق سياستها الاقتصادية . وهذا ما حصل بالفعل . فموقف العروي متجذر في الوعي بمنطق التاريخ وفي متطلبات المصلحة القومية ولا علاقة له باختيارات اعتقادية شخصية .
ويمكن أن نعمم الحكم نفسه بالنسبة للأحزاب المغربية المنتمية إلى تيارات الإسلام السياسي ، وهو ما نجده مسطورا في خواطر ق 21 لعبد الله العروي بعد أن يقر " أن المجتمع المغربي محافظ وعلى كل المستويات . ما يهم الأجانب هو أن يظل المغرب " تحت اليد" ، كانوا بالأمس يتظاهرون بالتعاطف مع اليسار بهدف ابتزاز السلطة ، واليوم يتمنون أن يصل إلى الحكم إسلاميون بدون خبرة ، فتضعف الحكومة ويكون الملك في حيرة من أمره (10) .
واليوم قد وصلوا ، هل تحققت نبوءة عبد الله العروي ؟ سؤال للتاريخ .
وتأسيسا عليه يتبين أنه ما لم يتم تأهيل الفرد وجعله ركيزة التعاقد وتحريره من أوهام الطوبى وفك الارتباط ما بين السياسة والعقيدة ونقد الفكري الديني كمقدمة لتأصيل الفكر السياسي الناجع وإعمال العقل لتقويض صرح الطوباويات ، لن ننخرط في النظم السياسية القابلة للتطور في عالم مقبل على تحولات عميقة وإعادة ترتيب لأولوياته .
أما علاقة الفرد بالقبيلة فهي محكومة بمنطق تبعية الفرع للأصل وقائمة على التضحية بالفرد لصالح القبيلة ، حيث يستمد معناه منها وينهل من قيمها وعاداتها . تشكل له الحضن الدافئ وهوية الانتماء ، لأن ماهية الجماعة سابقة على وجوده ، مقابل التنازل عن فردانيته ، مما حال دون تأصيل مفهوم الفرد بمعناه الأخلاقي والحقوقي والقانوني ، ربما لظروف الاستعمار التي غلبت مصلحة الجماعة عن مصلحة الفرد أو أن هذه مشمولة بتلك كما هو الشأن عندنا بالتطاول على الحرية الشخصية بدعوى تضمينها بالحريات العامة ، كما حصل ما بعد فترة الاستقلال إلى يومنا هذا .
وهو ما يطرح أمامنا تحديا كبيرا أمام بروز مفهوم الفرد كمالك حقوق وحريات شخصية وكمواطن يتجاوز الانتماء القبلي السلالي ليمنح الرابطة الوجدانية ، الفكرية والأخلاقية للدولة باعتبارها منبع الأخلاق ومدرسة للعقلانية وهوية جامعة .
السؤال الذي يلخص الإشكالية هو كيف يمكن معالجة الإرث الذي آل إلينا من نظام السلطنة ، حيث كانت السلطنة دولة القهر والسطو والاستغلال فلم تكن تستوجب ولاء الفرد الذي كان يتولى عوضها الأمة والعشيرة ، كانت معزولة عمليا ومرفوضة ذهنيا ، حيث كان الجميع ينتظر بزوغ الخلافة أي الدولة الفضلى . الإرث إذن هو الفصل بين القيمة والأخلاق من جهة وبين الواقع والدولة القهرية من جهة ثانية .
والحل ؟ هو تأنيس الدولة ، أي النظر إليها كمؤسسة تربوية تنقل البشر من الحيوانية إلى الإنسية .
المراجع :
6 مفهوم الدولة : من ص 133 إلى ص 139
7 ن م ص 147
8 علي أومليل ، افكار مهاجرة ط 1 /2013 ، مركز دراسات الوحدة العربية ص 147
9 مجلة آفاق / الرباط عدد 413 /1992 .
10 عبد الله العروي : خواطر الصباح ج 4 ، ص 135 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.