يبدو مما لا جدال فيه أن الخوض في مسألة الفكر الصوفي و الطرق الصوفية بصفة خاصة ليست بسهولة بمكان يصعب معه الاستقرار على نمط واحد و الثبات على مذهب خاص و سيمات خاصة في وحدة النهج و العقيدة , و تتجلى هذه الصعوبة في كثرة الطرق و في مختلف الأزمنة و الأمكنة و تباين في شأنها الآراء و الأفكار , لهذا السبب ارتأيت تناول الموضوع في ثلاث حلقات , خصصت الأولى منها على خطورة الفكر الصوفي المنحرف على السياسة و الدين و الثانية حول عقيدة الصوفية المنحرفة بطبيعة الحال , وقد تم وصفه بالمنحرف أو الانحراف تفاديا لأي منزلق و سوء للظن و التأويل الخاطئ لذلك وصفت كل من الفكر الصوفي و الطريقة الصوفية بالانحراف و الزيغ عن الطريق السليم, و أعني كل من زاغ عن الكتاب و السنة و خرج عن نهج السلف الصالح سواء تعلق الأمر بالسفلية أو السلفية المجددة , و لهذا و بناء على ما جاء في الحلقتين السابقتين, فإن جوهر الخلاف بين الشريعة الإسلامية و الطرق الصوفية المنحرفة ينصب بالأساس على مسألتي التلقي و الولاية,هذا فبالنسبة للتلقي فالأنبياء و الرسل يتلقون الرسالة و النبوءة من الله سبحانه و بواسطة الوحي « جبريل». فالأنبياء غير مكلفين بالتبليغ إنما يدعون إلى توحيد الله ,و لا يشركوا في عبادته لا رسول منزل و لا ملك مقرب لقوله في آخر سورة الكهف (( من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا ))و في سورة النجم فقد أشارت إلى أن النبي (ص) لا يأمر إلا بما أوحي إليه من ربه (( لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ...الخ)) أما الرسل فقد أمروا بتبليغ الرسالة المنزلة إليهم من الله و بواسطة الوحي و كل ما جاء عنهم في الآيات القرآنية و ما تضمنته من أحكام و أوامر و نواهي وأخبار فكلها نزلت من الله بواسطة جبريل عليه السلام لا يملك الرسول في شأنها إلا التبيان و التبليغ , أما السنة فهي كل ما جاء عن الرسول من أمر أو نهي أو عمل قام به وما دون ذلك فهو رد و ابتداع .أما بخصوص التلقي المباشر والولاية التي يدعيها أصحاب المذهب الصوفي المنحرف من أنهم أولياء الله يتلقون اكاذيبهم و بهتانهم من الله مباشرة ,فإنهم أولياء الشيطان .و قد تمت الإشارة إلى ذلك في الحلقة الثانية المتعلقة بعقيدتهم . لذلك فكل ما ورد عنهم في هذا الشأن فهو مخالف للكتاب و السنة , و بخصوص الولي المشتق من الولاية و جمعهم أولياء فإنهم هم الذين أشار إليهم سبحانه في آيتين 62و63 من سورة يونس بقوله (( آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون , الذين امنوا و كانوا يتقون )). فالولي حسب الآية 63 هو كل مومن تقي ليس بنبي و ليس من أوصافه أن يكون فقيرا وان يكون من حالة كذا و كذا في أمر دنياه, و عليه فإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمان و أولياء الشيطان فيجب أن يفرق بين هؤلاء و هؤلاء كما فرق الله و رسوله بينهما فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما جاء في الآية المشار إليها . أما الحديث الصحيح الذي رواه البخاري و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال , قال رسول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة و هذا اصح حديث يروى في الأولياء, فبين النبي (ص) انه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة و جاء عن البخاري يقول الله من أدى لي وليا فقد آذنته بالحرب . وهكذا, فإن الولاية راجعة إلى أمر الدين إلى أمر إتباع الشريعة و أولياء الله جل و علا ليس لهم علوم خاصة, بل علومهم تابعة للشرع تابعة لمحمد (ص) فليسوا محدثين ما ليس عند النبي (ص) بل علمهم منوط بكتاب الله و رسوله, لذلك فلا يصح أن يكون الصوفيون المنحرفون و الزنادقة أولياء