«كثيرا ما تخلق الموت الحياة» عبارة شهيرة من حيث عمق المفارقة التي تحملها، وعبارة الكاتب الفرنسي أندري مالرو هذه لا يمكن أن تطبق على أي انسان كعمر عادي، لكن من المؤكد أنها تنطبق على المرحوم المهدي بنبركة، فظروف اختطافه، اغتياله جعلت منه رجلا معروفا عالميا ورمزا وطنيا مرموقا. فالتسعون سنة التي مرت على ولادته تنشطر إلى قسمين شطرعاشه دنيوية قصيرة لم تتجاوز 45 سنة وشطر يعيشه بقوة وهو مغّيب، لكنه مازال حاضرا رغم انه غائب، حاضر لا يبارح اخبار الظرفيات السياسية في المغرب، كما في فرنسا. يرتبط هذا الحضور طبعا بطلب الكشف عن جثمانه و مرقده وبالإلحاح على معرفة مصيره كحق طبيعي لأفراد أسرته الصغيرة وللعائلة الاتحادية وللمغاربة هنا في المغرب وللتقدميين هناك في ربوع العالم. من هذا المنطلق نفهم كيف تنطبق عبارة مالرو، وإلى حد تنطبق جزئيا على المهدي بنبركة لأن عمره رغم قصره كان مليئا بالمساهمة في مسارات المغرب المعاصر ليجعل منه جزءا من تاريخ المغرب الحديث وجزءا مشرفا ومشرقا من الطموح الجماعي في التقدم والرقي. برز المهدي بنبركة في الساحة بالرباط إبان الكفاح ضد المستعمر وهو المنحدر من عائلة متواضعة، وارتكز هذا البروز بداية على نبوغه في الدراسة في مدرسة الاعيان، ثم في ليسي مولاي يوسف، ولعل عبارة «الرياضيات في خدمة السياسة» والتي لخص بها جان لاكوتير هذه المرحلة من عمر المهدي، تذكر بما برز من دراية وإلمام بفقه الجبر وضروب الهندسة والمنطق، وبما أهله مبكرا لمنصب التدريس ولرئاسة جمعية قدماء الثانوية المذكورة كممثل لتيار الحداثة ضد تيار التقليد وكرمز لحركية الفئات الصاعدة في مواجهة العائلات التقليدية المحافظة. بهذا التوجه شكل انخراط المهدي بن بركة في العمل السياسي دما جديدا تم ضخه في شرايانات الحركة الوطنية وإغناءً شحن به الجيل الجديد القوي المطالبة بالاستقلال بما ترك بصماته في وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي كان المهدي من أحد موقعيها الشباب إلى جانب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. بعد خروجه من السجن تطور نبوغه ليبرز كديناميو الحركة الوطنية على مختلف الواجهات من واجهة إحكام وتقوية تنظيماتها إلى واجهة تطوير وسائل الاعلام لدعم مطلب الاستقلال إلى الدفاع عن المرأة والسعي نحو الخروج بها من الظل والدونية إلى المواطنة، كما جسدت ذلك رسالته في سنة 1947 إلى الملك الراحل محمد الخامس حول النهوض بوضع المرأة المغربية. وقد تجسدت توجهاته نحو الحداثة في مراسيم زواجه أيضا والذي بقيت ذكراه وصوره عالقة بأذهان جيل بكامله بمدينة الرباط، كما برزت مكانته ضمن زعماء الحركة الوطنية من مصاحبته لمحمد الخامس في زيارته لمدينة طنجة. وفي أواخر الخمسينات اشتد صيت المهدي ليصبح بمثابة العدو الأول لمؤسسة الاقامة العامة التي كانت مصدر القرارات الاستعمارية للحماية الفرنسية المفروضة على المغرب ،وبذلك تم اتخاذ قرار اعتقاله ونفيه سنة 1950. أي سنتين قبل اغتيال فرحات حشاد في 1952 وثلاث سنوات قبل نفى المغفول له محمد الخامس سنة 1953 فالمكانة التي تصدرها المهدي والشهرة التي أصبحت له ستزداد بعد الاستقلال من خلال حدسه للمشاكل المطروحة على الحركة الوطنية وهي تتهيأ لوضع لبنات المغرب المستقبل، حيث برزت التوجهات التقدمية الحداثية للمهدي في توجهات أساسية لمسار المغرب إلالحاح على محاربة الامية كمحور استراتيجي لعمل البناء الوطني، هي من اقتراحات المهدي وتشييد طريق الوحدة كنهج تعبوي للقدرات الوطنية، أشرف عليها وهيأ لها المهدي وألحت على تكوين جمعيات الشباب كأنوية مؤطرة لتربية وطنية سليمة، لعب فيها المهدي دورا بارزا، بجانب ترؤسه للمجلس الاستشاري كأولى المؤسسات في بناء الدولة الديمقراطية. كذلك يتجلى ثراء فكره في العمل على توسيع قاعدة الحزب من خلال تقوية الارتباط بالمقاومة والنقابة ،وجعل الحزب يعبر عن أوسع القوى التي يتكون منها المجتمع. وبالرغم من أنه لم يكن المبادر الأول، اعتبر المهدي من الذين اطلقوا شرارة تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقائدا بارزا لانتفاضة الجامعات المستقلة لحزب الإستقلال والمحرك الاول للعمل التنظيمي المساند للتوجه التحرري الذي تجسد مع برامج حكومة عبد الله ابراهيم من حهة، وفي التقرير النقدي للسنوات الأولى لمسار استقلال المغرب، وهو التقرير الذي سيسمى فيما بعد، أي بعد وفاته، الاختيار الثوري والذي شكل أرضية لنقاش وجدل فكري بصم