- مفهوم الدبلوماسية البرلمانية قفز إلى الحقل السياسي المغربي في السنوات الأخيرة و أصبح الفاعلون السياسيون يوظفونه بدون تعميق النقاش حوله أو إعمال هذا المفهوم في الممارسة السياسية، أستاذ لكريني ألا ترون أن هذا المفهوم يحتاج إلى ضبط و تأصيل سواء على مستوى التنظير و الممارسة؟ - ينبغي الإشارة في البداية إلى أن السياسة الخارجية هي مجال حيوي بالنسبة لكل دولة، الأمر الذي يفرض تدبيرها بنوع من التشارك في عالم تعقّدت فيه الأزمات والقضايا وتبيّن خلالها عجز الأدوات والأساليب التقليدية والرسمية في هذا السياق، ولعل هذا ما حرصت عليه مجمل الدساتير في العالم مثلا نجد الدستور الأمريكي يمنح صلاحيات مهمة للكونغرس في حقل السياسة الخارجية؛ مع تمكين رئيس الدولة من صلاحيات محورية في هذا الشأن. وترتبط السياسة الخارجية للدول بمجموعة من السلوكات السياسية التي تباشرها الدولة على المستوى الخارجي في سبيل تحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح الحيوية المختلفة التي ترسمها الدولة. وعلى مستوى بلورة هذه السياسة؛ فعادة ما يتم تقسيم الآليات الرسمية لصناعة السّياسة الخارجية إلى مؤسسات داخلية وأخرى خارجية؛ فالأولى تتركز بالأساس في مؤسسة الرئاسة التي غالبا ما تحظى باختصاصات دستورية هامة في هذا الشأن(توقيع المعاهدات؛ اعتماد وبعث السفراء؛ الإشراف على المفاوضات الخارجية, التمثيل الخارجي للدولة..)، ثم وزارة الخارجية باعتبارها الجهاز التنفيذي الذي يتولى تدبير الشؤون الخارجية للدولة ومتابعتها مع مختلف الفاعلين الدوليين (رعاية مصالح الدولة ورعاياها في الخارج, تمثيل الدولة في المؤتمرات والملتقيات الدولية, ترسيخ سبل التعاون مع مختلف الدول والمنظمات الدولية..).أما الثانية؛ فتتركز أساسا في البعثات الدبلوماسية المنظمة بموجب اتفاقية فيينا الموقعة بتاريخ 18 أبريل 1961 والقنصلية المحددة بموجب اتفاقية فيينا الموقعة بتاريخ 24 أبريل 1963. غير أن نموّ العلاقات الدولية وتطورها في العقود الأخيرة من جهة؛ وما رافقه من تعقد للقضايا والأزمات والصراعات الدولية من جهة ثانية؛ أصبح يفرض نوعا من الانفتاح على فاعلين جدد غير رسميين، لهم أهميتهم في تمتين وتعزيز دبلوماسية الدولة وعقلنة القرارات الخارجية بشكل عام على طريق تحقيق الأهداف والمصالح الحيوية المتوخاة، وفي هذا الصدد تبدو أهمّية الدبلوماسية البرلمانية إلى جانب فاعلين آخرين من قبيل فعاليات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والجماعات المحلية والجامعات والنخب الاقتصادية والنخب المثقفة.. فإلى جانب مهامها المرتبطة بالتشريع وإعمال الرقابة على العمل الحكومي تحظى الهيئات التشريعية في مختلف الأنظمة الدستورية ببعض الصلاحيات المرتبطة بالشأن الدبلوماسي، وإذا كان الدستور المغربي قد خوّل سلطات محورية في هذا الشأن إلى المؤسسة الملكية، فإن البرلمان بدوره يمارس بعض هذه الصلاحيات في إطار الحدود الضيقة المرسومة له، ويحاول تطويرها تبعا للتحولات السياسية الداخلية أو تلك التي يفرضها المحيط الدولي بمتغيراته المختلفة. - الدبلوماسية البرلمانية تهم أساسا السياسة الخارجية لأي بلد، برأيك هل يُفعل البرلمان المغربي بغرفتيه هذا المفهوم؟ - كما ذكرت؛ يمكن للبرلمان باعتباره المسؤول عن رسم وتحديد السياسة العامة للدولة؛ ومراقبة العمل الحكومي؛ أن يلعب بعض الأدوار في علاقتها بصياغة السيّاسة الخارجية بموجب نصوص الدستور؛ سواء من خلال وسيلة التشريع القانوني المرتبط بالمصادقة على بعض الاتفاقيات أو إعمال الرقابة على النشاط الخارجي للحكومة. فإلى جانب الأسس الدستورية التي تتيح لهذه المؤسسة التأثير في السياسة الخارجية للدولة(الفصول 31 و60 و75 و76 و77 من الدستور المغربي)، فإن هناك عوامل أخرى يستمد منها البرلمان صلاحياته في هذا الشأن، من قبيل التوجيهات الملكية، حيث كان الراحل الحسن الثاني وبخاصّة خلال افتتاح بعض الدورات التشريعية يحث الهيئة البرلمانية على الانخراط في العمل الدبلوماسي خدمة للقضايا الوطنية، وهو ما نجده أيضا في عدد من الخطب التي افتتح بها الملك محمد السادس دورات البرلمان.. وقد سعى البرلمان المغربي في السنوات الأخيرة إلى بلورة عدد من المواقف والسلوكات تّجاه هذه القضايا مختلفة (قضية الصحراء المغربية وقضية فلسطين وقضية العراق ومشكل الصيد البحري وظاهرة «الإرهاب» الدولي والعلاقات المغربية مع بعض القوى