«ذاكرة متشظية»، كتاب جديد للكاتب المغربي سعيد عاهد المتعدد في واحد، في محو الدهشة وكتابة التفاصيل ، بلونه البني الذي يحيل على الحزم والإمساك والصمود الهادئ.. قرأت سابقا (مايشبه الجنون) ذات توقيع بالجديدة، ثم (قصة حب دكالية) وكتابه الجماعي (حارس ظله) احتفاء بتجربة الشاعر سي محمد عنيبة الحمري ثم (الفتان) محكيات من سيرة المدعو بوحمارة ... (ذاكرة متشظية) منشورات اتحاد كتاب المغرب 2015 , اقتنيتها من معرض الدارالبيضاء الأخير ، ضمن مجاميع أخرى وحين هاتفني العزيز السعيد بخبر توقيعه ، قلت أني لم اقرأ الكتاب بعد وهو ضمن كتب أخرى تنتظر، وتلك عادة سيئة، أبدأ بالأبعد ثم الأقرب . لكل كاتب قلت ، محطة تأملية ولكل كاتب أسلوب كتابة كما لكل قارئ أيضاً أسلوب قراءة ، الكتابة الجيدة دليل قراءة جيدة كما يقال . ثمة علبة سوداء عصية التشفير يكتنفها صاحب المحكيات الدكالية والذي يقيم بين لغتين كما أشار العزيز بلعباس ، لغة تشده إلى رحم والأخرى، بطاقة سفر ، يكلمنا من خلال أقدار الآخرين. إنه كتاب بلسان مزدوج مهدى إلى الطيب الذكر والمقام المرحوم عبد الكبير الخطيبي ، لوحة الغلاف للفنان ولد باب الله سي عبد الكريم الأزهر . يبدأ الكتاب بإضاءة هي مفتتح: ( في ثنايا الصفحة المتناهية وما قبلها، ظل الوقت ينحت علامة استفهام نصب أعين الوقت، مستعيدا تعب صوتي الذي لا يقول غير استعادة غير مرتبة لبعض المرارة...؟) (ص 5). ويضيف قبل الختم (لحسن حظنا لسنا آلهة ، لان الآلهة بمفردها تستطيع العيش بدون ذاكرة ، ونحن، بدون بعض من شظاياها ، مجرد حباحب). لا مفر من الكتابة إذن، الكتابة إدانة للواقع ، أن نفكر في أعطاب مدن المغرب القروي، استحالة بمكر دكالية أن تتحول من قرع إلى جبن ، ( كون كانت القرعة فروماج كون دكالة هي الأولى في الإنتاج )، لكنها مشروطة كما يقول، برهان السؤال النقدي والأرق الإبداعي الذي أنجب مبدعين ومفكرين كبار ... في النص الثاني يتحدث المدعو سعيد عاهد عن ثلاثة لقاءات مع الخطيبي والذي لا زال يحتفظ بنسخ الذاكرة الموشومة في طبعتها الأولى وغلافها الأخضر . في كل فصول الكتاب ( الكاتب وظله ) يسائل الخطيبي في وصيته، بحيث تحضر مقولة (التحاب) التي نحتها الراحل بقوة كقيمة للتعايش وحرية التفكير والتواصل . يتحدث عن المرحوم ، عن المشترك بينهما، كإنسان أحب الحياة وأحبته الحياة في أسفار لا حدود زمنية أو جغرافية أو لغوية لها . ثم عن المؤسس المزدوج (أحمد الصفراوي)، صاحب (صندوق العجب) و(سبحة العنبر). وهو المؤسس المزدوج، كما يقول، عبر مهادنته للغة الآخر وتصالحه معها، مما شرع الباب للاحقين لافتضاض بكارة هذه اللغة وطي صفحة الانصياع لآلياتها الباريسية (ص30). نكتشف السارد الذي يختفي في جلباب الشاعر والمترجم والمثقف الذي يوجه العلامات المضيئة بقراءاته ، يتحدث بشغف واستطراد عن : روب غرييه، وعن تمثال لوركا، وإيكو والحق في تجاهل كرة القدم، ومسبح كافكا ... عن السينما والكتابة التي تستطيع تصوير الواقع وجعله مدركا من قبل القارئ (ص31): في السينما فسحة ، استراحة من وجع الكلمات. نكتشف القارئ المتلصص الخبير العارف المدهش، في حضرته نصبح منشدين ( أكثر الأفراح حزنا / أن تكون شاعرا / كل الأحزان الأخرى لا قيمة لها حتى الموت ...). هذا المتعدد لم يترك سيرة الموت دون الحديث عنه في نصوص متتالية: مسبح كافكا، وعشر جرعات على شاهدة قبر الصديق الرباني، والموت دائماً على خطا (ص67). يقترح علينا هذا السعيد أن نسافر في ملكوت الحرف مشحونا بالسؤال عبر نصوص عابرة لقارات القول، وتيماته عصية على التجنيس، ومفارقاته فادحة ماكرة ... مقطرة. يأخذنا عنوة إلى أشعار وماكينات وترجمات ومتابعات صحفية تحكي ( موتنا) وضياعنا وانتماءنا (ص 89و90 ) بتواطؤ مع أفق الانتصارات والانكسارات والخيبات المتكررة التي تسرق منا الارتياح المريب ... مثمن بالجراح والدعوات، حتى أننا نصادف نصوصا على تعددها وتنوعها ممزوجة بدموع المآسي، تاوهات جارحة.. نصوص تضج باهتمامات إنسانية متفردة ً( عضر جرعات مرارة على شاهدة قبر الغرباني)، طالعة من معلوم ويد موسومة بحرفية الكتابة وحديقة الصداقة ، اليد التي تصنع الكتابة ، تتألم أكثر، تصنع ذاكرة متشظية. اختتم بالتساؤل: هل تمثل الذاكرة مصدرا للحقائق وهي تشتغل أو تحول المخزون إلى تجربة الكتابة ؟ ما هي حدود الواقعي في فعل التذكر ؟ هل تسعف الذاكرة بكل ما هو موجود، مع العلم أن الذاكرة ذاكرات : ذاكرة الجسد والرغبة واللغة والمقروء والواقع متلائمة والأفق؟ ... يحيلها الكاتب المتعدد بروح غنائية وشعرية باذخة وسلاسة لغوية حميمية وثقافة عالمة عالية حيث تشكل الكتابة حديقة غناء وغنية، هي بدون شك ذاكرة متشظية، هي حوار عوالم سعيد عاهد لبناء عالم فيه ما هو مشترك مع الآخرين، المتميزين أحياءا وأمواتا ، ومتفرد لإنتاج نص الإمتاع والمؤانسة عبر فيض من الأسئلة . كتاب مغر بالقراءة، بقدر ما يفيدك بقدر ما يهبك من عصارة ثقافة الكاتب ويشدك إلى معمارية الأصل والفرع والانتباه وتذكر جذور النسب والقرب والمشترك . ألقيت هذه الورقة في حفل توقيع المجموعة مساء السبت 25 ابريل 2015 ببهو فضاء لوسكول بفندق فرنسا التاريخي بالجديدة، المنظم من طرف جمعية مازغان المهتمة بتراث المنطقة والحفاظ على ذاكرة المدينة.