أعد أرنو جونو (Arnaud Genon) (باحث فرنسي مختص في مفهوم التخييل الذاتي، وعضو مجموعة البحث في التخييل الذاتي) ، ITEM (ENS-CNRS))، من مؤلفاته: هرفي غيبر(Hervé Guibert)، من أجل استطيقا ما بعد الحداثة ) هذه الورقة للمشاركة في الندوة التكريمية (26 يونيو 2010) للراحل إدمون عمران المالح بمناسبة وسم قاعة المحاضرات في فندق الخيمة (أصيلة) باسمه. وهي بادرة طيبة والتفاتة رمزية ينبغي أن تشمل فضاءات أخرى لاستحضار كتاب قدموا خدمات جلى لوطنهم. تفضل الناقد محمد برادة بتقديم الورقة إلى إدمون عمران المالح فطواها ثم وضعها في جيب بذلته. بعد أيام معدودة التقينا قرب مقهى « الوزاني» بالرباط، فسألني عن صاحب الورقة، وطلب مني أن أرتب لهما لقاء مشتركا ، لكن الموت باغته دون أن تتحقق هذه الأمنية بل أمنيات كثيرة بحجم منزلة الكاتب الكبير وطموحاته ومشروعاته. تسلم عينة من النصوص نفسها إلى القارئ دون عناء ومقاومة. وكُتبت لهذا الغرض بالذات لأخذ بيد القارئ وطمأنته ومساعدته على قراءتها من البداية إلى النهاية دون أدنى مشكل أو استفزاز. ويندرج هذا النوع من النصوص في إطار الأدب المستهلك والمتداول الذي لا يعد، في غالبه، أدبا منحطا كما ليس، في مجمله، أدبا رفيعا. وهو يُنسى بسرعة لأنه لا يثير في قارئه أي اهتمام أو رغبة. وبالمقابل تنتمي نصوص، وفق رولاند بارث، إلى أدب « المتعة». وهي ، عكس الأولى، تخلخل القارئ وتضلله وتقلقه (1) وتسائله وتثيره وتربك قراءته من ناحيتين: تحضه على إعادة قراءة العلائق والأصداء والمراجع واستقصائها مما يؤدي إلى إحداث تعديلات في نظام القراءة، وتقلقه في بحثه عن معنى ما يقرأ. إن المؤلَّف الأخير لإدمون عمران المليح «رسائل إلى ذاتي»(2) ينتسب إلى الفئة الثانية. ومما يثير فيه هو صياغة العنوان الحمالة بدلالات مختلفة ومتضاربة. ولقد سبق لكتاب آخرين أن تبنوا المشروع الذي يوحي به العنوان نفسه. ومن ضمنهم الكاتب الإسباني رامون غوميز دو لاسيرنا في مؤلفه « رسائل إلى السنونو وإلى ذاتي (3). كان يعي، من خلال هذا المسعى في الكتابة، أنه لا يكتب أبدا إلى ذاته:» اكتشفت بكتابة هذه الرسائل أن الكتابة إلى الذات إنما هي موجهة إلى شاب في مقتبل العمر»(4). وفي السياق نفسه نستحضر كتاب « رولاند بارث بقلم رولاند بارث» الذي نقتطف منه قولة مثبته في بدايته:» كل ما في الكتاب ينبغي أن يعتبر كما لو سردته شخصية روائية»(5). يتنصل بارت ، في مشروع الكتابة، من ذاته، ويتعامل معها كما لو كانت غريبة عنه. ومما يدل على فرادة مؤلَّف إدمون عمران المالح هو ما توحي به كلمة عبدالله بيضة المثبتة في ظهر الغلاف: «ضحكات محتشمة. ابتهاجات الأدب لكونه، في الآن نفسه، مقدسا وغير جاد بالتمام، أصيل وملغز.. هذا هو المشروع الذي جسده إدمون في « رسائل إلى ذاتي» إذ يحاور ضعفه لاستكشاف مختلف وجوه هذا وذاك. إنها لعبة الكشف والتعتيم التي تفضي إلى رسم بورتريه شخصية لن تكون لا هذا ولا ذاك أو يمكن أن تكون هذا وذاك»(6). وكما نعاين إن المقاربة الأولية للنص تُجلّي تعقيدا مقلقا ( بلغة رولاند بارث) يتأرجح فيه القارئ بين الجدي والمتبهج، وبين الأصيل والملغز، وبين الكشف والتعتيم، ويجد نفسه أمام هشاشة القرار وعهد الشك المنشود. ويتشخص الطابع المشوش لهذه الرسائل في بعض القراءات المنشورة في بعض الصحف. وهو ما يبين صعوبة وضع