هل تمثل الذاكرة مصدرا مطلقا ومقدسا، يحتوي على حقائق لا تقبل الشكّ ؟ وكيف يمكن الحد من سطوتها وشططها عندما يتم نقل مخزونها إلى تجربة الحكي والتأريخ الذاتي والكتابة؟ وما هي حدود الواقعي والخيالي في فعل التذكر المنجز طي جنس تعبيري معين ؟ ثم هل تستطيع الذاكرة أن تحتفظ بمصداقيتها المفترضة وهي تخضع للتسنين الجمالي ؟ في ضوء هذه الأسئلة، يُبلور الناقد المغربي هشام العلوي مداخل نظرية ومقاربات تحليلية لإضاءة القضايا الإشكالية المرتبطة بتيمة الذاكرة، والمساهمة في فهم أبعادها الشائكة وتجلياتها المتعالقة، دون إغفال أن راهنية سؤال الذاكرة عموما، يمليها النقاش الذي يمور داخل المشهد الثقافي والسياسي الوطني حول ظلال الأمس وعتمات الماضي، وضرورة استحضار "واجب الذاكرة" في كتابة التاريخ المعاصر للمغرب. يبدو الحديث عن الذاكرة في صلب الممارسة الإبداعية عموما، والكتابة التي ترتسي شعريتها على المحكي خاصة ، ضربا من تحصيل الحاصل، إذا ما اعتبرنا هذه المقولة مجرد تعيين لمفاهيم من قبيل: الواقع والحياة والذات والمعيش واليومي والماضي والتاريخي والتوثيقي...وغيرها من الاستعمالات الاستعارية؛ بحيث لا أحد يجادل في أن الذاكرة، بهذا المعنى، هي منطلق كل عمل أدبي، ومعينه الأساس في بنْينة اقتصاده الدلالي والشكلي وتشييد عوالمه المتخيلة، وكذا سنده في تفعيل مختلف المواصفات الشعرية المجردة التي ستمنحه "أدبيته" طي جنس من الأجناس. إلا أن التفكير في هذه المقولة من خلال تحققاتها داخل المنجز السردي المغربي، وفي ضوء المعرفة أو المعارف المستلهمة من الحقول العلمية التي اشتغلت عليها، من نحو علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والتأويلية ، من شأنه أن ينتشلها من سياق البداهة هذا إلى سياق الاستشكال، ويعيد النظر في مفهومها ووظيفتها وعلاقتها بباقي مقومات النص الإبداعي. مع العلم أن توجيه الاهتمام صوب سؤال "الذاكرة" سيأتي متأخرا، إذ إنه لم يصبح موضوعا للتفكير والدراسة، وهاجسا داخل الأوساط الأكاديمية والاجتماعية والسياسية إلا مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبروز ما يُنعت في الأدبيات النقدية والتاريخية ب"التضخم الذاكراتي". ومن هنا تنصب للذاكرة ملامح وخصائص، يمكن حصرها أهمها فيما يلي: 1 - إن الذاكرة ليست متطابقة مع الواقع ومعادلة للماضي أو الحياة ككل، بقدر ماهي وعي بهذه المرجعيات، وإدراك منظم لتشابكاتها وتعقداتها، وخبرة حول معطياتها وقوانينها، تحتكم إلى كفايات الحواس في نسبيتها وجزئيتها. وبالتالي، فإنها تمثل معبرا لازما وضروريا بين الواقعي والتخييلي، إن لم نقل إنها المرجع الوحيد التي تحيل عليه الكتابة، والمتبقي من ذلك الكيان المنفلت والمتدفق والمتلاشي، الذي نسميه: "الواقع". وتبعا لذلك، فإن مجموعة من المؤلفين يستحضرون هذه الحقيقة عندما يصرحون في أعمالهم أو في نصوص موازية لها، بأنهم يحكون عن ذواتهم وعن الآخرين في مرحلة الطفولة والشباب، بما انطبع عنها في ذاكرتهم وليس كما كانت أصلا في الواقع. 2- إن الذاكرة لا تكتفي فقط بحفظ الأفعال والأحداث والأمكنة والأصوات والأشياء كما هي في سيرورتها الموضوعية، أو كما حصلت في تاريخها الطبيعي، وإنما تضفي عليها كذلك، عند تخزينها، قيما إيجابية إضافية قد تكون وجدانية أو ثقافية أو ذهنية، أو نابعة من المتخيل في بعديه الشعوري واللاشعوري، الذي يسود المجتمع سلوكا وتصورا. ولعلّ هذه الأنساق التوسطية التي تتدخل في عملية بناء الذكريات، تجعل من الحافظة بوتقة حيث تنصهر جملة من التقاطبات: الموضوع والذات، الفعل والإحساس، الواقعة والاستيهام، المعنى والتأويل... وهكذا فإن الذاكرة لا تسعف الكاتب بمادة خام بقدر ما تهيئ له نموذجا مبنينا يتلبس طيه الوجود المادي الأمبريقي بالوجود العاطفي والرمزي، مما يفيد بأن عملية التنصيص ستشمل عالمين متعالقين ومختلطين، عالم مرجعي صرف سيخضع للمعالجة ثم التجاوز. وعالم خيالي سيتم تحققه عبر الأوعية الشكلية والمصافي الأجناسية المختارة لحظة الكتابة. ومن ثمة، يتلون فعل التذكر بالأهواء والتحيزات والافتراضات والأوهام التي تطفو على السطح