ما يلفت النظر أن المفاهيم التي اشتغل عليها المفكر الواقعي عبد الله العروي ، مفاهيم مترابطة فيما بينها ، وكل مفهوم يحيل إلى مفهوم آخر ، ولا يستقيم الفهم ويرتفع اللبس إلا إذا تم تناول المفاهيم في أبعادها الاقتضائية ضمن منظومة مفاهيمية شاملة ، حيث لا يمكن الإحاطة بمفهوم الدولة دون استدعاء مفهوم الحرية ، ولا يمكن استيعاب مفهوم الحرية دون استحضار مفهوم الدولة والعقلانية . مما ينم عن وجود منطق يحكم صياغة وترابط المفاهيم وإن كان كل مفهوم على درجة عالية من التجريد والتدقيق ، يشكل لوحده مشروعا قائم الذات ، قابلا للأجرأة والتصريف إن توفرت لدى صناع القرار الجرأة والرؤية الاستراتيجية للتفاعل والاستفادة من الفكر الخلاق . من بين المفاهيم المركزية التي أبدع فيها النابغة عبد الله العروي ، شأن باقي المفاهيم ، هو مفهوم الدولة ، ليضع أمام القارئ ، حالا واستقبالا ، مادة تسعفه ، في فهم أعقد إشكالية وأخطرها في التاريخ الإنساني . انطلاقا من الوعي بأهمية الموضوع ونظرا لما يكتنف المفهوم من لبس في الفهم ، فإننا ارتأينا أن نقدم هذه المساهمة للتركيز على ما يشكل عوائق تقف حائلا دون ترسيخ منطق الدولة في تجربتنا المغربية ، أبرزها تشتيت ولاء الفرد بين القبيلة والفقيه والدولة ، محاصرة العلوم الاجتماعية ، ثقل الموروث/ أدب الموت وترجيح المنطق العائلي الشريفي . تشتيت ولاء الفرد بين القبيلة والفقيه والدولة : لا شك أن الفكر السياسي الحديث بني على تصور جديد لمفهوم الفرد وأهميته في الإنتاج والسياسة والدولة ، وعليه يتأسس مفهوم العقد الاجتماعي، مع ما يستدعي ذلك من إعادة بناء السياسة على تعاقد دعامته حرية الأفراد المتعاقدين ، وبالتالي اعتبار الفرد كشخصية ذات أبعاد حقوقية مدنية وسياسية . يمتلك حرية إعادة بناء هذا التعاقد لاستيعاب المتغيرات كلما اقتضت التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية ذلك . علاقة الفرد بالدولة علاقة جوهرية في فهم البنيان السياسي ونسق السلطة ، لكن كيف تتشكل هذه العلاقة ؟ ما هي الوسائط التوجيهية التي تتحكم في نظرة الفرد اتجاه الدولة ؟ وهل بإمكان الدولة أن تصل إلى الفرد عن طريق إلغاء الوساطات ، سواء أكانت ذات طبيعة عقدية ، إثنية ، مهنية ، لسانية أو أسرية ...؟. الخ في سياق تحليل المفكر عبد الله العروي لمفهوم الدولة الاسلامية ، يلفت نظرنا إلى أن " هناك ظاهرة أهم مما سبق ، وهي تلك المؤلفات الشرعية التي تحدثنا عن الدولة كما يجب أن تكون ، لا عن الدولة كما هي في الواقع ، قد أثرت مدة قرون في نفسانية الفرد بوسائل شتى : بالتربية العائلية في البيت ، بالتعليم المنظم في المساجد ، بالتهذيب الذهني والخلقي في الزوايا . تلك التربية المتوارثة ، جيلا بعد جيل، تنشر فكرة خاصة عن علاقة الحاكم بالمحكوم أي عن السياسة والدولة (1). هنا بيت القصيد أو لب الإشكالية المتمثلة في كون الفرد يخضع لسلطة ولمؤثرات الفقه الناتجة عن تنشئة سوسيوتربوية يقوم بها فاعلون متعددون وهي التي تتحكم في توجيه نظرته وتمثلاته حول الاجتماع والسياسة والأخلاق . لفهم تأثير هذه التربية " لا بد من إدراك المادة الخام التي بها وعليها تجري السياسة أي نفسانية الفرد ، فكرته عن الحكم والدولة . كل هذا ناشئ عن تربية لا تقوم بها الدولة وحدها ، بل لا تقوم بقسمها الأكبر، المسؤولون عنها هم الأب في البيت والإمام في المسجد والشيخ في الزاوية . وهؤلاء متأثرون بالمؤلفات الشرعية بتخيلات الدولة النموذجية ، بما نسميه الطوباويات الإسلامية (2). إن هذه الطوبى هي التي تمنع الفرد من إدراك واقع الدولة كما هي والتعامل معها بواقعية لاستيعاب منطقها