النص في خانة أجناسية محددة. اعتبرته جريدة «Libération» مجرد تأملات أدبية أو رحلة شعرية أو فلسفية(7). وصنفه مورييل تانكري ضمن «عمل رسائلي من جنس جديد»(8). واستعمل الناقد عبد الله بيضة حروفا مختصرة OLNI(9) (موضوع أدبي غير محدد) لبيان مدى صعوبة تجنيس الكتاب. وما يسترعي الاستغراب إثبات الناشر لفظ « يوميات» داخل خلفية حمراء مدرجة في وجه الغلاف. إن إشارة، من هذا القبيل، لا تذلل، بأي حال من الأحوال، المصاعب التي تعترض قراءة النص. بم يتعلق الأمر في هذه الرسائل الموجهة إلى الذات؟ فلنحاول فك الخيوط المنسوجة من لدن الكاتب، مع العلم مسبقا أن محاولتنا باطلة ومعرضة للفشل، وذلك لأن متلفظا أصر «على تمييز الخيوط رغم الإمكانية المتاحة له»(10). فتحت لنا هذه الإمكانية آفاقا، وهذا يندرج في صلب عملنا، فلنحاول إذن. يتعلق الأمر كما هو مبيّن في ظهر الغلاف بتراسل الكاتب مع ضعفه. يبين لنا السارد، من خلال الصفحات الأولى، طبيعة هذه المراسلة:» ألاحظ، في رمشة عين، أن الرسائل أو ما يُقدم على هذا النحو لا يتضمن أي توقيع أو تاريخ أو أي إحالة إلى مكان ما»(11). يوضح أحد المتلفظين للقارئ أبعاد هذه الاستراتجية في الكتابة:» أمزح كثيرا من فكرة إمكان نشر مراسلاتنا يوما ما. ولما يطلع عليها شخص أجنبي لن يكف عن البحث عمن كتبها ولمن. لقد راودتني وإياكم رغبة ماكرة لحذف أي تاريخ أو مكان يمكن أن تقترن بهما الرسائل أو تسعف على تعرُّفها»(12). انتفت جميع المؤشرات لتضليل القارئ وتمويهه طوعا. وهي عملية يتقصدها الكاتب لدعم خدع التشخيص. ومع توالي الأحداث يظهر طرف ثالث يشبه الطرفين الآخرين. « أصبحنا ، بعنايتكم، ثلاثة دون أن تظهر على أجسادنا ندوب يمكن أن تسعف - كما هو حال غرقى رواية « أرضناTerra Nostra «- على تمييزنا والتعرف إلينا: من ضمن الثلاثة شخصان يتحدثان فيما بينهما عنه وبواسطته. وداعا للبساطة المرجوة والمنصوح بها. يتبادر إلى ذهني أننا لم نتعرض أبدا لما هو أعظم من خيانتنا لأنفسنا «(13). وهكذا يتضح أن من يتكلم ليس هو من نتصوره في أذهاننا، وأن الشخوص المستحضرة ليست أحيانا إلا أضعافا مضعفة، وأن الذات ego هي الآخر alter والعكس صحيح. ومن السمات الأخرى التي يتميز بها كتاب إدمون عمران المالح، نذكر الطابع الخطابي الواصف. يتناوب متلفظو الرسائل فيما بينهم على طمس الألاعيب التي تحبك داخل النص ويمكن أن تخدع القارئ. وفي هذا السياق نورد ما تلفظ به مرسل الرسالة السابعة: « يبدو أنكم تضعون شخوصكم في وضعية بموهبة أعترف بأنها مؤكدة. وإن كان ما تحكونه مجرد تخييل، فإنكم تركزون على عنصر واحد، تعتبرونه متلقيا لرسائلكم. ومن ثمة تتوطد حبكة المؤامرة أو الدسيسة الغامضة التي تمزج بين الحقيقي والمزيف بغية استهداف، دون رحمة، علاقتنا و ما تعرفونه عني باستغلال نصوص من دفتر الصيني الذائع الصيت»(14). يستمد الحقل المعجمي مواده من معجميات من قبيل «المؤامرة» و» الدسيسة» و» التزييف». وهو ما يؤشر على خيانة الذات للطرف الآخر. يصدع أحدهما بما يرغب الآخر في كتمانه. ويختلط الأمر على القارئ الذي يصعب عليه تمييز الحقيقي من المزيف مما يزيد من إحراجه وإرباكه. وتوجد في الرسائل مُناصّات كثيرة تتضمن إرصادات مرآتية ( des mises en abîmes). إن الإشارة إلى بورخيص(15) التي ألمع إليها متلفظ الرسالة التاسعة لا يمكن أن تدهش أحدا. فكلاهما ( بورخيص والمالح) حاذق في ألاعيب المرآة، وتضعيف الذات، وابتداع عالم في شكل متاهة. ونجد أيضا إحالة إلى رواية «أرضنا» للكاتب المكسيكي كارلوس فونتيس حيث تتجسد استعارة المرآة التي تذهل السارد. يلتقي غريق بعجوز، ويسلم إليه ، على هيئة قربان، قطعة من المرآة. يمسك العجوز بالقطعة مذهولا. وبمجرد أن ألقى نظرة عليها لقي حتفه مصدوما.