القانون الحي: في التأثير البعدي عن النص القانوني إذا كانت النصوص القانونية يفترض فيها أن تعبر عن الواقع، وتسعى إلى توجيهه وضبطه، فإن الممارسة القانونية والقضائية أثبتت أن النظام السياسي المغربي يعرف انفصالا حادا بين القانون والمجتمع، فالعديد من النصوص لا تعبر بتاتا عن الواقع، وبعضها الآخر لا يجد طريقه إلى التطبيق. إن هذا الانفصام لا يعبر عن الطبيعة الرخوة للدولة المغربية فحسب، حيث تعجز هذه الأخيرة عن فرض سلطانها في العديد من المجالات، لدرجة يحس معها المرء أن أجهزة الدولة غائبة. بل يعبر أيضا عن ظاهرة تطوير الفاعلين السياسيين والاجتماعيين؛ جماعات وأشخاص لممارسات منافية للنصوص القانونية ومتحايلة عليها، ومحرفة لها، تصبح بمثابة «القانون» الفعلي والحقيقي. إنه القانون الحي، الذي يطوره المجتمع، وينتعش كلما كانت أجهزة الدولة ضعيفة، أو تسلك مرونة زائدة حد الميوعة كاستراتيجية للحكم والتسيير، حيث توظف «الفوضى» المتحكم فيها، و»غير المهيكل» في التدبير السياسي، وكلما كانت النصوص القانونية لا تعبر عن الواقع ولا تستجيب له. ولا يخرج قانون الأحزاب في المغرب عن هذه الدائرة، وغير بعيد عن مختلف تأثيرات الوضعية السابق الإشارة إليها. فبعد فترة قصيرة من دخوله حيز التنفيذ، اتضحت محدوديته في الحد من الاختلالات التي تعرفها الأحزاب والممارسة السياسية. ويعد الترحال السياسي من أهم التحديات التي واجهت القانون المذكور. الترحال السياسي نتاج طبيعي للبيئة السياسية المغربية كفعل سياسي، قد يبدو الترحال مرتبط بالمؤسسة التشريعية والأحزاب فحسب، لكن كظاهرة سوسيو-سياسية، فإن الترحال البرلماني لا يمكن فصله عن النظام السياسي بهيكلياته الرسمية وغير الرسمية، وبممارساتها طيلة الحياة السياسية المغربية، وبالثقافة السياسية السائدة، وتحولاتها. الترحال السياسي، يمكن أن يستند في تبريرات شرعنته على خلفية ديموقراطية مضمونها حرية الانتماء والاختيار المضمونة دستوريا وقانونا، رغم أن مداراته وأهدافه تصب في اتجاه تقويض الديمقراطية ذاتها. التناقض الصارخ بين التبريرات القانونية والآثار المنافية للديموقراطية، يعبر فعلا عن تناقضات عميقة في الحقل السياسي المغربي. تناقضات يعيشها نظام سياسي يستحضر الانتقال الديمقراطي في الخطاب، ويطالب الأحزاب السياسية بالتخليق والديموقراطية الداخلية، دون الالتزام بتطبيقها على مستوى مؤسساته وسياساته، ولا على مستوى تدخلاته وتوجهاته. وتناقضات أخرى تعرفها أحزاب سياسية تطالب باقي الفاعلين الرسميين وغير الرسميين بالالتزام بالمبادئ الديموقراطية واحترامها، وتقدم الإصلاحات الديموقراطية على رأس أولويتها، دون النأي عن الممارسات المضرة بها والسلوكيات المنافية لها، ودون تطبيق الديموقراطية في هيكلتها وتنظيمها. وتناقضات المواطن المغربي الذي لا يجد أي حرج في التعارض بين الخطاب والسلوك، وبين الظاهر والباطن. وتعد ظاهرة الترحال السياسي مظهرا عن هذه التناقضات ونتيجة لها، إلى جانب مظاهر ونتائج أخرى، فالسلطة السياسية التي يفترض فيها في زمن الانتقال الديموقراطي، التشديد على تخليق الحياة السياسية، والرفع من قيمة الانتماء السياسي وأهميته، ومن رمزية الالتزام السياسي في الحقل السياسي المغربي، اكتفت بمنع الترحال قانونيا دون فرض الجزاء، وكأنها تقدم توجيهات أو متمنيات، ورضخت في هذا الصدد لضغوطات «مولودها» المدلل. والأحزاب السياسية التي تتغنى بموال المنهجية الديموقراطية، وتنتقد بشدة إفساد العملية الانتخابية والتأثير فيها، وتراجع نسب المشاركة السياسية، ينخرط أغلبها بدرجات متفاوتة في الاستفادة من الترحال، تتراوح بين النهم