وجعلها منبع القيم ، حيث أن سلطة الثقافة الفقهية تصادر حرية الفرد في الاختيار وتمنعه من منح الولاء كرابطة وجدانية للدولة وتمارس عليه الحجر والوصاية وتعزله عن المجتمع ، ذلك " أن المجتمع الذي يصوره لنا الفقه ، مجتمع مجزأ يتمتع أفراده بحرية خاصة ، حيث " أن المفاهيم التي يلجأ إليها الفقه وعلم الكلام والتي تقترب من مفهوم الحرية ، تدور كلها حول الفرد وعلاقته مع نفسه وخالقه وأخيه في الإنسانية ، فهي قانونية أخلاقية . أما مفهوم الحرية كما تصوره ق 19 وكما ورثناه عنه كليا أو جزئيا فإنه يدور حول الفرد الاجتماعي أي الفرد كمشارك في هيئة إنتاجية . كان المجال التنظيمي الإنتاجي هو مصب اهتمام الليبراليين هذا المجال بالضبط هو الذي يختفي في الاستعمال الإسلامي التقليدي (3) . وعليه يمكن أن نفرق بين حرية نفسانية ميتافيزيقية وبين حرية سياسية اجتماعية . أمام هذا الفهم السائد ما هي الإصلاحات التي قامت بها الدولة الحديثة لمواجهة التحديات الخارجية وتوسيع نفوذها وربط الحرية بالدولة والوصول إلى الفرد من وراء حمى العشائر ونقض كل الوسائط ؟ . لا شك أن الدولة التي نتحدث عنها هنا ، هي المخزن أو " المخزن هو الدولة المغربية الشريفة . كل نظام سياسي في بلد معين يحتفظ باسم خاص . لا نجد ما يقابله في أي لغة أخرى ، كما هو الأمر بالنسبة للإله المعبود في هذا البلد أو ذاك . نجد لفظ كومنولت في البلدان الأنكلوساكسونية ، رايخ في البلدان الجرمانية ، ربوبليكيه في البلدان اللاتينية ، باكافو في اليابان ...الخ . المهم هو التمييز ، الاهتمام بالفوارق وإن دقت . يجب أن ننطلق من وصف ما هو قائم ، لا من تعريف عام ( الدولة هي كذا وكذا )(4). وإذا كانت الدولة المغربية الشريفة هي المخزن، هل عرف هذا المخزن عملية إصلاح لمكونيه الأساسيين : الجيش والبيروقراطية ؟ . بالفعل قام مغرب المرحلة الحديثة بتجربتين أساسيتين لتسوية المشكل العسكري معتمدا على الحل الشرقي على النمط التركي والحل الخلدوني المبني على استعمال العصبية القبلية . هذا المكون المخزني ، لا يصنف ضمن الإرستقراطية الحضرية ، مادام العنصر الحضري ، في هذه المرحلة ، يشكل أقلية ، ومن الطبيعي أن يكون مجال السياسة أي عمل السلطة المركزية حكرا فقط على الباشوات، القياد والفقهاء/ العلماء . ورغم المجهوذات التي بذلت لإصلاح الجيش، إلا أنه لم يطرأ أي تغيير مهم خلال القرن التاسع عشر، وبقي وفيا لتقاليد النظام القديم ، بينما العنصر البيروقراطي سيتطور رغم مظهر الاستمرارية ، البادي من خلال الحفاظ على أسلوب رسمي موروث عن الأندلس من طرف هيئة كتاب الدواوين . كان من بين شروط الالتحاق بهيئة البيروقراطية ، أن يكون المرشح على علم بما يجري ، خارج مجال الشريعة ، وعلى إلمام بكل ما هو جديد في النظام السياسي ، وله القدرة على تطبيق قواعد جاهزة المعمول بها إداريا دون اللجوء إلى وجهة نظر القاضي . هذه البيروقراطية بالمعنى الخاص للمصطلح، ستتطور نسبيا خلال ق 19 بسبب العلاقات المتنامية بين المغرب وأوروبا ، خاصة خلال فترة حكم السلطان محمد الرابع المبادر الحقيقي إلى إصلاح البيروقراطية ، وسيتواصل عمل الإصلاح مع السلطان الحسن الأول ، حيث تكونت بيروقراطية ثقيلة ، مقننة ودقيقة . هذه البيروقراطية ذات الأصل الحضري ( فاس ، الرباط وتطوان ) شكلت أداة تنفيذ ، أدخلت نوعا من العقلنة ومنحت المخزن خصائص الإدارة الاقتصادية ، لا سيما الدور الهام الذي قام به الأمناء المنحدرون من طبقة التجار ، نظرا للتطور التجاري الهام الذي رافق حكم السلطان سليمان ، فاستفاد التجار استيرادا وتصديرا من هذا الوضع ، عندما وجدت التجارة الماكرو