وأنت تبحر في مختلف كتابات سعيد عاهد الكاتب والمترجم والشاعر والصحفي يستوقفك بإعجاب شديد منهجه في البوح وتستفزك بفرح مثير طريقته في التعبير.سلاسة وتركيز وقنص للتفاصيل الدقيقة وجرد للرؤى والتصورات بحرفية شديدة ونسج جميل لشاعريته المرهفة سافر سعيد عاهد وسافرنا معه في شتى مجالات الأدب والمعرفة والسياسة.أبدع في الشعر بلسانين،وكتب في المحكيات بتفرد شديد من خلال عمله الرائع»قصة حب دكالية» وأبدع في الترجمة بحرفية جميلة.وشارك أيضا في عدة مؤلفات جماعية بنصوص متميزة كان آخرها الكتاب الجماعي:»ولدت غدا:تحية ل:عبد الكبير الخطيبي.» هذا المؤلف الجديد الموسوم ب «ذاكرة متشظية» الصادر حديثا عن منشورات اتحاد كتاب المغرب لا يخرج عن هذه الحقيقة.فالكتاب عبارة عن «نصوص بلسان مزدوج مهداة إلى عبد الكبير الخطيبي».عبد الكبير الخطيبي الذي يعتبر أحد العلامات الفكرية والأدبية التي أثرت إيجابيا في المسار الإبداعي للكاتب سعيد عاهد. ويتجلى ذلك من خلال ولعه الشديد بمؤلفات عبد الكبير الخطيبي ابتداء من «الذاكرة الموشومة» إلى غاية مؤلفه الأخير:»الكاتب وظله»و من خلال حواراته معه وترجماته لبعض نصوصه من بينها فصول من «Par-dessus l?epaule «.يحكي الكاتب سعيد عاهد عن قصة افتتانه وتأثره بالكاتب عبد الكبير الخطيبي وهو لا يزال تلميذا في إعدادية أبي شعيب الدكالي: « منحتني (أستاذة اللغة الفرنسية) نقطة 9/10 في مادة الإنشاء بعد اختبار كان موضوعه: «صف مدينتك في حوالي ثلاثين سطرا». لكنها علقت قائلة: بقدر ما توفقت في توظيف لغة فرنسية واصفة دقيقة ومنتقاة مع الانتباه إلى عدم ارتكاب أخطاء إملائية واحترام علامات التنقيط، بقدر ما أصدرت حكم قيمة لا أوافقك إياه بتاتا! أجل، كنت قد كتبت، في سياق التنميق اللغوي للحصول على أعلى نقطة في القسم، بأن الجديدة مشروع دوار حضري «Un projet de Douar citadin «. أضافت أنها غير متفقة مع توصيف تلميذها ل «مهدومته» التي ليست، بكل تأكيد،»مازاغانها». قرأت، وهي لا تكلم صاحب السروال القصير مباشرة، بل توجه الكلام إلى الحاصل على النقطة الثانية، مقطعا من «الذاكرة الموشومة» الذي كان الخطيبي قد أصدر طبعتها الأولى في سنة 1971. علقت قائلة: - «هل مدينة تلد كاتبا من هذا العيار، يتلاعب بالفرنسية أفضل من أبنائها، يهب كلماتها الحياة، أهذه المدينة مجرد مشروع دوار حضري؟» انتهت من الحديث عن الخطيبي، لغته وبعض من سيرته، التفتت اتجاهي ومدت يدها لتهديني نسخة من الطبعة الأولى للرواية/السيرة الذاتية بغلافها الأخضر، أهدتني إياها ولم تمت. تلك النسخة التي ما زلت أحتفظ بها، رغم غلافها الممزق وصفرة صفحاتها، زودت بها ابني البكر حين استشارني في اقتراح نص مكتوب مغربي باللغة الفرنسية عليه ليقرأه، مؤكدا له: - «Ça s'appelle revient!» منذ ذاك، لم تعد «جديدتي» «مشروع دوار حضري»، بل استحالت حاضرة، ومعها جارتها أزمور، حاضرة أيام كانت فاس مجرد «قرية». ومنذ ذاك، قررت أنني سأهاجر في اللسان وأنتفض ضد هويتى اللغوية المفترضة ، وأن يكون أول كتاب أنشره باللغة الفرنسية، وهو ما سيحدث بالفعل بفضل الأستاذة وعبد الكبير الخطيبي. «(ص. ص.9 و10). تتوسط الكتاب لوحة رائعة أنجزها الفنان التشكيلي المتميز عبد الكريم الأزهر الذي قام أيضا بتصميم الغلاف. بالإضافة إلى «الإضاءة» التي تمثل مدخلا جميلا للكتاب ،يوجد 17 نصا من بينها: «ثلاثة لقاءات مع الخطيبي»،»رفاق الخطيبي الذين لن يصاحبهم أبنائي»،»هكذا تحدث روب غرييه». «لا مفر من الكتابة»، ولا يمكن للمرء أن يعيش بدون ذاكرة،»فالآلهة وحدها من يستطيع أن يعيش بدون ذاكرة « يقول سعيد عاهد وهو محق في ذلك. وبالفعل، فرغم الشجون في بعض الأحيان ، لابد أن ينتابك ،وأنت تتصفح هذا المؤلف الذي يؤرخ بطريقة أو بأخرى المسار الإبداعي والمهني وكذا الإنساني للكاتب، شعور بأن الذاكرة هي من يكتب ،هي من يحكي،هي من يجادل،من يناقش ومن يسترجع.