فضلا من أن يكونوا من سادة الأولياء و أفضل من الأنبياء أو من المقدسين. وهذه الألفاظ أقطاب «أبدال» نجباء أي الغوث فكلها لم ترد في الكتاب و السنة فإنما جاء لفظ الإبدال في بعض الأحاديث و إن كان في إسنادهم شيء ,و من حينها فالمعنى واضح , فإن الإبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدلا من قبلهم بمعنى أنهم يبدلون بغيرهم و يبدل غيرهم بهم كما قال عليه الصلاة و السلام ( لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله ) انظر شرح كتاب الفرقان لابن تيمية . و بخصوص السلفية فقد سبق لي أن خصصت لها موضوعا مفصلا ضمن المواضيع التي تنشر تحت مسؤوليتي أحيانا و في عمود بلا قيود في جريدة الاتحاد , و لهذا و نظرا لارتباط الفكر السلفي أو السلف المتجدد بالفكر الصوفي أو الطرق الصوفية موضوع هذه الحلقة, فمن المناسب الإشارة إليها من جديد و موقف بعض علماء السلفية المجددة و معركتها مع الطرق الصوفية في المغرب . و في هذا الصدد يبدو أن السلفية في الفكر العربي الإسلامي هم دعاة التيار الذين يريدون إحياء النهج السلفي الصالح , حيت حددوه في الرعيل الذي عاش في القرون الثلاثة الأولى بعد الدعوة المحمدية تارة, بينما قلصوا الفترة تارة أخرى للاقتصار على الذين عاشوا بدايات الإسلام قبل ظهور الخلاف بين علي و معاوية و ظهور الفرق الكلامية, كما ظهرت مظاهر عرفها السلف بأسماء مختلفة كبدعة . ويتعلق الأمر بالخوارج-القدرية-الجهمية- المعتزلة - الرافضة - المشبهة- المعطلة - المتصوفة - الجبرية - المرجئة -العلمانية - البعتية - القبورية و نحوهم ممن تفرع عنهم كالتجانية و التقشندية و الشيعة و الجاحظية و البهائية ,و إن كان هؤلاء يختلفون في الحكم عليهم فمنهم من يكفر بدعة ومنهم من يفسق بها و قد ناقشهم العلماء و أهل السنة و حذروا منهم و نهوا عن الإصغاء إليهم و سماع كلامهم و مجادلتهم و قد رد عليهم جميع الأئمة المقتدرين و بينوا بطلانها و استدلوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة كقوله (ص) ( و شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) و قوله أيضا ( كل من احدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) . وقد ارتبطت دعوات الإحياء للنهج السلفي بنوع من النقد الذاتي ففسرت أزمات المجتمع الإسلامي بانحراف أهله و تخليهم عن القيم الدينية, فحملت الإنسان واقعه و دعته إلى الرجوع لمصادر أصول الدين من الكتاب و السنة و العمل على إصلاحه مرورا بما هو إنساني و ثقافي و اجتماعي وسياسي . إلا انه رغم تعدد الحركات السلفية فكل منها تدعي السلفية الإسلامية و تدعو إلى إحياء السنة و سيرة السلف الصالح كما هو الشأن حاليا بالنسبة للجماعات الإسلامية المقتتلة في الشرق العربي, و حتى الصوفية فبعض تياراتها تدعي بدورها سلفية و هو ما كانت عليه أيضا بعض الحركات التي ظهرت في الشرق العربي منها التيار الحنبلي برئاسة محمد بن عبد الوهاب تنتسب إلى المذهب الحنبلي إمام أهل السنة و الجماعة و التي تدعو إلى تنقية العقيدة الدينية من شوائب الأهواء و الفلسفة و التكلم و البدع و الخرافة و الطرق الصوفية . و تلت هذه الحركات حركة متجددة ذات مفهوم حضاري لم تكتف بالدعوة إلى الرجوع لمصادر الدين الإسلامي للاستسقاء منها, بل فتحت باب الاجتهاد لتطوير التشريع بما يواكب تطور العصر و يتعلق الأمر بجمال الدين الأفغاني و محمد عبده و رشيد رضا و غيرهم ,أما في المغرب فكان على رأسهم بوشعيب الدكالي و محمد بن العربي العلوي و المكي الناصري و غيرهم , و سيأتي دور هؤلاء في واجهة المعركة ضد الطرق الصوفية في المغرب , و لتوضيح طرفي المعركة لتتشخص في طائفة السلفية المجددة و الطرق الصوفية , ذلك إن طائفة السلفية