مفاجأة سارّة، بالنسبة لي، أن يُطلّ علينا روائي له خبرة ومعرفة وجرأة، حاملا نصّا تُسربلُه المتعة ويحتويه شكلٌ ملائم. تلك هي مفاجأة رواية "سدوم" للمغربي عبد الحميد شوقي(دار الآداب، 2015). هو أول نص ينشره مع أنه يتوفر في جاروره على ثلاث روايات أخرى. وقد وجدتُ في "سُدوم" ما هو غير مألوف في كمٍّ غير قليل من الإنتاج الروائي المنشور، فأحسستُ بغبطةٍ وانشراح، لأننا بحاجةٍ، دوما، إلى كاتب مختلف، يدفعنا إلى مساءلة منجز الرواية العربية، الجنس التعبيري الذي يسهم في بلورة خلفيات المعيش، ومخزون الموروث، من منظور تقليبِ التُّربة والدفع بمُغامرة التجريب... يتناوبُ على السرد، في "سدوم"، سبعُ شخصيات: أربع فتيات(كاميليا، سامية، أحلام، أسلين) وثلاثة شبان(الراهب، ميلاد، نوري). وهم جميعا ينتمون إلى مجال الإبداع والفن والثقافة: الرسم، الشعر، الصحافة، المسرح،الرواية، السينما. بعضهم درس في مدرسة البعثة الفرنسية، والبعض الآخر في الجامعة المغربية أو معاهد باريس؛ لكن ما يجمعهم داخل حلقة صداقةٍ مفتوحة، حميمية وحرياتيّة(ليبرتيناج)، هو تطلعهم إلى حياة مغايرة لتلك الموروثة عن ماضٍ مغربيّ مغلق، متدثر بالمواضعات والوصاية البطركية...هم،إذن، ينتمون إلى "الصفوة" التي لعَقتْ رضابَ الحداثة من مواردها الغربية والمشرقية، وسكَنها شغفُ التجديد وتحرير الذات. إلا أن هذا التميُّز الثقافي والوجودي لا يمحو جذور هؤلاء الشباب المنغرسة في مجتمع يعيش مرحلة انتقال بين ماضٍ لا يكفُّ عن التناسل والابتعاث، ومستقبل غائم القسمات. ويأتي السرد متقطعا، في شكلِ جدائل، إذ تتعاقبُ كل شخصية على منصة السرد ثلاث مرّات، منطلقة من حاضر "الشلّة" ومغامراتها الجسدية والعاطفية والإبداعية، لتنتقل إلى لحظات من ماضيها تطفو على السطح والذاكرة، وكأنها ندوبٌ غائرة خلّفتْها مياسمُ الكيّ والردع. من ثم، يخترق السردُ مراحل الطفولة والمراهقة والشباب. من هذا المنظور، يتميز شكل "سدوم" بكونه لا يستقرّ داخل محاكاةٍ تخييلية تعتمد الإيهام بالواقع، بل ينحو إلى تكسير التخييل من خلال العنصر الأوتوبيوغرافي الذي يضفيه على قصة كل شخصية، ومن خلال إدراج ما يعرف ب"ميتا- سرْد" أي إشراك القارئ في الأسئلة التي يواجهها الكاتب أثناء صوْغ روايته. ويضطلع الراهب، الذي يمتهن كتابة الرواية من بين شخوص "سدوم"، بإنتاج جزء كبير من الميتا- نص، على نحو ما نطالعه في حواره مع كاميليا: "..قرأتُ فصولا من روايتي الجديدة على كاميليا. في كل مرة كانت تحدّق في عينيّ غير مصدقة وتقول لي:أيها الراهب ما حدود التداخل بين الواقعي والمتخيل في روايتك؟ ما المسافة التي تفصل السارد عن المؤلف؟ كنتُ أعرف أنها تلمح إلى أن كل رواية تكون مطبوعة بجانب حقيقي من حياة الروائي الواقعية، ولن يستطيع أي روائيّ أن ينسلخ عن سيرته المعيشة..." ص 131. إن هذا العنصر الشكلي ذو أهمية لأنه يحدّ من تجريدية التخييل ويفتح الباب أمام القارئ ليلتفتَ إلى ما هو خارج النص، وليجعله يمارس متعة اللعب من خلال محاولة الإجابة على أسئلة تعترض المؤلف المفترض. بذلك، تتخلص الرواية من شكل محاكاة الواقع عبر التخييل الخالص، وتقترب من توازن يكون فيه مزجٌ بين المخيلة وعناصر شكلية تفتح الرواية على محيطٍ خارجي. للجسدِ دوافعه التي يجهلها العقل: يمكن أن نتخذ من مقولة باسكال المُحوّرة والمثبتة أعلاه (للجسد، بدلا مِن: للقلب)، منطلقا لاستجلاء عناصر الدلالة والرؤية المبثوثة في ثنايا الصفحات. ذلك أن شخوص الرواية السبعة، الممتلئين شهوة وعنفوانا، لا يطيقون أن يُلجَموا داخل مقولات روحانية ومواعظ جانيسنية متزمتة . هم اكتشفوا دفء الجسد عبر ممارسة الحب من دون قيود، ورفضوا الكبت والطهرانية، ووجدوا في تحرير الجسد ما يفتح الطريق أمام تحرير العقل والتفكير، والجسارة على طرح الأسئلة المحرمة نتيجة للوصاية والتقاليد العتيقة. ولعل هذا ما دفع الكاتب إلى أن يتخذ من مدينة سُدوم الواردة في نصوص التوراة عنوانا لروايته، لكن مع تحوير الدلالة التي ألحِقتْ بها، ليجعل منها رمزا لتحرير الجسد والحواس : " ..