ينتظم في كل سنة ببعض أحياء مدينة الدارالبيضاء، وأساسا بدرب السلطان، سوق ليس كباقي أسواق المدينة، ليس فقط لأن تجاره ورواده يلتقون مرة في السنة، وفي زمن لا يتعدى الثلاثة أيام، ولكن أيضا لأن تجاره من نوع خاص، فهم إما متسولون يحترفون تسول لحم الأضحية أو لصوص يتربصون بخروف العيد، وفي حالات أخرى مدمنون ليس أمامهم سوى إعادة بيع لحم العيد لسد حاجتهم إلى المال. ليس ذلك فقط، فما يميز السوق أيضا أن السلعة المعروضة فيه خاصة بلحم أضحية العيد دون سواها. فمن هم تجارهذا السوق وزبناؤه؟ وما هو ثمن البيع وعلاقته بثمن باقي اللحوم المعروضة في الأسواق المنظمة والخاضعة لمراقبة المصالح البيطرية والصحية؟ وكيف يمكن لهؤلاء الإتجار في لحوم متحصل عليها من عمليات سرقة تحت أعين السلطات الأمنية؟ ولماذا تصرف السلطات الصحية النظر عن هذه الأسواق التي تعرض سلعا قابلة للاستهلاك على الأرصفة وسط غبار يخنق الأنفاس؟ الساعة تشير إلى الثانية بعد زوال يوم الخميس الماضي. يختلف رواد السوق بين العارضين والمشترين والفضوليين، رغم أنهم الأكثرية. سيدة في العقد السادس من عمرها. تقتعد كرسيا بإحدى الأزقة المتفرعة عن زنقة بني مكيلد بعمالة مقاطعات درب السلطان. جلباب بال ونقاب يحجب ملامح وجهها، فقط عينان جاحظتان تكادان تقفزان من محجريهما «كاين شي سلعة للبيع أوليدي؟»، تسأل شابا يحمل قفة بيده. يغمغم هذا الأخير بكلمات غير مفهومة دلالة على عدم رضاه، لأجل ذلك تصرف النظر عنه، فأمره لا يعنيها في شئ، مادامت تبحث عن صفقة قد تكون رابحة في ثاني أيام العيد. لا تضيع هذه المرأة الفرصة، كما لا تكل من مدح سلعتها المفروشة على الأرض. لا تكاد تنتهي من زبون إلا لتشبك في آخر. مستعدة لمفاوضة من يبدي اهتماما بالسلعة التي أمامها وأيضا لاقتناء المزيد من اللحم ممن يعرضه للبيع، انتباهها ورغبتها في اقتناء المزيد من اللحم لا يعني البتة أنها خائفة على بوار السلعة. باعة المأكولات زبناء من الدرجة الأولى في غمرة انشغالها بمفاوضة زبون سألها عن سعر كومة من اللحم معروضة أمامها، التفتت إلى زبونة أخرى، «خودي آبنتي لحيمات زوينات»، الزبونة التالية ليست سوى سيدة في أواسط الأربعينيات من عمرها ترافقها سيدة أخرى من نفس السن. جلباب تقليدي مطرز، يعكس أناقة هاته السيدة التي كانت تحمل في يدها مفاتيح سيارتها الخاصة. زبناء هذا السوق ليسوا فقط من الفئات المعوزة، بل أيضا من طبقات اجتماعية أخرى، تقول صاحبة السلعة بعد استفسارها عن نوعية زبنائها، إنهم من جميع الفئات الاجتماعية، ولكل زبون أسبابه التي تدفعه لزيارة هذا السوق. الزبناء هنا كثر، ولكل زبون سبب يدفعه إلى هذا السوق الذي يعرفه البيضاويون منذ زمن ليس بالقريب. الزبون الأول لهذا السوق، يقول تاجر من السوق، هم تجار «الخليع»، الذين يقتنون اللحوم لتحويلها إلى»خليع» في «قاعة الزيتون»، يأتي بعدهم أضحاب العربات المجرورة لبيع المأكولات، خصوصا باعة «الصوصيص»، وأيضا النسوة اللواتي يستهويهن إعداد «القديد»، حيث يغتنمن الفرصة لاقتناء أكبر قدر ممكن من اللحم. الفضوليون مرفوضون ترفض هذه السيدة الكشف عن هويتها، بل ترفض حتى ذكر اسمها الشخصي. «شوف آولدي بغيتي هاد الرزق (تشير إلى السلعة المعروضة أمامها) هاهو نتفاهم معاك..