المجددة تختلف مع السلفية التي تكتفي في اتجاهها إلى العودة إلى ما كان عليه أهل الجماعة و السنة و السلف الصالح للخروج بالأمة من حالة الذل و المهانة التي كانت عليه في العهود الأخيرة , حيث تخلت عن الأسس التي تستند عليها الشريعة خلافا للنهج الصحيح الذي يدعو إليه الكتاب و السنة و أهل العلم و الآثار من المقدمين من أهل الصلاح و الفلاح الذين ساروا عليه امتدادا لنهج السلف الصالح و إصلاح العقيدة و تنقيتها من البدع و الضلال و الخرافات التي تسربت إليها و أفسدتها و أفرزت طوائف متعددة و كثيرة يدخل في زمرتها فرق صوفية مختلفة في الآراء منها من تستمد عقيدة من الفرق الناشئة من بعض الفرق المشار إليها و التي ظهرت بعد مقتل الخليفة الثالث بعد وفاة الرسول (ص) و يتعلق الأمر بعثمان ابن عفان و الخلاف الواقع آنذاك بين أنصار معاوية و أنصار علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حول الخلافة, حيث يرى علي وأنصاره عدم أخذ الثأر تفاديا لأي صراع بين المسلمين, في حين يرى معاوية و أنصاره بأخذ الثار أولا في قتلة عثمان و بعده تتم البيعة لعلي , و قد تمخض عن الخلاف المذكور معركة الجمل و ظهور الفرق ذات الاختيارات العقائدية المختلفة و من ضمنها الصوفية السابقة الذكر , و لهذا تختلف الآراء حول مصادر الصوفية, إلا انه أصبحت طائفة منها تكتسب أنصارا ابتدء من هذه الحقبة إلى اليوم , و ينسبونها إلى السلفية إلا انه بعدما أصبحت تتفرع عن عدة طرق و انتشرت في العالم الإسلامي دون أن يجمعها نهج صحيح و وحيد للسلفية و على إثره اخرج خطاب السلفية الجديدة الطرقيين من دائرة الصوفية و اعتمد في ذلك على اتهام أصحاب الطرق باعتناق البدع و الضلالات و بالانحراف و تحريف التصوف , و لم يبق عند هذا الحد بل زاد عليه من إخراجهم من دائرة السلفية و من دائرة السنة بصفة عامة. فقد رأى السلفيون أن المتصوفة إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع و ميزوهم باسمهم, لذلك لا تكاد تجد أحدا منهم ينتسب إلى فرقة من الفرق الضالة , و اعتمادا على هذا التمييز اعتبر لقب الصوفية و التصوف مخصوصا بالموصوفين بإتباع السنة و مباينة البدع ,بينما اعتبرتها الصوفية أيضا انحرافا عن هذا المسار و اعتبروا نسبة أهلها إلى الصوفية مجرد كذب لا أصل له و جاءت طرقهم مليئة بالبدع المحدثة و بالأهواء و بارتكاب ما اجمع الناس على فساده شرعا و نعتوهم بحزب الشيطان كما وصفوا ثقافتهم بأنها محشوة بالمناقب و الكرامات و الشطحات و الألغاز و الغرائب و العجائب و الكرامات التي شغلت بصرف الناس على كتاب الله و دراسته و تدبره و هذه هي الطرق التي تعرضت للانتقاء و المناهضة باتفاق الجميع من السلفية و السلفية الجديدة و السلفية المتجددة . و تجدر الإشارة في هذا التمييز بين الصوفية و بين الطرق الصوفية إلى ما كان عليه من طرقنا من وصفه بالانحراف أو المنحرف لكل من تمذهب بالصوفية و تبنى الفكر الصوفي والطريقة من احد الطرق الصوفية خارجا عن الكتاب و السنة و منهج السلف الصالح و هم أصحاب العقيدة التي كانت مدار الحلقة الثانية تحت عنوان عقيدة الصوفية التي ابرزوا من خلالها سمات الانحراف و مظاهرها و خطورة فكرها على الدين و السياسة في الحلقة الأولى, اقتداء ببعض شيوخنا الأجلاء كالمرحومين أبو شعيب الدكالي و شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي و الأخوين المرحومين المكي الناصري و أخيه محمد الأمين الناصري و غيرهم ممن ساروا عليهم في الشرق العربي انطلاقا من المقولة المشهورة « من تصوف و لم يتفقه فقد تزندق و من تفقه و لم يتصوف فقد تفسق و من جمع بينهما فقد تفوق « . و في هذا الصدد يلاحظ أن متزعم الحركة السلفية في المغرب المرحوم بوشعيب