في التجمعات الحزبية الأخيرة، وفي اللقاء الذي نظمته بعض الأحزاب المغربية للتداول في موضوع مسودة الوثيقة الجنائية المقدمة من طرف وزارة العدل، كمشروع قانون جنائي يساير ويواكب المستجدات على المستوى الوطني والدولي، لم يتورع وزراء من الحكومة الحالية في التلميح تارة والتصريح تارة أخرى إلى أنهم بمشروعهم ومرجعيتهم وتعديلاتهم يمثلون الرأي العام الوطني بل ذهبت الجرأة بوزير العدل والحريات الأستاذ مصطفى الرميد إلى اعتبار النقاش الدائر حاليا في هذا الموضوع والتداول والجدل المفتوح في أوساط المجتمع المدني والحقوقي ولدى قضاة ومحامين ومواطنين لايهم سوى هؤلاء الذين يمثلون المجتمع أما الذين لا يمثلونه (المعارضون للتعديلات) فلا يعنيهم هذا النقاش من بعيد أو قريب لأنهم خارج دائرة الرأي العام الوطني، كما اعتبر هذه الأقلية العلمانية في المجتمع بضجيجها وانتقاداتها مجرد صدى لتوجهات ايديولوجية وسياسية يعرفها كما يعرف أصابع يده، فمن حق وزير العدل والحريات أن يصرح بما يختار بحرية معايير تصنيفاته وتعريفاته لكنه لا يستطيع أن يخفي قصورا كبيرا وجهلا واضحا في تمثله ل "»الرأي العام«" والعناصر المكونة للتعريف الموضوعي المتضمن لكل الاعتبارات العلمية والموضوعية في تحديد وتعريف »الرأي العام« والتي لا يمكن اختزالها فقط في التعبيرات الظاهرة التي تمثلها بعض الجمعيات والهيئات المدنية والحقوقية وأحزاب ونقابات وجمعيات سياسية تتقاسم مع الحزب الحاكم قناعاته واختياراته، وانطلاقا من هذا التصنيف والتعريف القاصر بشر السيد مصطفى الرميد بأن الرأي العام المغربي وعن طريق صناديق الاقتراع سوف يساند ويدعم التوجه الحكومي في شأن التغييرات والتعديلات الواردة في مسودة القانون الجنائي والمتعلقة بصفة خاصة بإعادة النظر في الأحكام المتضمنة في القانون الجنائي والتي تهم الزنا بشقيه المتعلقين بالفساد والخيانة الزوجية والحكم بالاعدام والافطار نهارا بدون عذر شرعي خلال شهر رمضان والسكر العلني. ولقد دعا وزير العدل أن صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة سوف تنصف الحكومة والقوى المحافظة في المجتمع في صراعها مع العلمانيين ومع كل القوى الحية في البلاد والتي بدورها تناهض كل مساس بالحرية الفردية وحقوق الانسان في الحياة والكرامة والمساواة، كما أن هذه القوى تعادي هيمنة النزعة الذكورية في المجتمع وهيمنة أساليب العنف المادي والرمزي على المرأة. وأبرز مظاهر هذا الظلم والقهر والاستبداد جواز تعدد الزوجات وتحريم الإجهاض ورفض إمكانية تقنينه، وفي تجمع خطابي بإحدى مدن الجنوب صرح السيد نبيل بن عبد الله وزير الاسكان في الحكومة الحالية بأن صندوق العجائب للاقتراع سيكون هو الفيصل بين الأحزاب المشكلة للحكومة الحالية والأحزاب المكونة للمعارضة في شأن كل القضايا الخلافية بين الطرفين وخاصة في التشريعات والقوانين التنظيمية للانتخابات وضرورة الاسراع في انزالها وأجرأتها وتحديد تواريخ الاستحقاقات المقبلة وضرورة استئناف الحوار الاجتماعي وغيرها، وكذلك أسباب البوليميك الحاد بين نواب المعارضة في البرلمان ورئيس الحكومة وخاصة في الجلسة الأخيرة للبرلمان والمخصصة للمساندة الشهرية، كما صرح الوزير الأول في الآونة الأخيرة في حوار محتدم مع الأستاذ الصبار عن المجلس الوطني لحقوق الانسان بأن الشعب سوف ينصفنا وذهب إلى حد اجازة القتل في حالة وقوع الزوجة في حالة تلبس بالخيانة الزوجية، ونفهم من كل هذه التصريحات مدى انتشار الأحزاب المشكلة للحكومة من صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ومدى تفاؤل بعض الوزراء وثقتهم في الصناديق الانتخابية القادمة عندما