مساكن تشبه إلى حد بعيد جحور الفئران أو حيوانات الخلد.. لا يكاد سكانها يتنفسون إلا من خلال نوافذ أو شبه ثقوب تلامس الأرض.. صرخات تعلو قرب مقر عمالة إفران، تخرج قوية جريحة، تتحدى البرد والثلوج، وتستنكر صم المسؤولين لآذانهم وهم جالسون في مكاتبهم المكيفة.. أزيد من 528 عائلة مطمورة في غيتوهات ومستنقعات في أحياء لا تصلها عدسات السياح من زوار المدينة.. تلك بعض ملامح الوجه الآخر لمدينة إفران المصنفة ضمن أنظف المدن العالمية. عشرات النساء والرجال والأطفال، يرفعون صرخاتهم التي تصل الى دهاليز عمالة افران الرابضة في أعلى ربوة تطل على احدى اجمل المدن المغربية والتي تلقب لجمالية بناياتها ونظافتها بسويسرا المغرب. تواصل عشرات العائلات احتجاجاتها بساحة التاج بمدينة افران، منذ ازيد من ثلاثة اسابيع احتجاجا على عدم تمكينهم من الاستفادة من مساكن رغم ادراجهم في لوائح المرشحين من طرف عمالة افران، متهمين السلطات بالانحياز للمستثمرين ضدا على مصلحتهم.. وحسب عبد القادر لعجيجي من اللجنة التحضيرية للملف المطلبي لسكان مدينة افران المرشحين للاستفادة من السكن الاجتماعي في المشروع الذي يحمل اسم «حدائق افران»، فإن السكان حددوا خمسة مطالب، ضمنها تحديد الدفعة الاولى في حدود 10 في المائة مع قيمة السكن، مع الوعد بالبيع، ثم تحديد قيمة الدفعات المتوالية وأجلها في حدود الدخل الشهري لكل مستفيد. اضافة الى التزام المستثمر بتاريخ نهاية الورش بالتحديد. علاوة على إحداث لجنة تقنية من داخل العمالة لمراقبة جودة وشروط البناء. وأخيرا إنزال لائحة غير المستفيدين والمسجلين في لائحة الانتظار. واضاف المتحدث في تصريح لجريدة الاتحاد الاشتراكي أن اللجنة التحضيرية وضعت الملف المطلبي لدى مكتب الكاتب العام لعمالة افران منذ اسبوع دون تلقي اي جواب. واوضح بأن الباشا صرح لهم بان المستثمر الاجنبي يستحق التشجيع، وأنهم قاموا بالضغط عليه لتخفيض مبلغ التسبيق ل10 ملايين عوض 15 في حين ان المبلغ النهائي لا يزال 25 مليون. واقترح الباشا يوم الاثنين ان يستفيد السكان عديمو او ضعاف الدخل من مشروع سكني وفق طلب لشركة العمران يتم إعداده بمنطقة تيزكيت التي تبعد عن مدينة افران ب7 كلمتر. وهو ما رفضه المحتجون. وكانت سلطات مدينة افران قد فتحت الباب لتلقي طلبات الاستفادة من السكن على اعتبار ان عددا كبيرا من العائلات تسكن في مساكن غير لائقة، لتقوم السلطات بانتقاء 528 عائلة ستستفيد من السكن الاجتماعي، خصوصا وان اغلبهم يعيشون تحت سقف الفقر والدخل المحدود جدا. تحدي البرد والثلج والمسؤولين ترتفع وتيرة الاحتجاجات المؤطرة بلجنة تحضيرية للملف المطلبي للساكنة وممثلين عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أصوات نسائية مقهورة، ورجالية تقطر قهرا، وطفولية تحمل علامات استفهام ودهشة كبيرة في وقفة ضد عوامل الطبيعة والتهميش.. لتتوحد جميعها في المطالبة بتحكيم ملكي لانصاف جزء من رعيته آمنت طوال مراحل المشكل بأن الحل الوحيد لمواجهة رفض السلطات تمتيعهم بمساكن لائقة.. هو تدخل ملك الفقراء.. ليظل ذلك الامر بارقة الامل الوحيدة التي تشجعهم على تحمل لسعات البرد القارس وتضييق طبقات الثلوج على اجسادهم المنهكة.. وهم يجابهون قوات