{ لم قررتم التقاعد، السيدة ليلى شهيد، مما فاجأ الكثيرين، وأولهم الرئيس محمود عباس؟ لأنني مقتنعة، ببساطة، أنه في كل حياة هناك دورة للأشياء، وهو نفس المنطق حتى في التاريخ. وفي ما يخصني، فقد انتهت دورة حياة، لأني بلغت 65 سنة من عمري. لقد أمضيت 25 سنة وأنا سفيرة لفلسطين. كنت قد قبلت بصعوبة أن يختارني ياسر عرفات، أول سفير امرأة لبلدي سنة 1989، مباشرة بعد اندلاع الإنتفاضة الأولى بالأراضي المحتلة. لقد التقيته في مؤتمر منظمة فتح بتونس، وبادرني بالقول: «إن من روعة الإنتفاضة، أن للمرأة فيها دور حاسم، فهن في مقدمة المشهد، لهذا أحب أن أعين نساء ممثلات لمنظمة التحرير بالعالم لأول مرة». اعتذرت له، متحججة أن حياتي مستقرة بالمغرب إلى جانب زوجي الكاتب محمد برادة. كنت في الحقيقة أتهيب من الإنتقال من وضعية المناضلة إلى وضعية الموظفة. لكنه عمل بالتعاون مع زوجي على «توريطي» وجعلي أقبل المهمة بإيرلندة. بعدها انتقلت إلى هولندا ثم الدنمارك، ثم اليونيسكو، فباريس وأخيرا 10 سنوات الأخيرة ببروكسيل. لقد أحببت كثيرا مسار حياتي هذا، الذي تزامن مع مرحلة تاريخية هامة، عناوينها الإنتفاضة، والأمل في السلام الذي سرعته، الذي كان تتويجه في اتفاقيات أوسلو والعمل الديبلوماسي الدولي الذي تبعها. لقد عشت الأمل الذي فجرته تلك التطورات وأيضا الخيبات التي تلتها بعد ذلك. كنت سعيدة ببروكسيل، لأنني تواءمت مع المواطنين البلجيكيين، وكان التواصل سلسا بيننا. لقد أحسستني بين أهلي، في هذا البلد الصغير المميز. لكنني بلغت مرحلة أصبحت متيقنة فيها أنه لم يعد لدي ما أضيفه على مستوى عملي الديبلوماسي. هذا لا يعني إطلاقا أنني تقاعدت عن قضية بلدي فلسطين. لأنه لدي رغبة في القيام بأمور أخرى كثيرة لصالحها، لم يكن متاحا القيام بها وأنا سفيرة. خاصة في المجال الثقافي والفني والإجتماعي والسياسي، بالتعاون مع المجتمع المدني في فلسطين، وفي الشتات. لقد عرف مسار حياتي مراحل أشبه بتعاقب الفصول. كان عمري 40 سنة حين توليت مسؤولية سفير، لكن نضالي من أجل فلسطين كان قد انطلق في سن 18. لأنني عشت كمواطنة، حظ ميلاد الثورة الفلسطينية في سنة 1965. بل حتى منظمة التحرير قد ولدت سنة 1964، ولقد أصبحت بعد نكسة 1967 حركة تحرير وطنية، لكل الفصائل الفلسطينية عبر العالم. ولدت ببيروت، حيث يتواجد أغلب قيادات المنظمة. فكان من حظي أن أحتك بهم مباشرة، بل وأن أعمل إلى جانبهم، في زمن فاصل من تاريخ النضال الفلسطيني، خاصة إلى جانب ياسر عرفات. وفي ما بين هاتين المرحلتين من حياتي، هناك مرحلة استقراري بالمغرب رفقة زوجي، بين سنوات 1977 و 1989. كنت في حاجة حينها لمسافة لكن انتفاضة 1987، هي التي جدبتني مجددا، فقبلت منصب سفير، مما سهل اتفاقيات أوسلو، التي كان من نتائجها الأكبر عودة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى داخل فلسطين. الآن، اكتملت الدائرة. فاللوكسمبورغ اعترفت بفلسطين ومنحتها حق فتح سفارة [وليس ممثلية]. بلجيكا سبقتها قبل مدة. فأصبحنا فريقا ديبلوماسيا مع سفير على رأسه. هذا أيضا عنوان مرحلة اكتملت. هنا أتذكر بحرقة خاصة صديقي نعيم خضير (ممثل فلسطين الأسبق ببروكسيل المغتال سنة 1981)، الذي للأسف لم يكمل دورة مهمته، والذي شكل اغتياله ضربة للقضية الفلسطينية. { لقد عايشت وضعية الإتحاد الأروبي من الداخل، بكل تناقضات مؤسساته. أي حكم تحملينه عنها اليوم؟ أنا من اخترت المجئ إلى الإتحاد الأروبي. لأنه بعد باريس، وبعد أن حسمت منظمة التحرير في سنوات البقاء في أي مسؤولية تدبيرية في 4 سنوات، سنة 2004، كما هو معمول به في كل العالم، اقترح علي بعد 13 سنة قضيتها بفرنسا، أن أتوجه سفيرة لفلسطين بواشنطن.لكنني سأصدم صديقي وزير الخارجية الفلسطيني حينها، ناصر القدوة، حين قلت له: «شكرا، لكنني أرفض هذا المنصب». (ضحك). كان رئيس الولايات المتحدةالأمريكية، حينها، هو الرئيس جورج بوش الإبن، وكانت حربه ضد العراق مشتعلة، فاعتبرت أنه من غير اللائق التوجه صوب بلد أعتبر أن رئيسه يجب أن يقدم أمام محكمة العدل الدولية لجرائم الحرب. أجابني وزيري أنه قصد تشريفي بمنحي ذلك المنصب في أكبر دولة وازنة بالعالم، لكنه اعتبارا لشخصي مسموح لي اختيار وجهة أخرى. بعد تفكير، قررت اختيار الإتحاد الأروبي، لوعيي بأهميته كاتحاد وبمستقبله، حتى وإن كنت أعتبر بنيته المؤسساتية لا تزال في حاجة إلى التطوير. خاصة، على مستوى السياسة الخارجية، بسبب تباطؤ آلية اتخاد القرار جماعة من قبل أعضائه 28، مما يمنع غالبا، الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية للإتحاد من القيام بمهامها كما يجب. كما قلتم، فالإتحاد الأروبي بنية معقدة وفريدة. إذ لا أشباه لها، من حيث مجلس حكوماتها، بل لقد أصبح للجنة الأروبية اليوم فرع ديبلوماسي (مؤسسة العمل الخارجي لأروبا)، ثم هناك برلمان أروبي يضم 750 برلمانيا عبر انتخابات مباشرة، من قبل الناخبين الأروبيين، لكنه بدون سلطة مباشرة على قرارات مجلس أروبا. صحيح، أنه منذ اتفاقية لشبونة، أصبح للبرلمان الأروبي دور أكبر. لكنني قضيت سنواتي العشر ببروكسيل وأنا أتابع وعد أروبا الموحدة، كمشروع مأمول، حيث النقاش العام غير مخصب كثيرا، عدا بالبرلمان الأروبي. لأنه حين ننتقل من 6 أعضاء إلى 28 عضوا، فطبيعي أن التوسع بعد سقوط جدار برلين، قد كان مزلزلا. ومما أقلقني أكثر غياب التصويت بمجلس أروبا، إذ كل شئ يتم بالتراضي، سواء بالمجلس أو بالبرلمان. ولقد انتهيت إلى التعايش مع منطق التراضي هذا، بعد أن أدركت أن جمع بلدان شرق أروبا مع شرقها، بعد أن فصلهم جدار لأكثر من نصف قرن، لايستقيم سوى عبر تفاهمات، تجمع أكثر مما تفرق. لكنني أعتقد أن على أروبا أن تدرك أنها لا يمكن أن تعتمد إلى الأبد في مشروعها على منطق التوافق، لأنه يصبح أحيانا المبرر المثالي لعدم الحسم في الأمور الذي تستوجب ذلك. علما أن أروبا أمام تحديات تاريخية إزاء شعوبها وإزاء ذاكرتها. ويذهب تفكيري هنا مباشرة إلى المشكل الأوكراني، والأزمة اليونانية، ومشكل اليورو والأزمة المالية، ثم تحديات الشراكة مع البلدان المتوسطية، وكيفية التعامل مع الثورات العربية التي وقعت، لكن التي للأسف، بدلا من أن تفضي صوب ديمقراطيات حقيقية (عدا تونس)، انتهت إلى نوع من «العطب السياسي» مرضي، يرهن الدين، والذي أفضى إلى ميلاد داعش وجبهة النصرة والقاعدة. وهي نتيجة مباشرة للسياسة غير المسؤولة للولايات المتحدةالأمريكية على عهد بوش الإبن وحلفائهن سواء في أفغانستان أو العراق. أي تدميرها للبنى الإجتماعية للمجتمعات الإسلامية والعربية، وتحويلها إلى مجتمعات قبلية تتطاحن في ما بينها، مما ولد استغلالا للدين بشكل سلفي أنتج لنا الفظاعات التي نعايش اليوم، التي لم تعد محصورة في البلدان العربية بل بدأت تصل حتى إلى بروكسيل وباريس وكوبنهاغن، ولن ينتهي الأمر هناك. { كيف ترين علاقة الإتحاد الأروبي مع فلسطين؟ حين اخترت المجئ إلى بروكسيل، كان في ذهني تصور لديبلوماسية داعمة لمؤسسات الدولة. لأن أول من كان يقول بحق تقرير المصير هم الأروبيون بالبندقية سنة 1980. بينما ظل الأمريكيون يؤمنون أن حل مشكل إسرائيل يمر عبر الدول العربية، أي مصر وسورية، بسبب مشاركة جيوشها في حربي 1967 و 1973. بالنسبة لي، أنا التي شهدت ميلاد الحركة الوطنية الفلسطينية بمخيمات اللاجئين بلبنان، فإن الأمر شدني إليه. ذلك أن عبارة «تقرير المصير»، كانت ترجمانا لمطلب شعبي تماهيت مع حلم تحويله إلى هدف قانوني عادل. ففي النهايةن فهو شعب يقول: « أريد أن أتحكم في قدري كشعب، فلست مجرد مشكل لاجئين ينتظرون مساعدات إنسانية. أنا شعب اغتصب وطنه وأرضه وهويته بل حتى اسمه» كما يقول بشكل بليغ المؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر، «وأريد أن أستعيد حقي كشعب وكوطن». لكن علي تحديد مكان الألم الجارح من الأوربيين. فقد كنت أجدني أمام مفارقة تفهم أروبا للعرب أفضل من الأمريكيين، وفي الآن نفسه كنت مرعوبة من شلل أروبا أمام إسرائيل. إذ كما لو أن هذه الأروبا الهائلة، التي عانت ويلات حربين عالميتين، والتي تضم اليوم نصف مليار نسمة، وهي التجمع الجهوي الأغنى في العالم، الذي له شركاء في جواره الجنوبي، عاجزة عن تنفيذ احترام وتطبيق قيمها (حقوق الإنسان والقانون الدولي)، التي هي شروطها لتوقيع اتفاقيات شراكة مع شركائها المتوسطيين، تنفيذ ذلك مع كل الدول على قدم المساواة. إذ، هناك شريك لها يمنح لوحده كل التغاضي أمام خرقه الفاضح لذات القوانين. بل إنها دولة فوق القانون، ما جعلها تصبح دولة مجرمة، وهي إسرائيل. يتخد، عمليا، الإتحاد الأروبي قرارات مهمة في كل مجالسه الوزارية، لكنه يعجز عن تنفيذها من خلال اتخاد الإجراءات الملزمة على الكيان الإسرائيلي. سواء تعلق الأمر بخرق حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يوميا، أو في ما يتعلق ببناء المستوطنات الذي يقوض على الأرض مشروع قيام دولتين، أو في ما يرتبط بتدميرها لكل مشاريع البنى التحتية التي أنجزها الإتحاد الأروبي بتلك الأراضي المحتلة على امتداد 25 سنة الماضية. لأن هذا الإتحاد هو الذي قدم أكبر الإستثمارات (عكس الأمريكيين المتخصصين في المساعدات الإنسانية) من أجل البنى الأساسية لقيام الدولة الفلسطينية. وأنها، عبر لجننا الست لاتفاق التعاون بيننا، قد كونت إدارتنا. فكيف تركت إسرائيل تهدم كل ذلك البنيان؟. بل وأنه ذات الإتحاد الأروبي الذي يلح علينا لتأجيل إعلان «قيام الدولة» بدعوى أن «التوقيت غير مناسب». فمتى سيحل هذا «التوقيت المناسب» إذن؟. حين لا يتبقى أي جزء من الأرض [لبناء الدولة] بسبب زحف المستوطنات؟. بل إن البعض قد بدأ يعلن أن قيام الدولة الفلسطينية غير ممكن، لأنها لم تتبقى سوى بعض الجيوب من الأراضي، موزعة هنا وهناك. بالتالي فالوضعية على الأرض جد