وكأنها بديهات وقعت فعلا، فتنمحي التخوم بين الماضي وما انتسجه الخيال لتسريح القابع والمسكوت عنه والمحلوم به. 3- إن الذاكرة، إذن، ذاكرات متساوقة ومتقاطعة يمكن إرجاعها إلى أصناف وأنماط كالتالي: * ذاكرة الجسد والحواس (المسموع والمرئي والملموس)؛ * ذاكرة الرغبة وما يتمخض عنها من أحلام وأحلام يقظة تخترق رتابة اليومي وخطية الزمن؛ * ذاكرة الإخفاقات والكوابيس والمخاوف والوساوس والهواجس؛ * ذاكرة العادات السرية والجزئيات المنسية واللحظات الميتة؛ * ذاكرة اللغة والمقروء والمكتوب ومختلف أنواع الخطاب؛ * ذاكرة الطقوس وآداب السلوك والمعتقدات والرموز؛ * ذاكرة الوقائع والظواهر التي تنتمي إلى التاريخ أو الأسطورة أو الموروث الشعبي؛ * ذاكرة اللغات الهامشية التي تغطي مساحات خارج دائرة المسموح به والمعتبر...إلخ. والملاحظ، أن المحكي عندما يستعيد لحظة ما من الحاضر أو فترة معينة من مسار الذات الكاتبة أو المجتمع، لابد له أن يقتات من هذه الأنماط كلها، ولكنه مجبر أيضا على التشديد على أحدها وتغليبه، في ضوء ما يقتضيه الجنس السردي الذي يؤطره وينكتب داخل حدوده. واستنادا إليه، يستخلص هشام العلوي أن الأعمال ذات النسب الأوطوبيوغرافي مثلا، تهيمن على محكياتها الأنماط التي تصب في منحى التعبير والبوح والاعتراف والشهادة. بينما ترتكز الأعمال التي تندرج ضمن نوع الرواية، على اختلاف أشكالها من حيث الصيغ والموضوعات، على الأنماط الذاكراتية التي تدخل في نطاق التشخيص والتأريخ والتوثيق. هذا، وإذا كانت الذاكرة - بناء على ما سبق عرضه بصددها من ملامح وخصائص- هي سبيل الواقع الهارب والمتلاشي إلى تجربة الكتابة وأفق الأدب، وكيان مركب ومتعدد المكونات والأبعاد حيث يتواشج الشيء بالوعي الملازم له، فإن تنصيصها أو تحويلها إلى قيم جمالية ووحدات نصية، يزيد في توسيع وتعميق الهوة التي تبعدها عن الواقع، حتى ولو تعلق الأمر بالأعمال التي تدعي كونها سيرا ذاتية خالصة وشفافة. من المؤكد أنه في "الأوطوبيوغرافيا" احتفاء بالذاكرة وإنقاذ لها من خطر التآكل والتلاشي والنسيان الذي يتهددها باستمرار، وشوق نرجسي إلى البدايات، إلى الرحم والجسد، إلى التجارب المبكرة، إلى كينونة المِؤلف من أجل بعثها في الحاضر وإيلاجها قدر الكتابة. وهنا يتدخل الآني بمعجمه ورؤاه وقناعاته في صياغة مخزون الذاكرة، إذ يتعسر على المؤلف استحضار ماضيه من غير أن تتسرب إليها معطيات حاضره، أو تعالجها خبراته الراهنة. بيد أن الذاكرة مهما توثقت صلتها بالذات والحياة ومارت بالحقائق، لابد أن تستغرقها قوة محايدة تمحو أصولها أو تعتمها، وتنأى بها عن الحميمية والدقة والكلية نحو مدارات الغياب والفقدان وتستبدل النكوص بالاستشراف والتأسيس. يقول "رولان بارت" عن هذه القوة التي نسميها "التخييل"، والتي تغدو "الشهادة" في قبضتها أثرا أدبيا ينشد الفن والمطلق، ما يلي: "الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل. الكتابة هي الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد-البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب". وبعبارة أخرى، فإن إخضاع الذاكرة لمسار الدوال ومقتضيات الشعرية والخطاب، من شأنه أن يدفع الكاتب إلى البحث عن معادل لغوي وأسلوبي لحياته الشخصية مما يزيل عن الأحداث والأحاسيس المستعادة الخصوصية أو الفرادة التي تميزت بها وقت وقوعها، ويضفي عليها شيئا من التعميم والمفهمة كي تكتسب وجودها المجرد، وتستمد إبلاغيتها. هكذا تتقلص الذاكرة، وتخترقها الانحرافات والانزياحات، ويعاد تركيبها وترتيبها زمنيا ودلاليا وفق ما يستلزمه مطبخ التخييل. وهب، أن الكتابة تبعا لذلك تمسي وسيلة لنسيانها، والتحرر من قيودها أو التخفيف من وزنها الضاغط على الأقل. ومن المؤكد أن أصحاب السير يفطنون إلى هذه الفسحة التي تتيحها الكتابة للتخلص من أسر الذكريات سواء كانت سلبية أو إيجابية، فترتسم أمامهم فرصة الإفلات، وإمكانية البداية من جديد، ولو اقتصر الأمر على الحلم والوهم والإبداع. لم أقتصر في هذه السطور سوى على الملامح العامة لكتاب الناقد هشام العلوي الذي يغري بالقراءة لغزارته ومتعته.