غير المحدد بأي ضوابط، وبين التحفظ المحتشم. والسياسي الذي يشغل الدنيا بأهمية الالتزام السياسي، وبالأمانة والأخلاق السياسية، يجهد نفسه في الآن ذاته في ابتكار الأسباب الموضوعية «للعزيب» السياسي. إن الترحال السياسي، لا يمكن فصله عن الاختلالات التي تعرفها البيئة السياسية المغربية، كما لا يمكن اختزال أسبابه في عوامل ظاهرة أو سطحية، لكونه مرتبط بجذور عميقة في المجتمع المغربي عامة، وفي النظام السياسي خاصة. فعلى مستوى الأحزاب، يمكن اعتبار الترحال السياسي نتيجة مباشرة لضعف الديموقراطية الداخلية، وما تطرحه من انغلاق الآفاق أمام النخب الحزبية، ومن صعوبة في طرح الأفكار، وما يرافقها من إقصاء وتهميش لهذا الطرف أو ذاك، ولضعف رابطة الالتزام السياسي بين الحزب ومنتخبيه، لاسيما مع الانفتاح البراغماتي على الأعيان والمبذرين الذي نهجته أغلب الأحزاب المغربية. وعلى مستوى الانتخابات، يرتبط الترحال السياسي بالظواهر السلبية التي تعرفها الانتخابات المغربية، لاسيما التأثير في النتائج الانتخابية؛ من خلال التزوير، أو من خلال دعم حزب معين على حساب أحزاب أخرى، أو من خلال الأموال (رشاوى الانتخابات والتزكيات)، والتي تمس في العمق العلاقة بين الناخبين والمنتخبين. فإذا كانت العملية الانتخابية مطعون في مصداقيتها، فما الجدوى من الحديث عن الأمانة والالتزام السياسي وجدية العلاقة بين طرفي العملية الانتخابية! وعلى مستوى النظام السياسي يمكن اعتبار ضعف القنوات الديموقراطية للوصول إلى المناصب السياسية، وسيطرة الزبونية والشخصانية، وانخراط السلطة السياسية في عمليات إقصاء أحزاب وتقريب أحزاب أخرى، وفي خلق أحزاب تابعة لها، تستفيد من مختلف الامتيازات على المستويين المركزي والمحلي، والهوامش الواسعة التي يتيحها النظام السياسي المغربي لتوريط النخبة السياسية وتورطها سياسيا واقتصاديا، من أهم الأسباب المساهمة في الترحال السياسي. ولا غرابة، إن لاحظنا تزايد وتيرته ونسبه عند كل ظهور لحزب إداري جديد، يسوق متزعميه مختلف امتيازات المخزن؛ من مناصب سياسية وإدارية للحالمين بتحسين وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومن حماية آمنة للمتورطين والجشعين. وعلى مستوى الثقافة السياسية، يجد الترحال السياسي جذوره في الشخصية المغربية، المؤمنة بجواز اللعب على جميع السلاليم، وبأن الانتماء السياسي لا يؤدي إلى التزامات أخلاقية وسلوكية، وفي تمثل النخبة للعمل السياسي كونه سبيلا للترقي الاجتماعي والوظيفي، وخدمة المصالح الخاصة أساسا، والوصول إلى الزعامة محليا أو وطنيا. في الإصلاح: الإرادة السياسية والبيئة الديموقراطية مثل المدخل القانوني في خطاب الإصلاح - لاسيما في السنين الأخيرة- المدخل السهل والمركز عليه لتحقيق الانتقال الديموقراطي، لدرجة تغفل فيه باقي المداخل. ولكون الترحال السياسي، يرتبط في جذوره وأسبابه بالاختلالات التي تعرفها البيئة السياسية الوطنية، وبضعف الإرادة في تغيير وتطوير النظام السياسي المغربي، فإن تجاوز الترحال رهين بتوفر الإرادة الحقيقية في الإصلاح، المرتبطة بدون شك بمجالات متعددة، سواء تعلق الأمر بهيكليات الإنتاج أو هيكليات التزويد، وبتحولات إيجابية في البيئة السياسية الوطنية، التي يجب أن تمس المؤسسات السياسية، والأحزاب، والممارسة السياسية، والثقافة السياسية، حتى يصبح الالتزام السياسي ثقافة متجدرة، ويصبح الترحال السياسي ممارسة مرفوضة. فمن المؤكد أن تحويل العمل السياسي والمناصب السياسية إلى سبل وقنوات لخدمة المواطن، وتحقيق المصلحة العامة، والقطع مع ثقافة الريع السياسي والاقتصادي، سيجعل الترحال سلوكا بدون فائدة.