علامات فكرية ،فنية وأدبية وشخصيات يتذكرها الكاتب بنوع من الحنين والإعجاب والمحبة على غرار الخطيبي،كافكا،الغرياني وفونتيس،السوسدي ،أحمد الصفريوي ،لوركا ،ميشيل سير،عبد الله بلعباس، وغيرهم. ويحكي الكاتب أيضا عن أحداث ومواقف لا زالت محفورة في ذاكرته بتأثر بليغ. «ذاكرة متشظية» مؤلف مثير وعجيب وفتان لأن به نصوصا جميلة بلغة أخاذة وسرد ممتع يشبه الكتابة عموما لدى المبدع المتعدد سعيد عاهد. وشم في ذاكرة تتشظى نصوصا تناثرت بصدق المبدعين الحقيقيين.أحال صاحب المؤلف بالخصوص على مؤلفين للكاتب والمفكر عبد الكبير الخطيبي وهما «الذاكرة الموشومة» الصادرة سنة 1971 و»الكاتب وظله» وهو آخر مؤلف للراحل وصدر سنة 2008 أي شهورا قليله قبل غيابه.هذه الإحالة ليست اعتباطية لأن سعيد عاهد من خلال حواراته ونصوصه المختلفة وترجماته يتبين أنه يكن احتراما وتقديرا لعبد الكبير الخطيبي ولأعماله.وبالتالي فهذا التقدير والافتتان انعكس بشكل ملموس في هذا المؤلف المتميز.فأنت تغوص في ثنايا كتابه،لا بد أن يشدك الانطباع على أن «ذاكرة متشظية» هو مزيج من الذكريات والأحاسيس التي حفرت في ذاكرة الكاتب وكذا هو مجموعة من التصورات حول مفكرين،أدباء،أصدقاء ،زملاء وفنانين طبعوا مسيرة الكاتب سعيد عاهد الأدبية والإنسانية الحافلة بالعطاء والتوهج. «ذاكرة متشظية» مؤلف ينطبق عليه ما يقوله عبد الكبير الخطيبي في تعريفه للذاكرة: « هي تأسيس للذات ولكنها في نفس الوقت مستقبلية لأنها تساؤل حول الزمن والحياة والموت وأيضا المستقبل العالمي التقني،العلمي......إلخ. الذاكرة ليست كالهوية شيئا جامدا او ميتا،ولكنها كالحاضر في المستقبل.فالماضي متغير،ليس هناك ماض مطلق ولا منتهي،هو كالهوية مجموعة من الآثار والبصمات تكون الذات وتكون الموجود كخريطة من آثار هي مرة أخرى مستقبلية (مجلة كتابات،1990 -العدد الخامس-،ص.10). يدعو الكاتب سعيد عاهد ذاكرته إذن لاستنباط الذكريات لينسجها بلغة شاعرية جميلة وسلاسة لا مثيل لها.الانسيابية ديدنه في الكتابة .لا تكلف في كتاباته ولا تصنع. «ذاكرة متشظية» هو احتفاء بمبدعين حقيقيين ،أصدقاء،فنانين،أقارب رافقوا الكاتب سعيد عاهد في شتى الحالات الإنسانية،المعرفية أو المهنية، وظلوا خالدين في وجدانه وذاكرته وإن رحل البعض منهم. مؤلف»ذاكرة متشظية» هو ولادة متجددة لمبدعين حقيقيين وأصدقاء آمن بهم الكاتب سعيد عاهد وأحبهم ولم ينسهم أبدا.وهو تجديد الوصال معهم بقلب معم بالفرح والفخر والأمل وعبر نصوص «لذيذة» بتعبير رولان بارث Roland Barthes و»عنيفة» بلسان الناقد الفرنسي مارك كونتار Marc Gontard. إجمالا، يمكن القول أن مؤلف»ذاكرة متشظية» يندرج ضمن مشروع الكتابة لدى صديقنا الكاتب الجميل سعيد عاهد الذي بدأه منذ سنوات وينطبق عليه ما يعبر عنه عبد الكبير الخطيبي في إحدى حواراته: « الكاتب والكتابة ليسا إحساسا مطلقا والفكر منطقا مطلقا ،الكتابة في رأيي خطوة منسجمة بين الإحساس والفكر،بين التساؤل والكشف (L?esprit d?intervention ،فإذا تتبعت هذه الخطوات في مؤلفاتي تجد طبعا،قصصا،روايات،ومسرحية وشعرا،فهذه المؤلفات كلها لديها خط.» (مجلة كتابات،1990 -العدد الخامس-،ص.10). قدمت هذه القراءة خلال حفل توقيع الكتاب المنظم من طرف جمعية «مازاغان الجديدة للتراث» يوم 25 أبريل 2015 بفندق «فرنسا» التاريخي بالجديدة.