سدوم ليستْ هناك في ذاكرة العهد القديم مرادفةٌ للرذيلة والمجون؛ سدوم مدينة متيقظة في حواسنا لاقتناص اللحظة العارية من كل أفق سماوي. هي الجسديّ الحسي، والعنفوان المندفع مثل ديمومة الحدسيين" 292. وعلى هذه الشاكلة، يسعى الكاتب إلى محو صورة المدينة التوراتية المكروهة، ليعوضها بصورة ترمز إلى تحرير الجسد والعواطف وفق ما أصبح مطابقا لتحولات السلوك البشري، بعيدا من الكبت ووأد الشهوة:" "اتركْ لأجسادنا أن تعيد حكاية "سدوم" التي لم يدمرها فسادها، بقدر ما دمٍها عدم قدرتها على رفع شهواتها إلى مقام القوانين التي لا ترتفع. لم تكن سدوم موغلة في درَك الرذائل في الأسفار التوراتية فقط، كانت سدوم راقصتنا التي نتلوى تحت خصرها في الليل ونرجُمها ألف مرة في النهار..." ص 148. وإذا كان تحوير رمزية سدوم يجعلها تبدو بمثابة الفضاء الطوبوي المخلِّص، فإن محكيات الرواية التفصيلية، تحدُّ من رمزيتها وقدرتها على مواجهة تعقيدات الواقع وعلائق الذات بالمجتمع. ففي محكيات الشخوص السبعة تفاصيل تكشف جراحاً سرية عميقة، تُبرز محدودية الحرية وسطوة "القدَر" الموروث الذي يُعطّل أحيانا الانطلاق والتحرر. من هذه الزاوية، نجد أن كاميليا التي حبلت من طالب يهودي كان يدرس معها، ليست من أبوين مغربييْن وإنما من أب وأم يهودييْن ماتا في حادثة سير؛ ويُبتلى كمال صديق أحلام الذي سافر صغيرا مع أسرته إلى فرنسا، بوالده الذي أصبح إرهابيا؛ ويظل ميلاد مصدوما من قتْلِ والده لأمّه التي امتهنت العهارة تحت وطأة الفقر...وهذه الجِراح السرية تجدُل علائق من تبادُل التأثير بين "سدوم- الحلم" وَ "مغرب الواقع" فتستعيد شخصيات الرواية بعضا من ملامحها البشرية التي كادت تضيع في ظلّ سلوكها الحُريّاتي المطلق. وفي نفس الاتجاه، يتمُّ الالتفات إلى ضرورة تصحيح البُعد السياسي للاقتراب من مدينة تحرير الجسد والرغائب، فتُستحضَرُ حركة 20 فبراير التي اقترنت بمظاهرات الربيع العربي سنة 2011. تقول إحدى شخصيات الرواية:" تساءلتُ منذ انطلاق حركة 20 فبراير: ما الذي يجعل هذه الحركة "حدثا تاريخيا" لا شبيه له في ماضينا؟ كلنا رفعنا في هذه الحركة شعارات إنسانية وكونية: الدولة المدنية، الهوية المتعددة، حرية المرأة، حرية المعتقد، بروز الذات، سيادة القانون، الشرعية الدستورية، السيادة الشعبية...لأول مرة، لا نجد حركة تتمسّح بالماضي وتستجدي شرعيتها من "الأمس الأزلي"، لم يعد هناك أوثان" ص 121. يتجلى هنا، أن أصحاب سدوم الجديدة، في وصفها فضاءً لانعتاق الذات، لا يغفلون الأبعاد السياسية بمعناها العميق المحرر للفرد والمرتبط بتحقيق المواطنة المسؤولة. وهذه الجدلية السارية في ثنايا الرواية هي ما يضفي عليها صفة الشمولية والطرح الجذري. إلى جانب ذلك، تجدر الإشارة إلى الإنجاز اللغوي الذي حققه عبد الحميد شوقي في روايته، حيث تتألق لغة عربية دقيقة، تتخللها مستويات من لغة الكلام بالدارجة المغربية والأمازيغية أحيانا، ونتف حوارات بالفرنسية تحمل أصداء واقع لغوي متداول في المغرب. وهو تنوع تفرضه مقتضيات موضوعية وفنية ذات إضافة واضحة. غير أن ما يضفي على الرواية رونقا والتحاما، هو الخلفية المعرفية للكاتب الذي يوظف بذكاء وسلاسة، معرفته بالأدب والفلسفة والسينما ليجعل الأسئلة تأخذ مداها، والتأمل يتغلغل إلى ما وراء السطح. وكل ذلك يجعل من "سدوم" رواية خصبة تحقق المتعة وتسترعي انتباه القارئ الباحث عن جرأةٍ تشحذ الوعيَ وتُبرزُ ما كان متواريا.