إلا كتقلب على شي حاجة أخرى سير فحالك..مكاينش اللي غادي يعقل عليك ف هاد السوق». الفضوليون مرفوضون هنا بقوة الواقع، يقول محمد دليلنا إلى السوق الذي ينتظم كل ثلاثة أيام من السنة، تحت أعين السلطات، وبمباركتها أحيانا أخرى. «فالتجار هنا، يضيف نفس المصدر، لا يشبهون باقي تجار الأسواق.إنهم إما متسولون يحترفون أيام العيد وأجزاء من لياليه التجول بين الأزقة والأحياء السكنية يقرعون الأبواب من أجل الظفر بقطع لحم لفائدة أطفالهم، حيث يدعون أنه نادرا ما يتيسر تدبيره لهم، أو لصوص يتربصون بالأضاحي بعد أن يتركها أصحابها معلقة بأسطح المباني السكنية لتجف، كما قد يكونون من مدمني المخدرات دفعتهم الحاجة إلى المال لتصريف بعض من لحم العيد في هذا السوق الذي يقع في قلب المدينة، ومن أجل ذلك ليس غريبا أن تصادف جل تجار السوق يحملون ندوبا على وجوههم أو منهمكين في إعداد قطعة حشيش من أجل تدخينها بشكل جماعي. نصائح الأطباء إلى سلة المهملات في هذا السوق، حيث تعرض مخلفات الخروف بجميع أنواعها، لا فرق بين فروة الكبش، وقوائمه، ولحمه، أو أمعائه، الكل مطلوب، ولكل سلعة زبونها. على الزائر التقيد بشرط واحد هو حسن التفاوض مع البائع. أما الشروط الصحية التي يوصي بها الأطباء، فليس المجال هنا للتقيد بها. إذ لا مجال هنا لحفظ قطع اللحم المعروضة على الرصيف في درجة حرارة أقل من 7 درجات مئوية، كما تكفي نظرة بسيطة للتأكد من أن اللحوم المعروضة للبيع لم تحتفظ جميعها بلونها الطبيعي، أي اللون الأحمر الوردي، لكن من يولي للأمر اهتماما؟ «معركة» المفاوضات يقع هذا السوق الموسمي في قلب الحي الشعبي درب السلطان، حيث يتفرع إلى العديد من أزقة الحي، لكن لا يعني ذلك أن سوق بيع لحم أضحية العيد سوق كباقي الأسواق. كدأبه منذ سنوات يفرش خالد لبضاعته علبة كارتونية مغطاة بالبلاستيك، يعرض عليها بعضا من قطع اللحم. يقتني هذا التاجر كباقي التجار هنا، اللحم من تجار «الجملة» قبل أن يعرضه لزبنائه بالتقسيط. مرة أخرى يجب توضيح أمر أساسي. تاجر الجملة في مثل هذه الأسواق لقب يطلق على اللص الذي يسعى إلى بيع «السقيطة» كاملة، أو على الأقل الجزء الأكبر منها، كما يطلق على محترفي التسول، الذين يحصلون على كميات كبيرة من اللحم. ما يتحكم في سعر البضاعة في هذا السوق لا يختلف كثيرا عن باقي الأسواق. في هذا السوق تعرض اللحوم على الأرصفة وسط غبار يخنق الأنفاس، لكن مع ذلك تظل جودة اللحم محددا أساسيا للسعر. هنا في هذا السوق لا يتعدى سعر الكيلوغرام الواحد من اللحم حوالي 30 درهما، رغم أن سعر بيعه في باقي الأسواق يتجاوز ال70 درهما، كما قد يقل السعر إلى ما دون 30 درهما، إذا كانت الكمية المراد اقتناؤها كبيرة أو جودتها ضعيفة، فضلا عن ذلك ، فإن شطارة المشتري ورغبة بعض اللصوص في تصريف اللحوم المسروقة في أقرب وقت، محدد آخر يكون حاسما لإنهاء «معركة» المفاوضات، التي لا تنتهي دائما بسلام. تحديد ثمن الكيلوغرام الواحد لا يعني قطعا أن السلع المعروضة للبيع تخضع لمنطق الكيل، ببساطة لأن لا أحد من الباعة يفكر في الاستعانة بميزان. العرض هنا يقتصر على «العرام»، كما لكل بضاعة ثمنها. «هذا الرأس ديال حولي ثني (لا يتجاوز سنه العامين) قلب مع راسك..