وقفا عن الحداثة: قد لا تعني الحداثة في العالم العربي أكثر من كونها استهلاك وإعادة إنتاج المنتج الغربي. ومماثلته على أرضنا الثقافية والاقتصادية والسياسية وكذا الفنية.. في تمظهرها العام. كأننا وهذا أمام عملية إعادة الإدماج فقط، لا هي عملية استدماج وتطوير وتغيير..! وهذا ظاهر بشكل واضح في أعمال غالبية الفنانين التشكيليين بالمغرب. سواءً لكونهم خريجي المدارس العليا الأوروبية، غير ملمين بالثقافة والفن المغربي (والعربي)، أو خريجي بعض المؤسسات الفنية بالداخل،غير المهتمة أو تعتقد بالقطيعة مع كل ما هو له علاقة بالثقافة العربية. أو هُم يتوهمون أن الحداثة في أعمالهم تكمن في مدى قَطعهم مع الثقافة الأم وموروثها "الجمالي". وانصرافهم عنها إلى حداثة تحاكي الأوروبية بامتياز. لا نقصد بالموروث الجمالي، أبدا، كل أثر السلف، بل إنما هو عندنا كلّ ما له علاقة بتلك الرؤية الخلاقة للعالم، للمحسوسات والماديات.. أي كل ما ينصرف ليلامس الحس الرهيف في الذائقة (البَصيرة) الإنسانية الطامحة للتجدد واحتواء العالم، عبر طابع جمالي والارتقاء والتسامي بالذات والفرد.. وأليست الفردانية إحدى أساسيات الحداثة؟ للإشارة فقط، فعملية التحديث بما معناه صيرورة في الزمن الفعلي والعملي، انطلاقا من نقطة بدء زمنية معينة، كما شاهدته أوروبا، لم نعرفها ولم نعشها "نحن" في واقع الأمر.. بل ما شاهدناه هي عملية حداثة فردية، مقترنة بالفرد الواحد فقط، غير قابلة للتنقل عبر الزمن.. إلى عهد قريب في القرن الماضي، وقوفا عند ما نسميه "بصدمة الحداثة"، هذه الصدمة التي كان التشكيل أحد أطرافها. إن عملية الرجوع إلى التراث الذي نحن دعونا إليه، ولازلنا متشبثين بها موضوعا لتناوله فنيا وثقافيا، ما هو إلا رجوع رمزي، غاية في استدماج ما هو لائق في التراث مع الوضع الحداثي، لاستشعار هويتنا الخاصة بعيدا عن الارتباط بهويات لا يربطنا بها سوى حبل غيم خفيف، قابل للاندثار وأول حرّة شمس في ربيع ينحو إلى صيف. وهذا لا يعني البتة التشبث بالتراث الميتولوجي والبقاء رهنين عنده.. بل إننا ندعو إلى إحداث "صدمة ثانية" عبرها نقطع أواصر الارتباط به نهائيا، ونبتعد بالتالي عن جل تأويلاته التي لن تدفع بنا إلى الأمام والتقدم... التقدم بما معناه التغيير إلى الأحسن والأفضل والارتقاء، لا التقدم إلى الخلف. بعيدا عن الرؤية الفلسفية التجريدية التي اتخذنا منها منطلقا للتنظير والتقريب لرؤيتنا فيما نراه الأقرب لمفهوم الحداثة.. نرمي هنا إبراز رؤيتنا للحداثة في بعدها الفني (العربي).. فنقف عند الفنان التشكيلي المغربي "مبارك عمان"؛ الذي عنده تكمن أسس وبدايات الحداثة على الارتكاز على الرجوع إلى الأصل الأول (البدائي)؛ إلى المادة الإنسانية في طراوتها في مختبرها الكوني الأول (الكهوف)، في علاقتها الأولى بالعام الخارجي، الذي بدأت تستشعره وتعبر عنه وتؤخره "رسما".. إنها علاقة الإنسان البدائي بعالمه.. هذه العلاقة التي انبثق منها الأسس الأولى للهوية الفردية والإنسانية. سؤال الهوية والرجوع إلى الأصل الأول: يقول الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو أن العودة إلى حالة الطبيعة، إلى الإنسان الأول.. هو بالضرورة عودة إلى حالة السلم والهدنة مع الذات والطبيعة.. ولكننا نسأل كيف يمكن لنا هذه العودة في زمن "ميتافيزيقا التقنية"، كيف لنا ذلك في زمن ما يحدد سلمنا هو امتلاكنا للقوة؟ قد لا يبدو بديهيا أن نقول أن هذا له أن بكون عبر "الصورة" أو عبر "الرؤية" و"التأمل".. إننا لا نستطيع الهروب من التقدّم الحضاري المبني على "التكنولوجي" و"المعرفي".. لهذا سنقع في ازدواجية تضاد وتناقض.. غير أن الفن المحتوي "للصورة..." (لونا وشكلا وظلا) هو مفتاحنا لهذه العودة، العودة للذات أي العودة لأسس الهوية الأولى؛ مبارك عمان فنان تشكيلي أخذ على عاتقه هذا السؤال: سؤال الهوية. والتعبير عنها، وتلك الرؤية الفلسفية الرائية بالرجوع للطبيعة: رجوع للسلم. الطبيعة البدائية بما فيها الإنسان الأول، يجعل منها هذا الفنان مشروعه الفني الذي يُشكّلهُ. ما يعمل عليه مبارك عمان وغيره من الفنانين التشكيليين الذين يتجهون إلى هذا المصب، ليس إحياءً للموتى ولّى زمنهم وانقضى، بل هو إعادة طرح سؤال الهوية في الزمن الحديث: زمن الحداثة. سؤال الهوية الذي بات ملحّاً علينا طرحهُ وإعادة طرحه.. والوقوف عنده غايةَ الخروج بصورة واضحة لمَعالم الهوية العربية. في ظل التطور والتحديث اللذين يعرفهما العالم اليوم. الهوية العربية التي باتت مشوشة، بعد أزيد من خمس قرون من الانقطاع عن مَجْد ولّى سريعا، فيه حُدّدت الركائز الأولى لهذه الهوية. إننا لن نستطيع الإجابة عن سؤال الهوية دونما الرجوع إلى التراث، ومنه إلى البناء الأركيولوجي الأول للكائن. لا نقصد إحياءه بل مُساءلته. والعملية الفنية هي الأداة الفعّالة في هذه المساءلة، لما لها من إحداث "تصادم" بين الماضي والحاضر. هذا ما يُحاوِلُه الفنان مبارك عمان في هذه الحالة، من إعادة استقراء للماضي وإعادة تحويره وتركيبه، على حسب من نحن عليه من حداثة. إن عدم البحت عن هوية خالصة وخاصة، ولو في بعدها الفني، والاتجاه مباشرة إلى مدارج ما نسميه "ما بعد الحداثة"، وعدم تقعيد حداثة مبنية على هوية خاصة، لهو ضرب من الجنون، المؤدي إلى الانهيار.. إنّ "ما بعد الحداثة"، تيار حداثي لا هو بمعزل عن الحداثة، إلاّ أنه قائم بذاته، ومنبثق عنها، عن الحداثة الأوروبية/الغربية، إنه وليد الفن الشعبي/البوب آرت، هو بذلك انتقال غربي خالص، لا يعنينا إلا من حيث أننا علينا الإحاطة به والإلمام بمآلاته. لهذا إنْ نحن أردنا الانتقال لما بعد حداثة عربية، علينا تقعيد حداثة عربية أصيلة، وإنْ أنّ الحداثة بشكل من الأشكال قد ولجت عالمنا العربي، مع ما نسميه ب"الصدمة الأولى" في عهد الاستعمار الغربي، إلا أنها "حداثة مُعوْلمة": وليدة العولمة. وأليست العولمة قضاء على "الهوية" وإحلالها داخل هوية المنتصر؟ فإن أدركنا أن الحداثة ارتبطت بالعولمة، في القرن المنصرم، فهل سنظل متمسكين بالوصول إليها؟ ظلت الهوية هي اللامفكر فيه في الثقافة العربية-الإسلامية، لارتباطها المتشدد باللاوعي "الجمعي" لما له علاقة بالبعد "اللاهوتي". فالفردانية تعني غياب هذا الأخير. لهذا سؤال الحداثة هو أيضا ظلّ مُغيّباً. يعمل عمان مبارك عبر ألوانه الترابية وأشكاله ال"حفرية"، وأبحاثه في الماضي على إعادة الاعتبار للفرد في بداياته الأولى، غاية في إعادة تأصيل سؤال ابستمولوجي عن الهوية، ومنها عن الحداثة. إن أعمال الفنان المغربي مبارك عمان، نوع من سبر أغاوير الماضي والسفر، غير أنه سفر ساكن: حركة ساكنة. ألم يقل لاو تسو: "من غير أن نسافر بعيدا، نستطيع أن نعرف العالم كله". إن السفر هو حركة في الزمن، والزمن هو حركة في مكان، وإن ضبط المكان وحصره في "الصورة"/ اللوحة، لهو حصر للمكان، وسفر دون حركة... سفر هو إلى تأصيل الهوية في جذورها، وتقعيد الحداثة في بدايتها.