عمومية مختلفة التلوينات مرابضة امامهم وعناصرها مستعدة لتدخل قد يكون عنيفا حسب الاوامر العليا الصادرة عن قياداتهم.. لافتات وأعلام وطنية وصور ملكية تؤثث وقفة المتضررين.. تتوسطها لائحة كتبت باللغة الانجليزية.. يقول عبد القادر اعجاجى عضو اللجنة التحضيرية للملف المطلبي للساكنة: «جاء سياح اجانب الاسبوع الماضي.. بينهم صحافي شدت انتباهه وقفتنا الاحتجاجية التي نخوضها للاسبوع الرابع على التوالي.. وحين استفسر المسؤولين اخبروه باننا مجموعة من العائلات لانستطيع دفع مستحقات الماء والكهرباء.. واننا نظمنا الوقفة مطالبين عامل المدينة بأداء المستحقات عنا.. ولما علمنا بذلك فيما بعد، اضطررنا لصياغة لافتة باللغة الانجليزية للتعبير عن سبب احتجاجنا، وكي لا يتم تضليل السياح الاجانب».. رجال القوات المساعدة بعيون جامدة وحواجب مقطبة تنظر شزرا لكل من يحاول الاقتراب من المحتجين. قوات من الامن الوطني تراقب الوضع.. وترتفع وتيرة استعمال جهاز الاتصال كلما تسرب القلق اليهم بقدوم غريب قد يكون مواطنا او صحافيا عابرا.. مساكن مواطنين للنسيان بعيدا عن المناظر التي تصلح صورا لبطاقات المعايدة.. تستقر معاناة مكتومة لعائلات لم تجد بدا من تحمل قساوة الطبيعة في مساكن تحت ارضية كأنها جحور لا تقي بردا. لكنها تفي لمواراة تلك الاجساد الحزينة عن عدسات السياح الفضوليين والذين لا يؤمنون بسحر مدينة افران الهادئة، ويرفعون علامات استفهام حول وجود من يعاني في صمت. وقف حدو أمام أثاثه البالي المكدس في غرفة ضيقة. كل شيء فيها يوحي بالوضعية المزرية للحالة الاجتماعية.. بضعة امتار اسفل بناية مهترئة.. الصباغة الارجوانية لم تتمكن من إخفاء الفطريات الناجمة عن سيلان الماء طوال الفصول الماطرة. تأمل حدو بعيون مغرورقة سقف غرفته التي يقطنها رفقة عائلته الصغيرة.. أغمض عينيه برهة وأطلق العنان للسانه الذي تلعثم قليلا قبل أن يتشجع ويفرج عن عبارات حارة كأنها حمم بركان: كيف لانحتج، ونحن نرى المسؤولين يستفيدون من بقع أرضية بمئات الأمتار. في حين أن أبناءنا يعانون أمراضا جراء المساكن غير الصحية..».. صمت قليلا قبل أن يردف «أكتري هذا القفص بمبلغ مهم، لكن ليس باستطاعتي دفع أكثر.. (يبتسم بمرارة).. السلطات تطالبنا بدفع 10 ملايين سنتيم كدفعة أولية، ونحن لا نملك حتى قوت يومنا...» وغير بعيد عن حدو وبحي الأطلس أيضا، تعاني عائلة ادريس الذي يبدو وجهه كأنه مومياء خرجت للتو من هرم خيالي في قلب مدينة إفران المسحورة، وهو يطل من خلف باب سكن عشوائي يعلوه غطاء بلاستيكي مترهل كأنه علبة سردين صارت منتهية الصلاحية، يعلوها الصدأ من كل جانب، يمني النفس بالاستفادة من مسكن يجعل أبناءه يحسون أن والدهم قد حقق لهم شيئا في الحياة بعيدا عن الإحباطات والمعيشة الصعبة وسط الظروف الطبيعية القاسية.. رفعت زهرة ناضريها تجاه الأفق وكأنها تتحاشي النظر الى واقع سكنها ومعيشتها اليومية في مكان جاء ضمن المسارب المفضلة لسيول الأمطار التي تهب بحي بئر أنزران، على بعد أمتار من مشروع «حدائق إفران» الذي تشرف عليه شركة مغربية سعودية. تحكي زهرة بمرارة حارقة:»بالكاد أستطيع أن أتدبر قوت يومي، فمن أين لي بمبلغ 10 ملايين سنتيم أدفعها في سكن اجتماعي حددت