إنها المرآة القاتلة(16). يجد هذا المقطع صداه في كتاب إدمون عمران المالح. إن تحفظ السارد من تقديم صورة عن ذاته وكتابة النص/المرآة يستمدان نُسغهما من هذه الفكرة بالذات التي تقر أنه كلما تأمل الإنسان ذاته ،عن كثب، إلا وباغته الموت. وأخيرا يستشهد مرسل الرسالة العاشرة بقولة والتر بنيامن حول « الصورة البروستية»:» تعرف أن بروست، في عمله، لم يصف حياته كما هي بل حياة تظل راسخة في ذاكرة من عاشها(..)، فما يؤدي دورا أساسيا، وما يحفز الكاتب على استحضار ذكرياته لا يمتان بصلة إلى ما عاشه، وإنما هو ثمرة نسيج ذكرياته و عمل بنيلوبي(Pénélope) في تذكره»(17). يتصادى في هذا القول صوت المالح الذي لا يكد من أجل استرجاع ماضيه الشخصي بأمانة فحسب، وإنما يسعى إلى تقديم ما تبقى في نسيج ذاكرته بطريقة بولفونية ( متعددة الأصوات). ويمكن أن نقول، في السياق نفسه، اعتمادا على رولاند بارث إن « الذات الضائعة في هذا النسيج (النصية) تتلاشى على نحو العنكبوت الذي يذوب فيما يفرزه لتشييد شُعها» (18). لقد حاولنا أن نبرز الآلية الخطابية المعقدة والمثيرة في « الرسائل الموجهة إلى ذاتي» مركزين على ما تتضمنه من تعتيم للمسالك والمسارات الخطابية الواصفة، ومن مُناصّات. ينبغي أن نتساءل عن دوافع تبني هذا النوع من الخيارات في الكتابة أو بعبارة أخرى لم يبحث إدمون عمران المالح عن فقدان قارئه ويحقق مسعاه بما ذكرناه من تقنيات واختيارات في الكتابة؟ مع العلم أن الكاتب نعت عمله الأول « المجرى الثابت» بكونه « سيرة ذاتية ذات جسد متمنع» (19) أي أنها ثمرة تذكر تلقائي . وكما يتضح من العنوان فإن الكتاب يندرج في إطار مشروع سيرذاتي. ما يهم صاحبه هو أن يتحاور مع ضعفه وتعميم ثمرة هذا الحوار على جمهور واسع. وبقدر ما يتحدث السارد عن ذاته يتحدث أيضا عن الطرف الآخر. ويضطر أحد المتكلميْن إلى دعوة مخاطبه لمسايرته في المنحى نفسه « تحدثوا عن أنفسكم» (20). وموازاة مع انسياب العملية السيرذاتية دون لف أو دوران يتنامي التحفظ حيال أي شكل من أشكال البوح: « يسعف البوح المزيف و المغالاة النرجسية ( أعرف مدى تضخمها) والأنانية والاستعرائية على المكاشفة الحميمة. هذا ما يهم اليوم من اليوميات، ويقدم وصفة النجاح. لقد انسحبتم رافضين الوصفة. لا يمكن أن نطعن في موقفكم (21). ليس الأنا هو الممقوت، بل الطريقة التي يُعرض بها أحيانا. كيف يمكن أن نتحدث عن ذواتنا متفادين ضروب النرجسية والأنانية والاستعرائية. يعاين القارئ في الرسائل تراجع السارد عن الاستعراض الجذري لذاته. « حركة غريبة تنجم عن انسحابك كلما وجدت نفسك في وضعية تحتم عليك التحدث عن ذاتك. فكلما انخرط في مشروع الكتابة عن ذاته يضطر إلى تخمين أحداث وتقديرها ، واللعب بمفهوم الكشف، وإنتاج صور شذرية متنافرة وطائشة إلى حد الارتقاء بإعادة تكوين الأصلي إلى المستوى الإشكالي»(22). نعاين، إذن، حركة مضاعفة في الرسائل: الإصرار على الابتعاد عن