أوروبية الإطار القانوني، في إطار اتفاقية 1856 ، حيث تم تنظيم هيئة الأمناء أي موظفو الجمارك . وفي نهاية ق 19 ، بقدر ما بدأت تتفاقم المشاكل المالية والنقدية بقدر ما تزايدت أهمية الأمناء خاصة الدور الموضوعي ، في عمليتي العقلنة والإصلاح ، الذي لعبوه في مجمل الحياة الاجتماعية . وإذا كان الجيش والبيروقراطية يعدان ركيزتين أساسيتين للمخزن ، إلا أن هذا الأخير يدمج في نظامه مكونات أخرى لا تقل أهمية ضمن منظومته المتشابكة وإن كان ذلك يؤثر على مسار العقلنة والإنتاج . بيانه أن الإسلام لا يشكل أرستقراطية ممأسسة ولا كنيسة ، ومع ذلك نجد تراتبية لمجموعة صلبة عن طريق التمييز بين الخاصة والعامة : رجال الحق الخاص ورجال الحق المشترك . تتكون الخاصة من أولئك الذين يملكون سلطة تنفيذية، طبيعية أو مكتسبة : البركة ، امتلاك معرفة دينية ، زاوية، خبرة .... إلى جانب الخاصة نجد الشرفاء ، والشريفية ظاهرة اجتماعية ، يزعمون أن لهم الفضل في الاستمطار ومعالجة الأمراض ويتمتعون بخوارق. رأى فيها الأوروبيون أرستقراطية دينية ، لكن هناك قواسم مشتركة تقرب الوضع الشريفي للوضع الأرستقراطي الأوروبي : الولادة وعدم الإنتاجية ، الإثنان يعيشان على تكلفة الجماعة ، يعفون من الضرائب و يستفيدون من الهبات العمومية والخاصة وبذلك يفوتون مداخيل هامة على الخزينة . ترى ما هي وظيفتهم ؟ لفهم دور الشرفاء لا بد من الرجوع إلى مبدأين : مبدأ النموذج النبوي (السنة) ومبدأ الشفاعة . إذا كان النظام السياسي مبنيا على السنة ، فمن الطبيعي أن أولئك الذين ورثوا النبي ، فيزيائيا ، يرجحون عن الآخرين ، لدور الوساطة الذي يلعبونه ، حيث أن السلطان نفسه ، عندما يريد تسوية تمرد قبيلة أو مدينة ، بالتراضي ، فإنه يستعملهم كوسطاء ، إذن يجب التمييز بين الوظيفة الاجتماعية والوظيفة السياسية للشرفاء والمخزن جد حساس لهذا الفارق . إلى جانب الخاصة والشرفاء نجد أيضا الفقهاء/العلماء ، حيث يشكل الفقه الواجهة الدينية للسلطان لتجسيد معالم الشرع وترسيخ سلطته . وقد تمكن من المأسسة ذلك أن تقنيي الشرع سواء كانوا موظفين أو مربيين ، فإن لهم مورد قار (عائدات الحبوس) . إن حراس العقيدة لا يهمهم إصلاح الدولة ، بقدر ما يهمهم إسداء النصيحة للسلطان لكي يقيم ويحافظ على معالم الشرع ، أن يتقيد بضوابط الشريعة مادام أن الشرع يخدم السلطان بدوام ملكه والحفاظ على الوضع القائم . هذه هي الهندسة العامة لتشكل مصادر وأصول السلطة وتوزيعها داخل الهيكل العام للدولة ، لكن هذه الشبكة الزبونية أضعفت بشكل كبير مبدأ العقلنة وركزت أساليب الريع ولم تحقق موضوعية الدولة التي يجب أن تبقى مفصولة عن ذات السلطان . إذن لم يكتب لعملية الإصلاح هاته النجاح ، لكونها لم تحدث قطيعة مع الماضي ، بل عملت على تثبيت النظام القديم بمميزاته الجوهرية ، مما أدى إلى اتساع الهوة بين دعاة الإصلاح الذي اختلف مضمونه من وجهة نظر الدولة السلطانية التي كانت تعني به تقوية السلطة التي يتمتع بها السلطان لمدافعة الأعداء ، في حين يعني الإصلاح في عين الرعية القضاء على أسباب الانحطاط وفي مقدمتها الاستبداد الذي أدى إلى الجور والاستئثار بالخيرات . السبيل الوحيد لمواجهة العدو هو تقوية المجتمع بالعدل المنافي للاستبداد . لا شك أن هذا التناقض كان من أهم أسباب إخفاق الإصلاح الذاتي . المراجع : 1 عبد لله العروي مفهوم الدولة ، ط 8 /2008 ، المركز ث ع البيضاء ، ص 89 2 ن م ، ص 90 3 عبد لله العروي ، مفهوم الحرية ، ط 6/2002 المركز ث ع البيضاء ، ص 17 4 عبد لله العروي ، خواطر الصباح ج 4 ،ط1/2015 ، المركز ث ع البيضاء ص 117 5 مفهوم الدولة ص 131