منذ أواخر الثمانينيات والفنان التشكيلي نور الدين فاتحي يراكم خبرات وتجارب وأعمال إبداعية في حقل الفن التشكيلي المغربي، متطلعا إلى صهر ماهو ذاتي وخاص، بما هو عام وكوني، في بوتقة أعمال ما فتئت تجدد وتعدد تقنياتها ومفرداتها وإن تكرر بعضها، أو صاحب جل أو كل هذه الأعمال. هكذا ومن خلال جملة معارضه الفنية التي أقامها سواء داخل المغرب أو خارجه، يبدو أن رحلة الفنان نور الدين فاتحي التشكيلية ومنذ خطواتها الأولى قد ارتكزت على تنويع التقنيات والتجريب المتعدد للمواد المشكلة للوحة، مع الإخلاص شبه الدائم للسيريغرافيا التي طوعها الفنان لتصبح أداة للبوح والإفصاح أو للطمس والإخفاء وفق ما تميله تكوينات العمل وما تقتضيه الحالة المضارعة من تضوئه أو تعتيم. لذلك تتعد مفردات الطباعة وحتى بعض مشتقاتها، داخل جل أعمال الفنان، إذ تتكرر الوجوه المطبوعة على القماش بنفس الرسمة، وتتناسل الأجساد والأيادي والفرس ورأس الفرس والمنارة وأوراق الشجر والجماجم والكتابات والحروف المنقوشة على الجبص أو الخشب وبعض التطريزات النباتية وهي كلها مفردات متكررة تتخذ في كل مكان مكانها، وفق رؤية الفنان لتمنح اللوحة في النهاية تناغمها وانسجامها. وإذا كان الجسد بالمقاييس التي حددها ليونارد دافنشي لرسمه، هي المفردة الطاغية على أعمال الفنان فاتحي الأخيرة، فإنه يطبعه داخل لوحاته ويكرره كما هو بكل صرامته، لينزع عنه ثوب هذا المنطق الصارم، ويلبسه ثوب ما يحيط به من شعرية شفافة أو غامضة وكأنه يريد بذلك أن يطلقه من عقاله أو يخلصه من معياريته القاتلة، لأنه وكما يقول الروائي المبدع حنا مينة: »المنطق جلد الإنسان، والانسان يود الخروج من جلده لذلك يستطيع المرء أن يقول إن لوحات الفنان فاتحي تصطف إلى جانب الشعر ضد المنطق وإلى جانب الحرية ضد المعيارية. وإذ تتعدد التقنيات التي يشتغل بها الفنان فاتحي، من رمل ورخام وأحجار وأسلاك وغراء... إلخ، فإن توزيعه لفضاء اللوحات وتحكمه في تأثيث الخلفيات بالألوان المناسبة، وتسليط الطباعة على هذا الجزء أو ذاك، يجعل من لوحاته أعمالا تفيض بالموسيقى وتنبض بالإيقاعات في انسجام وتناغم وترابط وتكامل رغم جمود الطباعة وتنافر المواد، اللذين ينمحيان في ملكوت اللوحة. الموسيقى والشعرية التي لولاها لكانت الحياة خطأ - كما يقول نيتشه - لاتبدو من خلال الأعمال فقط، بل تطفو مع فاتحي لتستقبل الزوار على بوابة عناوين معارضه وعناوين لوحات معارضة أيضا، فمنذ معارضه الأولى وأعماله الأولى، حتى الآن ظل الفنان فاتحي مخلصا لإعطاء »أسماء« لمعارضه وللوحاته، إذ لا وجود في معرض لفاتيحي للوحة عنوانها «بدون عنوان». هكذا، فإن المبدع يبدوع "»يلد"« فهو وحده له الحق في أن يسمى لوحاته »أبناءه« ولكل معارضه تقريبا أسماء تصلح لأن تكون عناوين لمجموعات شعرية من مثل »استراحة السماوات« أو »أسرار وأكوان« أو »مرايا الروح« ... إلخ. أما عناوين لوحاته فحدث ولا حرج، ويكفينا أن ندرك أن له لوحة مثلا عنوانها: »الشاعر« وأخرى بعنوان: »يد الشاعر« وكأن ثمة رغبة خفية لدى الفنان فاتحي لصهر الشعر مع اللون، وتلوين الشعر في المقابل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الفنان فاتحي قد امتلك مهارة واضحة ورفيعة في التلاعب بألوانه واللهو بها وفق أهوائه وتركيب بعضها فوق بعض، أو مجاورة بعضها للبعض والتدرج في اللون الواحد من قتامته إلى انارته ومحوه في البياض أيضا، لذلك سواء تعلق الأمر باللون البني وهو الغالب، أو اللون الأزرق الشفيف، فإن قامة الفنان فاتحي تنتصب شامخة اللهو والزهو بالتلاوين الباذخة. وبعد، إن صناعة الجمال أ وقطرة واحدة من جمال في كل هذا البحر الشائه هو أمر جدير بتقديره عاليا وكذلك نقدر فاتحي عاليا كفنان، لأنه واحد من هكذا صُناع.