السيرة الذاتية(23)، وبالمقابل إضاءة جزء من حياة الكاتب خلال النص الثاني من ستينات الألفية الثانية. تمثل السيرة الذاتية إلى حد ما «مرآة» حياة الكاتب. ويحترس المالح من مغبة الاقتراب من المرآة والتحديق في تفاصيل ما تلتقطه حتى يتحاشى أذى المرآة القاتلة لكارلوس فونتيس. تطفو هذه الفكرة بانتظام وصيغ مختلفة على سطح النص. يستحضر السارد أيضا» الرغبة في التنصل من ذاته ومن المرادف للموت: الهوية ونضوب أية متعة مشعة «(24). إن الالتصاق بالنص معناه الالتصاق بالمرآة. وهو ما يفضي إلى الموت. ويعني الكاتب بالالتصاق الإحالة إلى مجال أوسع من ألاعيب الذات، والانعكاسات المرآتية، وابتكار التعضيفات، وابتداع الأنظمة الأدبية التي تعد ، بالنسبة للكاتب، مصدرا للابتهاج. لا يمتثل المالح إلى التتابع السطري للوقائع، وإنما يؤثر فن الانزياح الذي ينطبق عليه قول مونتاني في وصفه لشعريته الخاصة بالكتابة: « أتعهد، بإذن وليس سهوا، بأن استيهاماتي تتعاقب.. لكن يُنظر إليها من منظور منحرف ..أحب المنحى الشعري الذي تتخلله الوثبات والقفزات»(25). لا يهم المالح « أن يعرف أين يوجد؟ وفي أي مكان؟ وبأي وجه؟»(26) ما يبحث عنه ويتمناه هو أن «يعمل في سرية ليكون في قلب مرايا لا متناهية وانعكاسات متراكبة، ويحبط فخاخ التثبيت والانغلاق. أليس ذلك غواية لسلطة ما وانتشاء بها»(27). تعتبر السيرة الذاتية بالنسبة للمالح عملية تثبيت الذات والهوية بطريقة مضاعفة، وعلى نحو يمكن الغيرية الذاتية الكامنة في سرارئنا من الظهور. « من منا لم ينتابه يوما الإحساس بأن يكون مزدوجا، بل أكثر من ذلك أن يكون غريبا إن لم نقل غريبا عن ذاته. ويعد ذلك علامة على تعقد الوضع الإنساني»(28). إن اخترقت شخوص كثيرة هذه الرسائل ، فهي- في مجملها، صور مختلفة عن « الأنا» المتعدد. إن « الأنا» السيرذاتي، بالنسبة للمالح، مقيد، ويسجن الذات ويقتلها استعاريا. يتشخص الفضاء الأدبي كما لو كان فضاء لعبيا يسعف على انكشاف السر، وطمس الحقيقة، وتلاقح الواقع والتخييل خفية داخل السبيكة النصية. لا يهم في الأخير معرفة مكمن الحقيقة وهوية الكاتب وضعفه. ما يستحق الاهتمام أكثر هو معاينة أن الجوهري يكمن في الفن وفي الصنعة التي ينتجها.» إن الفن حقيقي في الصنعة وبواستطها». نقتطف هذه العبارة من الرسائل التي تعتبر أحسن مثال عن ما قلناه عن المؤلف برمته. هوامش 1- رولاند بارث، متعة النص، م.سا ص 259 2 - المرجع نفسه 3 - إدمون عمران المالح، رسائل إلى ذاتي، م.سا ص 40 4 - المرجع نفسه ص15 5 - المرجع نفسه ص26 6 - المرجع نفسه ص 15 7 - المرجع نفسه ص17 8 - Michel de Montaigne, Essais, Livre III, IX. 9 - المرجع نفسه ص42 10 - المرجع نفسه ص42-43. 11 - المرجع نفس ص5. 12 -المرجع نفسه ص48. 13 - المرجع نفسه ص60. 14 -المرجع نفسه 41. 15 - « تعاينون بزوغ التهمة الناجمة عن تصرف بورخيص دون أن يصدر أي اعتذار من العبقري». المرجع نفسه55 16 -المرجع نفسه18 17 -المرجع نفسه62 18- رولاند بارث، متعة النص، م.سا ص 259 19 - المرجع نفسه 20 - إدمون عمران المالح، رسائل إلى ذاتي، م.سا ص 40 21 - المرجع نفسه ص15 22 - المرجع نفسه ص26 23 - المرجع نفسه ص 15 24 - المرجع نفسه ص17 25 - Michel de Montaigne, Essais, Livre III, IX. 26 - المرجع نفسه ص42 27 - المرجع نفسه ص42-43. 28 - المرجع نفس ص5.