يبشرون بانتصار واعد وفوز كاسح في الاستحقاقات القادمة معتقدين ومقتنعين بأن الصناديق الانتخابية »السوداء« تفرز من المعطيات من أوراق وأرقام وعدد الأصوات المعبر عنها، ما يعكس إرادة الشعب وتترجم نبض الشارع وتعبر عن مصالح الشعب وطموحاته وآماله وأحلامه، وسوف لن تذهب بعيدا في الزمان والمكان لكي نذكر بأن صناديق الاقتراع بالسودان الشقيق أفرزت مؤخرا معطيات بالأوراق والأرقام والأصوات تعطي الفوز الساحق للرئيس عمر البشير لولاية خامسة وذلك بنسبة 94% من الأصوات، علما أنه لا يجب أن يفهم من هذه المعطيات بهذه النسبة أن الشعب السوداني الشقيق اختار عن اقتناع وطواعية ووعي مجرم متهم بالإبادة العرقية لحوالي 300 ألف سوداني خلال الحرب الأهلية بإقليم دارفور، وتوبع من طرف المحكمة الجنائية الدولية بتهمة جرائم حرب وإبادة عرقية، ولقد عبرت منظمات حقوقية وإنسانية ودول ديمقراطية عن استنكارها لما يجري في هذا البلد الشقيق من غياب لشروط إجراء انتخابات نزيهة وشفافة ومحايدة في هذا البلد الافريقي العربي والمنهك بالصراعات العرقية والدينية والسياسية. ولقد وظفت الأنظمة الديكتاتورية والأوليغارشية والعسكرية في الكثير من بلدان العالم الثالث، اللعبة الديموقراطية باعتماد صناديق الاقتراع في تلميع صورتها، كما وظفت آليات أخرى كمساحيق لتسويق نماذج لديموقراطية الواجهة للاستهلاك الديبلوماسي والإعلامي، وللكذب وإلهاء واستبلاد الشعوب المستضعفة والمستلبة. ولهذا فاللجوء الى صناديق العجائب والغرائب في كل البلدان الخاضعة للأنظمة والأساليب الديكتاتورية في الحكم في العالم الثالث، هي أكبر كذبة وأكبر ذبحة للديموقراطية. وشهد المغرب خلال الانتخابات التشريعية في بداية الستينات وانتخابات منتصف السبعينات انتهاكات جسيمة وتزويرا فاضحا وشنيعا لإرادة الشعب المغربي حينما استعملت وزارة الذاخلية في عهدي الجنرال أوفقير وادريس البصري، كل الوسائل للدفاع عن مخزنة الدولة والنظام السياسي القائم بما في ذلك أساليب الترهيب والتخويف والقمع والتخوين واستنهاض القوى المحافظة والمعادية للتغيير والتحرر والانعتاق. وهكذا وجد المواطن المغربي البسيط نفسه وخاصة في المغرب القروي تحت رحمة وسلطة وسطوة اعوان السلطة من مقدمين وشيوخ أسندت إليهم مهمة إحصاء الانفاس وتتبع تحركات وسكنات واحلام المواطن المغربي البسيط. كما أن هذا الاخير متشبع في تربيته وتنشئته الاجتماعية بثقافة شعبية تقليدية رسختها ودعمتها وسائل آليات ايديولوجية ويسخرها ويوظفها النظام الحاكم آنذاك لإدماج المواطن واخضاعه وتدجينه واستلابه. كما يقع هذا المواطن المغلوب على أمره ضحية الجهل بحقوقه وواجباته ومصلحته وبحقيقة الصراع الأيديولوجي والاجتماعي، وبالإضافة إلى الجهل والأفق التعليمي والفكري المتواضع والمحدود، يجد هذا المواطن نفسه مكبلا ومسكونا بالخوف من المخزن وزبانيته مما يحكم عليه بالرضوخ لإرادة السلطة وتوجيهاتها وأوامرها اتقاء لشرها المتربص به أو خوفا على مصالحه الإدارية أو طمعا في ودها ورضاها، كما يجد كل مواطن بسيط في هذا المجتمع نفسه في ظل معاناته من الحرمان والفقر والحاجة مرغما للوقوع لقمة سائغة في أيدي أعيان البلدة و أثريائها بإغرائه وإقناعه ببيع صوته مقابل مبلغ زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع. لهذه الأسباب الموضوعية والإيديولوجية، لا يستقيم أن نتحدث عن ديموقراطية الصناديق في البلدان الثوليتارية والديكتاتورية وفي جل الأنظمة السياسية القائمة في بلدان الدول المسماة "»نامية" أو السائرة في طريق »"النمو"« ولا يستقيم أن يدعي و زير في الحكومة الحالية بأن الصناديق هي الفيصل والقاضي المنصف