خطيرة. { هل هذا يعني أنك تغادرين وأنت مثقلة بالأسف على بعض من طموحاتك التي تم خدلانها؟. إني أغادر، وأنا جد فرحة بالعلاقات التي تمكنت من نسجها مع شركائنا السياسيين، الذين سعدت بالإشتغال معهم. ليس كلهم طبعا، لأنهم لم يكن هناك فقط أصدقاء ضمنهم. لكنني أغادر وأنا سعيدة بما نسجته من علاقات مع المجتمع المدني الأروبي، خاصة في بلجيكا واللوكسمبورغ وفرنسا، حيث عاينت الدعم الحاسم لشبكة جمعيات المجتمع المدني بها وكذا دعم ومساندة البرلمانيين والجماعات المحلية البلدية. مثلما أنني سعيدة بما نسجته من علاقات مع نسيج المناضلين اليهود الأروبيين بتلك البلدان. لكنني أحمل معي مرارة كبرى أنه خلال 25 سنة، بدلا من ألمس تطورا إيجابيا لصالح حقوق بلدي سواء في الأراضي المحتلة أو مخيمات اللاجئين، فإن واقعهم أصبح أفضع وأن الحق في الكرامة والسيادة المحلوم به، يبتعد أكثر. بل إن المأساة الأكبر تلك التي يعيشها قطاع غزة، حيث يجوع أهلها، متروكين لقدرهم بعد 3 حروب مجرمة خلال السبع سنوات الماضية نفدها ضدهم الجيش الإسرائيلي. وأنه رغم الوعود التي أطلقها المؤتمر الدولي حول غزة (5 مليارات دولار) فلاشئ منها تحقق. بينما ساكنة القدس ضحية، من جانبها، طوق المستوطنات التي تنبث كالفطر شرق المدينة وحتى في قلب الحي العربي حيث تم بناء جدار عال ب 9 أمتار يعزل المدينة المقدسة عن الضفة الغربية. الضفة التي لا تزال مقسمة بين المجموعة «أ» و»ب» و»ج»، 16 سنة بعد 1999، التي كانت اتفاقيات أوسلو قد حددتها كسقف زمني لانتهاء المرحلة الإنتقالية (وكان ممكنا بفضلها إعلاننا لقيام دولتنا)، والتي أصبحت اليوم أشبه بغيثوهات محاصرة لدولة مهلهلة. بينما يفضل لاجئونا في لبنان وسوريا أن يركبوا البحر في ما يشبه الإنتحار بدلا من تحمل حياة أشبه بالأبارتايد، حيث حتى عبارات الحنق أو الغضب أو الأسف غير كافية للتعبير عن مرارة حالنا الفلسطيني. إنني أغادر مثقلة بإحساس بالمرارة والغضب. بالمرارة لأنني أقتسم مع أبناء بلدي مصيرهم، ونحن لا نستحق هذه الطريقة التي يعاملنا بها المنتظم الدولي. وإحساس بالغضب لأن شعبنا له الحق مثل باقي شعوب العالم، في الحماية تبعا لما يفرضه القانون الدولي واتفاقيات جنيف. ونحن لسنا في حاجة إلى إصدار توصيات جديدة، فالعديد منها موجود بالأمم المتحدة وبالإتحاد الأروبي. والجميع يعرف جيدا ما هو الحل، لكن لا أحد يمتلك الشجاعة لتنفيذه على أرض الواقع. أي قيام دولتين جنبا إلى جنب، ونحن من اقترح ذلك على إسرائيل وليس العكس كما تدعي هي. بالإعتراف بالدولة الفلسطينية هو حق لنا وواجب على المنتظم الدولي لأنه سيحمي الأراضي المحتلة من الإستيطان المتنامي الذي سيقوض نهائيا حل الدولتين. مثلما أنه سيحمي المدنيين من الإنتهاكات العسكرية الإسرائيلية اليومية. والتاريخ وحده من سيحكم على شجاعة أو جبن المنتظم الدولي. سأنخرط، من جهتي، في مبادرات تساعد (مع إخوتي وأصدقاءنا بالعالم) على تعزيز إصرارنا وابتكار سبل فعالة لمجتمعنا المدني الغني الرائع أينما تواجد سواء داخل فلسطين أو في بلاد الشتات. إنني مؤمنة أن شعبنا له الكثير من الطاقات والإصرار على الحياة للنصر ذات يوم. وسأكون أقل غضبا وأقل أسفا، حين نجد السند، من قبل الآخرين في معركتنا هذه.