آرا ليا فيه غير 70 درهم»، يفاوض خالد زبونا استفسره عن ثمن رأس خروف معروض للبيع، قبل أن يضيف بنبرة كلها ثقة: «لكل بائع هنا زبناؤه. الجودة ليس لها ثمن آخويا. هذا الكتف لا يمكن أن يقل ثمنه عن 100 درهم». حكايات من السوق في هذا السوق يمكنك أن تصادف متسولة طرقت لتوها بابك يوما لتمدها بقليل من اللحم لتقدمه لأيتام لا معيل لهم، هي على الأرجح واحدة من نصف مليون متسول ومتسولة يجوبون أزقة ودروب المدن المغربية طولا وعرضا بحثا عن ضحايا، كما يمكنك أن تصادف شابا يضع على فمه قطعة ثوب بطعم «السليسيون» على ظهر عربة تكدست فوقها عشرات «البطاين» يجرها حمار. بعد أن عوض هذا المشهد مشهدا سابقا حين كانت العادة في المدن والبوادي، أن يمر»بوالبطاين»، وهو يلبس فروة الخروف حتى يبدو على هيأته، بقرنين على رأسه، ويطوف على البيوت طالبا «جلدة الخروف»، حيث يتحلق حوله الأطفال، وهو يؤدّي حركات طريفة تضحكهم. في هذا السوق أيضا أكثر من رواية يحكيها رواده بكثير من التندر.أحيانا يصعب تصديق كل ما يقال، رغم أن الجميع يقسم أن ما يحكيه جرى أمامه وشاهد تفاصيله بأم عينيه. من الحكايات الطريفة التي يرويها رواد هذا السوق حكاية العائلة التي تقطن بأحد الأحياء المجاورة للسوق. في كل عام يؤكد الرواة أن الحادث كان في العام الماضي، مع الاختلاف في بعض التفاصيل التي لا تغير من بنية الحكاية شيئا. يحكي محمد، الذي يحوله الفضول إلى شبه مقيم في السوق كلما التأم تجاره، أن أسرة تقطن بأحد الأحياء المجاورة للسوق ما أن انتهت صبيحة أحد الأعياد من تحضير أول وجبة من كبش العيد، حتى انتبهت إلى غياب ما تبقى من خروف العيد. لم يكن ممكنا تعيين واحد من أفراد الأسرة الذين تحلقوا حول وجبة الكبد الملفوف بالشحم، وهي الفرصة التي انتهزها لص ظل متربصا ب(السكيطة) التي كانت معلقة على واجهة باب منزل الأسرة الضيق والمتواجد في الطابق السفلي، لتركها تجف. ما أن اكتشف أفراد الأسرة ما حل بهم من مصاب في ليلة العيد حتى بدأت رحلة البحث عن هوية السارق الذي تجرأ على سرقة (السكيطة) كاملة من أمام باب المنزل دون خوف، قبل أن يتوجهوا بإيعاز من بعض الجيران إلى السوق، ليصادفوا هناك اللص وهو يساوم تاجرا آخر حول ثمن البيع، حيث انهالوا عليه جميعا ركلا ورفسا، لكن بعد أن استرجعوا ما بحوزته من لحم العيد. أسئلة لابد منها زيارة هذا السوق الموسمي لا يمكن أن تنتهي كما بدأت، عوض علامات الدهشة التي يمكن أن ترافق من يزور السوق لأول مرة، تصبح الأسئلة أكثر قلقا. كيف يمكن لهؤلاء الاتجار في لحوم متحصل عليها من عمليات سرقة تحت أعين السلطات الأمنية؟ ولماذا تصرف السلطات الصحية النظر عن هذه الأسواق التي تعرض سلعا ستوجه للاستهلاك على الأرصفة وسط غبار يخنق الأنفاس؟ هل يعقل أن يقام سوق موسمي بهذا الحجم في قلب مدينة بحجم الدار البيضاء؟