الدكالي فقد كان يدعو إلى نموذج السلف الصالح و محاربة مظاهر الانحراف الديني و الأخلاقي التي كانت تشيعها الزوايا و الطرق الصوفية ضدا أيضا على جميع أشكال الاستلاب و التغريب و الغزو التي كان يمارسها المحتل الفرنسي بوسائل شتى و ذلك بدعمه و مساندته للطرق الصوفية خدمة لمصالحه كما يناهض أي انطواء على الماضي دونما أي ابتداع أو إتباع لأي طريقة من الطرق الصوفية و الانفتاح فضلا عن ذلك على روح و مستجدات العصر و الاخذ بكل الأسباب الممكنة و المتاحة للنهوض و التحرر من ربقة الاحتلال و وصايا الفقهاء و رجال الزوايا المبتدعين الخاضعين لإرادة المحتل و سياسته البغيضة , وهنا يربط الدكالي إصلاح المجال الديني و محاربة الاحتلال الأجنبي و سار على هذا النهج تلميذه محمد بن العربي العلوي الذي يعتني بالسلفية في مفهومها الأصيل و العودة إلى الاقتداء بنهج السلف الصالح الذي ساد العهد النبوي و عهود الخلفاء الراشدين المهديين , و هي العهود التي لا يختلف المسلمون في نعتها بالزاهرة . هذا ما كان عليه أهل السنة و الجماعة في مفهوم السلفية, لذلك فإن هذا التصور لا يقف عند الماضي الذي يسعى إلى الحفاظ على الرصيد الثقافي و التراثي الرامي إلى العودة إلى الأصول الإسلامية باعتباره المنقذ من الضلال , و ما يعترضها من ضلالة الطرقية لتجنب زلل الانحراف إلى التيارات الفكرية المعارضة مع مبادئ الإسلام و مقدسات المسلمين فقط, بل العمل على الرقي به ليكون قادرا على مسايرة العصر و المساعد على تحقيق الإصلاحات الكفيلة بالتطور و التقدم , أما السلاطين العلويين فقد جاء عنهم أن هذا النهج يحظى بمساندتهم و يشجعون العلماء و الفقهاء المجتهدين على البحوث العلمية الدينية و الإشكاليات المطروحة في شأنها و الاهتمام بكتب الشاطبي باعتباره من خيرة فقهاء الأندلس و الذي أقام الفقه الإسلامي على أصول جديدة طورت مفهوم السلفية في المغرب و كان من الأهداف التي يسعى إليها شيخنا بن العربي العلوي تحرير الفقهاء و الفتوى و الفقه من التعصب و الجمود و تحرير القضاء من الظلم و تحرير التعليم من الركود و التخلف و تحرير العادات من السلوك السيئ و تحرير الوطن من قبضة الاحتلال الأجنبي و تحرير السياسة من الظلم و الاستبداد , وقد شن المرحوم بن العربي حملة شرسة ضد الفكر الصوفي و طرقه المنحرفين رغم المضايقات من رجالات الاستعمار و عملائهم و أذنابهم أصحاب الطرق الجهلة . و جاءت شهادات كثير من العلماء و الزعماء السياسيين المغاربة أمثال عبد الهادي بوطالب و المختار السوسي و غيرهما رحمهما الله و كذلك المرحومين المهدي بن بركة و عبد الرحيم بوعبيد و اجمعوا كلهم على مكانته العلمية و الوطنية و السياسية و بأفكاره النيرة و مواقفه الشجاعة ضد الاستسلام والاستبداد كيفما كان نوعه و مصدره و كذلك نهجه و جرأته في قول الحق , و ها هو المرحوم محمد عابد الجابري يقول في حقه و تصوره « انه رفض للتقليد يكتسي معنى خاصا يجدد انه إلغاء كل التراث المعرفي و المنهجي و المفهومي المنحدر إلينا من عصر الانحطاط و العمل على بناء فهم جديد للدين عقيدة و شريعة انطلاقا من الأصول مباشرة و وصولا إلى تحيينه أي جعله معاصرا لنا نحن أبناء القرن العشرين» . و من العلماء الذين ساهموا في إذكاء الروح الوطنية و تأهيل الحقل الديني و المؤسسين للسلفية الجديدة و مناهضتهم للطرق الصوفية الأخوين الناصري . وقبل الشروع في معركة المكي الناصري و أخيه محمد ضد مختلف الطرق الصوفية أقف عند الآية الكريمة في سورة الأحزاب (( من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه و منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا .)) و هؤلاء و من سبقهم في هذا المسار و عنهم انطلق الرعيل