في إطار مسلسل إصلاح القوانين المغربية لاعتبارات متعددة، يطرح الآن موضوع مراجعة القانون الجنائي الذي فتح الجدل بشأنه لأهميته وانعكاساته على الحقوق والحريات . ومن المؤكد أن صياغة هذا القانون لن تكون عملية تقنية صرفة تقف عند حدود الصياغة في تعديل بعض المواد، بل هي تعبير عن الإرادة السياسية للدولة من خلال سياستها الجنائية والتي تتكون من اختيارات جوهرية مستوحاة من المرجعية المعتمدة . لذلك فسؤال المرجعية يبقى أساسيا خاصة في هذا النص القانوني الهام. ونقطة الانطلاق التي يجب تأسيسها والحسم فيها هي المرجعية المعتمدة في عملية التجريم والعقاب، وذلك لاعتبارين اثنين : أولا : أن مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص هو مبدأ حقوقي كوني مكرس دستوريا . ثانيا : أن المرجعية التي تعتمد في عملية التجريم والعقاب هي جوهر السياسة الجنائية . وإذا كان المغرب بعد دستور 2011 قد اعتمد في ديباجته التي تعتبر مادة دستورية بصريح نص الدستور سمو القانون الدولي فهذا يعني أن المرجعية التي يجب أن تعتمد في عملية التجريم والعقاب هي المرجعية الدولية الحقوقية باعتبارها مرجعية كونية، وإذ أعطاها الدستور هذه التراتبية في السمو أصبحت بمثابة قانون داخلي . ومن المعلوم أن القانون الجنائي الحالي قد صيغ عبر فترات تاريخية، كما خضع فيها لبعض التعديلات أحيانا لاعتبارات سياسية وفي بعض الحالات القليلة تمكنت الاعتبارات الحقوقية من أن تؤثر في بعض مواده لكن بدرجات جد محدودة، إذ تبدو فيها الدولة وكأنها ملزمة عبر التزاماتها ومصالحها الدولية لإجراء بعض هذه التعديلات . وأمام ما عرفته التشريعات المغربية في كثير من جوانبها من تعديلات، لكي يتوافق مع سياق ارتباطات المغرب الدولية وأيضا التزاماته في الميدان الحقوقي، أصبح من الضروري أن يتأسس تعديل القانون الجنائي على هذا الاعتبارات، ولذلك فإن تعديل القانون الجنائي باعتباره قانون السلوك الاجتماعي من جهة، ولكن أيضا قانون العقوبات الماسة بحرية الأشخاص، فلابد من استحضار السيرورة الحداثية، التي يطرح فيها تعديل القانون الجنائي لأنه يأتي في إطار نسق التعديلات المطلوبة ، بل والمفروضة في إطار التحولات الاجتماعية والسياسية الوطنية والمتغيرات الدولية ولذلك فلا بد أن نكون مقتنعين بأن إعداد قانون جنائي حداثي يتمثل مبادئ حقوق الإنسان، ويشكل ناظما للسلوك الاجتماعي بما يستوجبه الامر من حماية الحقوق الجماعية والفردية، يتطلب تحقيق الملاءمة بل والتطابق مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان التي التزمنا بالانتماء إليها والدفاع عنها ، وتطويرها ، وبالتالي يبدو من الضروري أن نشتغل على إزالة العوائق الثقافية أو العرفية ، التي تقدم باسم الخصوصية كدفع معيق لتنفيذ هذا الالتزام الأخلاقي والسياسي للدولة .ولا نتردد في القول بأن مثل هذه العوائق يمكن أن تزاح بإعمال منطق المصلحة العامة أو الحق العام الذي هو أساس التجريم في القانون الجنائي . والواقع أن تفحص القانون الجنائي الحالي يسمح بإمكانية الدفاع عن هذه الأطروحة اعتبارا للمنطق الانتقائي الذي مارسه في إطار عملية التجريم والعقاب ، إذ يلاحظ أن هذا القانون نفسه لم يعتمد بطريقة متفردة المرجعية التقليدية في التجريم والعقاب والتي تقتضي تجاهل المرجعية الوضعية الحداثية، ذلك أن دارسي القانون الجنائي المغربي استخلصوا بأن هذا القانون ذو مرجعيات متعددة ، متباينة لاعتبارات سياسية ، ثقافية، عرفية، تاريخية وأمنية . وإذا كان هذا الأمر له ارتباط بالشروط والاوضاع السياسية الخاصة التي صدر فيها هذا القانون وكذا بعض التعديلات اللاحقة به ، فإن التطورات التي عرفها المغرب داخليا وفي ارتباطاته الدولية، باتت تفرض عليه مراجعة القانون الجنائي بمنظور جديد وموحد خاصة مع ما تضمنه الدستور الحالي من توجهات حقوقية.