عمل وفكر جيلين على الأقل في مغربنا الحديث،كذلك وإيمانا منه بوحدة المصير وارتباط مآل الشعوب ،تحرك المهدي على واجهة العمل المغاربي المشترك وكان له دور مرموق في التآم مؤتمر طنجة. وتجسدت حركية المهدي بشكل لافت في استعابه لأهمية البعد العالم الثالثي، موازاة مع موجة التحرر التي عمت المعمور، فكان من العاملين في الصفوف الاولى لتجسيد التضامن الافريقي الاسيوي ومده بمؤسسات وآليات التعبير عن مطامح شعوب العالم في التحرر والانعتاق، هكذا عمل المهدي بنبركة بمعية جمال عبد الناصر والمارشال جوزيف تيتو وهوشيملغ وماوتسي تونغ وفيدل كاسترو ونيكروما لتحضير مؤسسات التضامن الافريقي والاسيوي وبعدها منظمة القارات الثلاث للعب دورها في مسار العالم. وبهذه الحظوة على الصعيد الدولي كان للمهدي أمله في تليين الصراع الصيني السوفياتي في اتجاه تقارب يخدم المد التحرري في العالم. كما كان له طموحه في التعريف بالقضية الفلسطينية ونصرة شعبها في استرجاع ارضه المغتصبة في نفس الوقت الذي ظل فيه مهووسا بمخلفات الاستعمار الجديد في القارة الافريقية. هكذا انتهى عمر المهدي الدنيوي أو الشطر الاول بعد وفاته متأرجحا بين مسارين متناقضين: مسار يهيمن عليه التفكير في التهييء للدخول إلى المغرب والرجوع إلى واجهة الاحداث الداخلية، خاصة بعد أحداث مارس 1965 ومسار التعبئة في اتجاه قضايا الواجهة العالمية والذي كان على أهبة عقد مؤتمر كوبا، لكن وقع الاختطاف والاغتيال ،فابتدأت الحياة الثانية بخسارة كبرى سيكون لها تأثيرها لتجعل من الحياة الثانية معلمة مازالت أثارها بادية. في البداية لم يكن طرح ملف المهدي بنبركة بالأمر الهين أو السهل. ففي المحاكمة أو في أحد أطراف المحاكمة بفرنسا برز دور الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي في توضيح ملابسات الملف وتشعباته في الوقت الذي تكفل به الاستاذ الاخضر الابراهيمي بقضايا العائلة الصغرى. على المستوى الداخلي طرح المشكل، لكن منع كل تحرك بما في ذلك وضع باقات الورود امام منزل الشهيد، وكان المناضلون المكلومون بهول الاختطاف والاغتيال عرضة للمتابعات والمضايقات، لكن رغم ذلك كان للاتحاد الاشتراكي دور كبير في محاربة النسيان. كما كان لكتابات الاخ عبد اللطيف جبرو دور في المتابعة الصحفية للملف وفي تغذية الرأي العام بمستجدات البحث والتحقيق وبطرح التساؤلات والاستفهامات الناجمة عن مناطق ظل عملية الاختطاف. من أبرز سمات الحياة الثانية كون المد التحرري اتجه نحو الخمود والتراجع رغم نهاية حرب الفيتنام، كما تبرز ذلك محطات كثيرة مثل هزيمة اكتوبر 1967 وتأجج الصراع الصيني السوفياتي وتنامي المد اللبيرالي والتدخلات الامبريالية ضد الانظمة التقدمية والانحسارات التي أصابت هنا وهناك العديد من الحركات التحررية في العالم. على المستوى الداخلي في المغرب ، وقعت تراجعات تتلخص فيما عرف بحالة استثناء وفي مسلسل الانقلابات التي قادها الجنرال أوفقير وفي ترسيخ مظاهر الجمود الإقتصادي وفقدان النسيج الاجتماعي لدرجة الحيوية والحركية التي كان يعرفها مباشرة بعد الاستقلال وربما سيذكر التاريخ على رأس الوجوه المشرفة في هاته الفترة مسلسل استرجاع الصحراء، وهو مسلسل كان في حاجة ماسة إلى رجل من طينة المهدي. ومما لاشك فيه أن غيابه أفقد المغرب الكثير. لقد أفقده السمعة والاعتبار في أعين العديد من الاحزاب والنقابات وحتى الحكومات. فوضع المغرب آنذاك وظف توظيفا جهنميا ضد المغرب وضد القضايا العادلة للمغرب وعلى رأسها استرجاع الصحراء من طرف قوى اليسار والتقدم في العالم، فالمعروف أن المغرب كان يصنف في خانة اليمين والرجعية، في الوقت الذي كان يحسب فيه نظام الجزائر ضمن صفوف التقدم (عن خطأ طبعا). واليوم بعد أن طويت هذه الصفحة القاتمة مع بزوع مغرب الاصلاحات والمصالحات ومع التوجهات الحداثية للسنوات الاخيرة، سيكون من المفيد لبلدنا الاستمرار في السعي نحو المصالحة مع الماضي، مصالحة مكتملة من خلال الدفع نحو معرفة الحقيقة في هذا الملف، فالتوجه الذي أقره جلالة الملك نحو الإنصاف والمصالحة سيكتمل فعلا من خلال طي آخر ملف كبير مازال عالقا وهو ملف المهدي بنبركة ليرتاح الرجل في قبره ولترتاح العائلة وهي مشبعة بعزاء الحقيقة، وليرتاح الضمير الجماعي، ولكي تكون نهاية العمر الثاني نهاية تعترف بكون الرجل وما مثله من أفكار وأعمال وتوجهات جزء من تاريخ البلاد، جزء مشرق لهذا التاريخ وجزء مفتوح على متطلبات وطموحات المغرب والمغاربة.