الأول من الحركة الوطنية في المغرب فتسري عليهم الآية القرآنية المشار إليها . ما أحوج المغرب إلى هؤلاء و في هذا المنعطف التاريخي في وقتنا الحاضر, حيث أصبح المغاربة شيعا و فرقا و أحزابا في الدين و السياسة كل حزب بما لديهم فرحون و الحال أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم فليفرحوا قليلا و ليبكوا كثيرا. و هكذا فكما سبق ذكره, فإن دعوة أبي شعيب الدكالي وتلميذه شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي الرامية إلى إصلاح الحقل الديني من المتداخلات و المستحدثات التي تسربت إليه و العودة إلى الينابيع الأصيلة للإسلام و إزالة جميع الشوائب التي تعتريها وخلفت صدى كبيرا في صفوف الشباب التواق إلى الانفتاح و انتشار صيت الأخوين محمد المكي الناصري و محمد اليمني الناصري و هما من تلامذة أبي شعيب الدكالي و الشيخ المدني الحسني . و منهما استمد الأخوان الناصري مكانتهما في التأمين العملي لحركة «السلفية الجديدة» . وكان هدفهما و مجموعة من الشباب الذين التحقوا بالحركة من اجل العمل على إذكاء الوعي الوطني لمحاربة المحتل الأجنبي و استئصال الطرق الصوفية , و ساهمت في مد الروح حرب الريف بزعامة عبد الكريم الخطابي في بداية القرن العشرين . و تتشكل هذه الحركة من مجموعتين , مجموعة فاس التي تستقي ثقافتها التحررية و الدينية من دروس الشيخ بن العربي العلوي و مجموعة الرباط التي استمدت توجهاتها من أبي شعيب الدكالي. واعتنقت مجموعة من الشباب الفكرة السلفية و اتخذتها أداة للنهوض بالمجتمع و تحقيق الهدفين المشار إليهما و بعدئذ انضمت إليهما مجموعة تطوان و تم ترسيخ العلاقة بينهما حول السلفية بمنظور معين .و قد أطلق عليها منظرون و اداريو الحماية الفرنسية بالسلفية الجديدة أو الحنبلية الجديدة أو الوهابية الجديدة , و قد تميزت جماعة الرباط لتدشينها نقاشا فكريا مع الطريقة و بإعلانها لحرب فكرية عليها و هي الحرب التي يمكن اعتبارها البداية الحقيقية لتحالف شباب السلفية لتوحيد الرؤى و تحديد المقاصد و برز خلالها بشكل لافت الإخوان الناصري و بالمناسبة نشر محمد المكي الناصري و هو ابن ستة عشر سنة كتابا تحت عنوان « إظهار الحقيقة و علاج الخليقة « يعتبر في الواقع بمثابة بيان للحركة السلفية الجديدة و جاء بعده كتاب أخيه تحت عنوان « ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار « ردا على خصومهم منظري الطرق الصوفية و من خلال كتاب المكي الناصري الذي اعترف بكاتبه بصاحب المقدرة العلمية و الفكرية . و كان المرحوم المكي الناصري أول من جاهر بين أقواله في الوسط المغربي الذي تعود أهله السكون و السكوت بالدعوة إلى العمل بكتاب الله و سنة رسوله و تطهير العقائد من الخرافات و دم البدع و محاربة أهلها من غير أن يخشى في الله لومة لائم و تم تشبيهه ببطل من أبطال الحق و الحقيقة ,و أصبح على رأس حزب المصلحين و بذلك يكون الأخوان الناصري من دشن الصراع المباشر بين السلفية و الطرقية و يعد المدخل الرئيسي لانتعاش الفكر السلفي الجديد, حيث شنا هجوما على الطرقية و شيوخها و أنصارها انطلاقا من مضمونه الاحتجاجي على تشويه الإسلام من قبل الطوائف الدينية المبتدعة و دعوته لتطهير الإسلام من الشوائب و البدع . لكن أصحاب الطرق الصوفية كانت قوية و شنت حربا ضروسا ضده هو ومن تبعه, إلا انه مع ذلك ظل أستاذنا المرحوم المكي الناصري صامدا أمام الاكاذيب و الاظاليم و لم تنل من عزيمته و إيمانه أي شيء ( لقد جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) رحم الله أستاذنا المكي الناصري أنا و أخي عبد الوهاب اللهم اسكنه فسيح جناتك مع الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن ذلك رفيقا .