لقد سبق لي أن كتبت مقالين حول هذا الموضوع في مطلع السنة الفارطة (الأول بعنوان»دفاعا عن قدسية بيوت الله وحرمتها أو في خطورة خطبة الجمعة» والثاني بعنوان «إلى من يهمهم الأمر: ألا يعنيكم هذا الذي يحدث في مساجدنا؟»، جريدة «الاتحاد الاشتراكي» ليومي 8 و20 يناير 2014 على التوالي) ورفعت شكوى في النازلة إلى كل من وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية ومندوب الأوقاف بمكناس؛ وذلك بعد أن تم تسجيل انخراط بعض خطباء الجمعة بهذه المدينة في حملة التكفير وإهدار الدم التي أطلقها المدعو «أبو النعيم» ضد بعض المثقفين والسياسيين، وفي مقدمتهم الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الأستاذ إدريس لشكر. وقد وجدت نفسي، بعد أزيد من سنة، مضطرا إلى العودة إلى هذا الموضوع إداريا وقضائيا (شكاية، بتاريخ 9 مارس 2015، لمندوب الأوقاف وأخرى لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية، دفاعا عن حرمة المساجد وإيمانا بالمؤسسات وبدولة الحق والقانون) بصفتي ممثلا إقليميا لهيئة سياسية محترمة، ترفض استغلال بيوت الله لأغراض غير تلك التي من أجلها وجدت وتحرص على أن تبقى هذه الأماكن بعيدة عن الاستغلال السياسي وعن تصفية الحسابات مع المخالفين في الرأي. ويقينا مني أن ما يحدث في مكناس ليس معزولا عما يقع في أماكن أخرى من هذا الوطن الذي نريده أن يبقى آمنا مطمئنا ومتميزا بتسامحه ووسطيته وتعدديته الثقافية واللغوية والسياسة والعرقية...، فقد ارتأيت أن أعود إلى الموضوع إعلاميا أيضا بواسطة هذا المقال المتواضع لفضح الذين ألفوا التحريض وزرع الفتنة وتكفير المخالفين في الرأي وتخوينهم وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين...باستعمال منبر الجمعة ضدا على الأخلاق والقانون والأعراف... فرغم صدور ظهير ملكي يمنع الأئمة والخطباء من ممارسة السياسة ومن اتخاذ أي موقف يكتسي صبغة سياسية، فإن البعض منهم، إما جهلا وإما تحديا، لا يتورعون عن اتخاذ المواقف السياسية وترويج الخطابات الإيديولوجية والتماهي مع خطاب توجه سياسي معين، جاعلين من خطبة الجمعة مناسبة للاتهام والتخوين والهجوم والقدح وزرع الحقد والكراهية...الخ. وهكذا، سجلنا بمكناس يوم الجمعة 6 مارس 2015، أي عشية اليوم العالمي للمرأة (8 مارس)، حالتين، على الأقل، لخطيبين كالا للمنظمات النسائية والهيئات السياسية الداعمة لها صنوفا من السباب والشتم والقذف و صبا عليها كل أشكال الغل والحقد والكراهية. وكل هذا لأنها كانت تعتزم تنظيم مسيرة بالرباط يوم 8 مارس الحالي. فقد سمح الخطيبان لنفسيهما برمي النساء الداعيات للتظاهر، طلبا لتطبيق الدستور، بكل الأوصاف المحقرة للمرأة؛ واتهما المساندين للتظاهرة بالكفر والإلحاد والزندقة... وفي تجاهل تام لما ينص عليه دستور فاتح يوليوز 2011 في فصله 19، اعتبر الخطيبان أن المطالبة بالمناصفة والمساواة هو تنفيذ لمخطط صهيوني هدفه تقويض أسس الإسلام؛ وقد نسيا أو تناسيا أنهما دعوا (مثل غيرهما من الأئمة) جموع المصلين، في إطار الحملة لصالح الدستور، على التصويت بنعم لفائدته. وهذا التناقض وحده كاف للتدليل على مستوى بعض الأئمة والخطباء الذين يحفزهم جهلهم «المقدس» على الهجوم على مكتسبات الشعب المغربي في التحديث والديمقراطية وحقوق الإنسان...ومن بينها حقوق المرأة. وفي انزياح خطير عن المهمة النبيلة لمنبر الجمعة، فقد جعل البعض منه مكانا للدعوة إلى الكراهية وتأليب الناس على مساندي الحركة النسائية المطالبة بالمساواة والمناصفة، تفعيلا للدستور، باتهامهم بأنهم أعداء للدين وداعمي الكفر والإلحاد؛ و»يستحمروننا»(كذا)، يقول أحدهم، باسم الدفاع عن المرأة... ويستغرب البعض، بعد ذلك، من انضمام شبابنا إلى التنظيمات الإرهابية !!! ألا يشجع هذا النوع من الخطاب على الغلو والتطرف؟؟ ألا يستحِلُّ، ولو بشكل غير مباشر، دماء المخالفين؟؟ ألا يوجد بين ظهرانينا وفي مؤسساتنا الدينية أنصار لداعش والقاعدة وغيرهما من المنظمات الإرهابية والتوجهات الفكرية المتطرفة...؟ وكم هو مدعاة للاستغراب أن يتحدث أحدهم عن التبعية للخارج وتنفيذ المخطط الصهيوني ومعاداة الإسلام وأحكامه وما إلى ذلك لمجرد الدعوة إلى مسيرة 8 مارس بالرباط ومساندتها والمشاركة فيها، وهو مسؤول بمحكمة الأسرة ويعلم (رغم أنه في حكم موظف نصف شبح، إذ لا يترك مناسبة تمر دون أن يحزم حقائبه في مهمة «دينية»: دروس رمضانية بالخارج، مرافقة الحجاج، بعثات دينية إلى أوربا وغيرها من دول المعمور...) ما تعانيه المرأة من مشاكل ومن تمييز ومن ظلم ومن حيف ومن ومن... !!! وكم هو مخجل أن يجهل أو يتجاهل خطباء القرن 21 الواقع المغربي والمكانة التي أصبحت تحتلها المرأة في مجتمعنا، بفضل تعلمها ومساهمتها في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية وغيرها !! فلم يخجل أحدهم من أن يردد أن خير مكان للمرأة هو بيت الزوجية، تطبخ فيه وتربي الأبناء (وقد «رقاها» كبريهم الذي علمهم توظيف الدين في السياسة إلى مستوى «الثريا»). يقول هذا، بعد أن أورد كلاما مفاده أن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقا أكبر من تلك التي ينادي بها العلمانيون وداعمو الكفر والإلحاد(كذا)؛ مما قد يفهم من كلامه أن الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة تنحصر في الطبخ وتربية الأبناء وما يرتبط بذلك (فهل هو جهل بالإسلام أم تلفيق سياسي وإخواني...؟). وتبعا لمنطق هذا الخطيب، فمكان الطبيبة والممرضة والمهندسة والمحامية والأستاذة والإدارية والعاملة وغيرهن، هو المطبخ، ولا شيء غير المطبخ؛ وكل من يؤمن بفضيلة التطور ويدافع عن تحسين وضعية المرأة القانونية والسياسية والاجتماعية، يدخل، في عرف هذا المتعالم، في خانة «عدو الدين»(أهي الوهابية أو شيء آخر؟) وإمعانا في تحقير المرأة والمنظمات المدنية والسياسية الداعمة لحقوقها، فقد اعتبر نفس الخطيب أن متزعمات الحركة النسائية والدعوة للتظاهر والمطالبة بالمناصفة، ما هن إلا مجموعة من الفاشلات اللائي لم يستطعن تكوين أسرة وما إلى ذلك من أحكام يسفهها الواقع ومن كلام لا يليق بخطيب جمعة، سيؤم، في صلاته، نساء ورجالا، فيهم من يفهمون دينهم وواقعهم ومجتمعهم أفضل منه بكثير؛ لكن المقام لا يسمح لهم بتسفيهه أمام الملأ. وغالبا ما يستغل المغالون من الخطباء هذه السلطة الرمزية والروحية لتصريف خطاب إيديولوجي مقيت ينشر الكراهية والتعصب والفُرقة... ويحمل في طياته بذور الفتنة والدعوة المبطنة إلى القتل. وهذا هو ما نقصده، بالضبط، بخطورة خطبة الجمعة. ونستعمل كلمة خطورة بمعنيين: معنى إيجابي ومعنى سلبي. فخطورة خطبة الجمعة بمعناها الإيجابي تكمن في مضمونها الذي يجيب أن يعلي من شأن الوسطية والاعتدال وينشر القيم السمحة للدين الإسلامي ويربي الشباب على قيم التسامح وفضائل التواضع ويحثهم على الجد والاجتهاد. فالخطورة، هنا، تعني، إذن، الأهمية وعلو الشأن والقيمة الروحية والرمزية والتربوية وغير ذلك من المعاني السامية المناسبة لمكانة يوم الجمعة في الدين الإسلامي. أما الخطورة بمعناها السلبي، فتكمن في نشر خطاب التطرف والغلو وما يتبع ذلك من تزمت وتعصب؛ وتكمن أيضا في نشر بعض القيم التي يمجها العقل ويرفضها الذوق السليم، من قبيل التعالي وتزكية النفس والتنصل من المسؤولية الفردية والجماعية (نظرية المؤامرة، مثلا، التي ترى في الدعوة إلى المناصفة مخططا صهيونيا)، وغير ذلك. فالخطورة، هنا، تعني، إذن، الآثار الوخيمة التي قد تتركها الخطبة في نفوس المصلين، وخصوصا الشباب منهم. والأدهى من ذلك، أن هناك خطباء، بوعي أو بدونه، يهددون الأمن الروحي والاستقرار النفسي للمصلين؛ وذلك بتسخير منابر المساجد لأغراض غير تلك التي وضعت لها، دون أن يكترثوا بالعواقب التي يمكن أن تكون مدمرة. خلاصة القول، ودون الحديث عن القانون وعن الظهير الجديد الذي يمنع على القيمين الدينيين الاشتغال بالسياسة، نظرا لخصوصية المرفق الديني، فإن الخطيب الذي يقحم نفسه في الأمور الخلافية في الدين ويخوض في السياسة من على منبر المسجد الذي هو مكان لتجمع كل المؤمنين بغض النظر عن قناعاتهم السياسية والفكرية والعقدية، إنما يضع نفسه موضع شبهة: شبهة الجهل، بما في ذلك الجهل بقواعد الحوار (أو الجدل) وشبهة عدم احترام المتلقي (أي المصلين) وشبهة الغلو وشبهة التبعية (للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، مثلا) وغير ذلك من الشبهات. «وللي فَرَّطْ إِكَرَّطْ».