والذي ستحتكم إليه الحكومة والمعارضة أو سيحسم الصراع القائم بين قوى المحافظة والظلامية والنكوص وقوى الحداثة والحقوق والحريات وكرامة الإنسان، ولا يمكن أن يستقيم ما يذهب إليه الوزراء المتفائلون والمقتنعون بنتائج ومعطيات صناديق الاقتراع في ظل معاناة أغلبية الشرائح والفئات الاجتماعية في بلادنا من الجهل والخوف والحرمان وهيمنة الثقافة التقليدية والأفق الفكري البسيط مما يحول دون ارتقاء المواطن البسيط إلى استيعاب الأبعاد الحقوقية والإنسانية والكونية لمواقف ومقترحات قوى الحداثة والعصرنة والانتفاح على القيم الكونية والاتجاه نحو المستقبل. فالثقافة الشعبية التقليدية والسائدة في الأوساط الشعبية ببلادنا تفرز عقليات تعتمد أنماطا تفكيرية تعطي مساحات للتحليل المعتمد على الخرافة والغيب والأسطورة وتعوق تبلور نمط عقلاني كفيل ببلورة وإنتاج فكر متنور وحداثي بوسعه أن يتجاوز الخطاب التقليدي المتخلف ويعانق الخطاب العقلاني المتطور والمتحرر. ولذلك نجحت الاحزاب المحافظة والتقليدية والقوى الأخرى التي تحمل هذا الخطاب المحافظ او البسيط في واقع تنعدم فيه وفي كل فضاءاته تنشئة اجتماعية ترتكز على المواطنة والتوعية والتربية على قيم الحقوق والتسامح والحداثة، وهي وحدها الكفيلة بتأهيل المواطن للارتقاء في تفكيره الى مستوى التحليل العقلاني والفكر النقدي وروح المبادرة والابداع، مع امتلاك واكتساب قدرات تحليلية واستيعابية تساعد على الاندماج في فضاء الحداثة والانفتاح على قيم العصر ومستجدات الفكر الانساني، كما يمكن هذا الفكر من استجلاء البعد الانساني والقيمي للافكار والبرامج والمقترحات والسياسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة، ولهذا أجزم بأن المؤسسات المنتخبة بناء واعتمادا على صناديق الاقتراع هي مؤسسات صورية لا تعبر بصدق عن ارادة الشعب. وفي تصريح له في لقاء حواري نظمته احدى القنوات الاعلامية الأجنبية اكد السيد عمر حرشان عن جماعة العدل والإحسان، ان النظام السياسي الحالي يقتل السياسة لأن المؤسسات الصورية لا ينتخبها احد، والدولة العميقة هي التي تتحكم في الاوراش الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وان التعاقد المفترض بين الدولة والمواطنين في الدستور لم يتجاوز %24 من أصوات المعارضة، لذا ينبغي فتح حوار وطني من أجل انتاج وثيقة »"من اجل الديمقراطية"« تتفق عليها جبهة واسعة من الاطراف المستقلة عن السلطة، وتنجح في الوصول الى التوافق المجتمعي، وليس بمنطق الصناديق الموجهة والتي تفرز الاقليات والاغلبيات. وفي نفس اللقاء عبر الاستاذ عبد العزيز النويضي احد وجوه اليسار المغربي، ومؤسس جمعية عدالة للدفاع عن الحق في المحاكمات العادلة، عبر عن كون الافق السياسي بالمغرب يطبعه الانسداد والغموض مادام ان حقيبتي وزارتي الداخلية والخارجية بيد القصر، حتى وان كان الفضاء والآليات والديكور قد يعطي الانطباع بانه مفتوح. ولهذه الاعتبارات والمعطيات السابقة، يحق لكل محلل موضوعي ان يجزم بأن كل البلدان المتخلفة والتي تعاني شعوبها من ويلات الفقر والجهل والخوف لا يمكن، بل يستحيل ان تفرز فيها صناديق الاقتراع نتائج تعكس الاختيارات والمصالح الحقيقية للشعوب، بل يكاد يكون مستحيلا ان نتحدث عن صناديق بيضاء تخدم الديمقراطية وارادة الشعوب، بل الحقيقة المرة ان هناك صناديق سوداء تذبح الديمقراطية وارادة الشعوب وتدوس على كرامتها وحقوقها وتجهض احلامها في الانعتاق والكرامة والحريات وتكافؤ الفرص امام جميع المواطنين، ويعبر جون كينيدي عن هذه المعادلة في قولته الشهيرة «جهل ناخب واحد فيل نظام ديمقراطي يضر بأمن وكرامة المجتمع كله».