السلطات نفسها معايير قاسية لانتقاء المستفيدين منها..» وأردفت بكلمات هي مزيج بين الصراخ والشكوى والإحباط:»عامل المنطقة لم يعقد معنا ولو اجتماعا واحدا.. والباشا أراد نفينا بعيدا عن المدينة بسبعة كيلومترات.. ألا نستحق العيش في مدينتنا التي نحب؟..» مواطنون يملؤهم الحماس، وإيمانهم بقضيتهم يجعلهم أكثر تضامنا مع بعضهم، في حين انسحبت عائلات أخرى بعد انقطاع نفسها، وخيبة أملها في مستقبل واضح بخصوص وعود المسؤولين عن المدينة.. العمالة.. الباشوية والأبواب الموصدة «لقد أخبرتهم بوجودكم، وبطلبكم مقابلة السيد العامل، لكنهم لم يعطوني جوابا.. تستطيع الانتظار إلى حين صدور أوامر..» هكذا نطق رجل القوات المساعدة عند ردهة الاستقبال بعمالة افران، وعيناه تتفحصان الرجل الواقف أمامه، قبل أن يسرع الخطى، ويدخل إلى مكتب جانبي ويقفل عليه الباب بالمزلاج.. سيدتان مسنتان تراقبان الأمر بعيون غير مبالية وهما تتبادلان أطراف الحديث، يبدو أنهما تشتغلان في قسم النظافة داخل المقر الإداري.. صمت مقزز لا يكسره سوى صوت أقدام تمر سريعا من أمام الرجل الواقف في انتظار مسؤول يفسر له وجهة نظر السلطات حول موضوع احتجاجات السكان بالمدينة.. وبين الفينة والأخرى تصل إلى أسماعه صرخات المحتجين بساحة التاج على مقربة من مقر العمالة.. مرت الدقائق ثقيلة كأنها سلحفاة تناولت طعاما كثيرا، وبدا أن مسؤول المنطقة لا يريد استقبال الصحافة ومناقشتها في موضوع مطالب السكان، لينسحب الصحافي في هدوء.. توجه إلى مقر الباشوية، كانت هناك سيارة رباعية الدفع سوداء، علم حينها أن باشا المدينة موجود بالمقر.. دخل إلى المؤسسة، كانت هناك بردهة الاستقبال بضع دراجات هوائية ونارية، وأشياء أخرى.. طرق الأبواب، الداخلية والخارجية.. يبدو أن الباشوية خالية من كل شيء إلا الفوضى، بلا حراسة.. بلا نظام.. قبل أن يأتي شخص يرتدي ملابس النوم،وينتعل صندالا بلاستيكيا نسائيا، ويخبره بفظاظة بأن لا أحد بالباشوية، وأنه يشتغل بها.. مضيفا أن الباشا قد يكون بمكتبه في الطابق الأول لوجود سيارته رباعية الدفع أمام مقر الباشوية.. صعد الصحافي إلى هناك.. كل الأبواب موصدة، ظل يطرق إلى أن كلت يده دون جواب، ليعود أدراجه خائبا، مبتسما من وضع السلطات «الاشباح» بمدينة تتباهى بجماليتها أمام المحافل الدولية. كانت مدينة إفران مفضلة لدى لملك الراحل الحسن الثاني، ومازالت محببة لدى الملك محمد السادس، كما أنها وجهة سياحية ذات سمعة طيبة على المستوى العالمي لتفردها بمعمارها وطبيعتها، وأيضا بلطف سكانها ولباقتهم، لكن المشاريع الضخمة وغابات الإسمنت التي غزتها مؤخرا، وحولت معظم أرجائها إلى فيلات أو شاليهات أو حتى قصور لأمراء خليجيين، لم تستطع أن تسكت صرخات الظلم والقهر التي يصدرها سكان، همهم الوحيد الإحساس بكرامتهم والعيش في مساكن تتوفر فيها الشروط الصحية، دون اللجوء إلى طرق غير مشروعة للحصول على الأموال اللازمة لأداء مبلغ 25 مليون سنتيم. المدينة التي تشتهر بأمانها وانعدام اللصوص والدعارة، تأكل صغارها كأنها قطة خائفة، وتعجز عن إيجاد حل ل528 عائلة تعيش في غيتوهات الفقر والألم، في حين تفتح ذراعيها لأمراء الخليج الذين اقتنوا عشرات الهكتارات من كعكة أرض إفران الطيبة..