الدولية كالاتحاد الأوربي..) بواسطة بيانات تصدر عنه أو عبر الاتصالات والزيارات واللقاءات التي تجريها مع الوفود البرلمانية في إطار التنسيق مع مؤسسات تشريعية أخرى ضمن ما يعرف بالدبلوماسية البرلمانية الثنائية أو الدبلوماسية البرلمانية الجماعية التي تتم من خلال بعض الاتحادات البرلمانية الإقليمية والدولية (مجلس الشورى المغاربي؛ واتحاد البرلمانات العربية والإفريقية؛ والبرلمانات الأورو- متوسطية؛ والاتحاد البرلماني الدولي..). أو من خلال استقبال مسؤولي الدول والمنظمات الدولية وإبلاغهم بمواقف المغرب إزاء مختلف القضايا، وإصدار بيانات بصدد هذه القضايا أيضا.. ومع ذلك؛ فلازالت الدبلوماسية البرلمانية للمغرب ظرفية و»مناسباتية»؛ وتفتقد للنجاعة المطلوبة من حيث تأثيراتها في القرار الخارجي وفعاليتها..؛ نتيجة مجموعة من العوامل الدستورية والسياسية والتقنية.. - ألا ترى أن الدبلوماسية البرلمانية يفهمها ويحصرها مجمل الفاعلين السياسيين بالمغرب في التعامل مع القضية الوطنية والدفاع عن مداخل الحل فيها، ولا يمتد عمل هذه الدبلوماسية إلى قضايا أخرى؟ - مما لا شك فيه أن دور البرلمان في صياغة السياسة الخارجية المغربية ازداد بصورة ملحوظة في ظل التغيرات الدولية المرتبطة بتعقد العلاقات الدولية وتطورها وتنامي البعد الديمقراطي في الخطاب الدولي من جهة، وقد كان للتطورات التي شهدتها قضية الصحراء في السنوات الأخيرة أثر كبير في بلورة بعض المواقف والسلوكات الخارجية للبرلمان بغرفتيه. قد نتفهم تركيز البرلمان على قضية الصحراء من حيث أهمية هذا الملف؛ وحجم التحديات التي أضحت تواجهه في السنوات الأخيرة وبخاصة بعد طرح مشروع الحكم الذاتي؛ بفعل تعنت الخصوم وإصرارهم على مواقفهم؛ ومن حيث استئثار هذا الملف أيضا بأولوية السياسة الخارجية للدبلوماسية المغربية الرسمية ذاتها بل وتأثيره في ملامح هذه الأخيرة أيضا. ولكن مع ذلك؛ أقول إن الدبلوماسية البرلمانية ينبغي أن تتجاوز نقل الرسائل والاقتصار على تكرار خطابات ومضامين الدبلوماسية الرسمية والتركيز على ملف وحيد رغم أهميته؛ إلى بلورة مواقف واتصالات ومبادرات عدة تدعم مصالح البلد خارجيا؛ من قبيل جلب الاستثمارات وعقد الشراكات الثقافية والاقتصادية.. وإبراز الإمكانيات الثقافية والحضارية والسياحية للبلد؛ وتمتين العلاقات مع مختلف دول العالم بما يسهم في خدمة المصالح الحيوية للمغرب؛ والاهتمام بشؤون وتطلعات الجاليات المغربية بالخارج ومساندة مطالبها المشروعة بالدول المضيفة؛ بالإضافة إلى دعم القضايا العربية والإسلامية والدولية العادلة والتي تنسجم مع محددات السياسة الخارجية للمغرب.. - هندسة السلطة السياسية وموقع البرلمان المغربي و الكوابح الدستورية التي تؤطر الحياة البرلمانية ، تساهم بالملموس في عدم تطوير الدبلوماسية البرلمانية بالمغرب؟ - كما هو معلوم؛ البرلمان المغربي يستند في ممارساته الدبلوماسية إلى مجموعة من المقتضيات الدستورية: فالمادة 31 من الدستور التي تضمن له تأثيرا مباشرا في هذه السياسة، تنصّ على أن:».. يوقع الملك المعاهدات ويصادق عليها غير أنه لا يصادق على المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة إلا بعد الموافقة عليها بقانون... «. والملفت هنا أن صلاحيات البرلمان بموجب هذا الفصل جاءت محدودة للغاية، فدوره في حقل المعاهدات الدولية يقتصر على الموافقة على الإجراءات التي يقرّها الفاعل الرئيسي الذي هو الملك، وبخاصة إذا ما قارنا هذه الصلاحيات بالصلاحيات المتاحة للسلطة التشريعية في كل من فرنسا وإسبانيا.. كما أن تعبير المعاهدات التي تكلّف مالية الدولة الوارد في هذا الفصل؛ جاء عاما وفضفاضا، وبخاصة وأن كل المعاهدات المبرمة يفترض أن تكلّف مالية الدولة بشكل أو بآخر، ولعل ما يثار عند تطبيق هذا البند هو أن العادة جرت على أن الحكومة هي التي تملك إمكانية تحديد هذا المعطى، أي تمييز المعاهدات التي تكلّف مالية الدولة عن غيرها من المعاهدات. وبموجب الفصول 60 و75 و76 و77 من الدستور يمكن للبرلمان المغربي بغرفتيه أن يؤثر في مسار السياسة الخارجية للبلاد عبر مجموعة من التقنيات، في إطار الرقابة التي يمارسها في مواجهة العمل الحكومي (ملتمس الرقابة وسحب الثقة وتقنية الأسئلة الشفوية والكتابية والتصويت على البرنامج الحكومي). ورغم هذه الإمكانيات، تظل مساهمة البرلمان من حيث مخرجاتها على مستوى بلورة السياسة الخارجية هزيلة، وبخاصة إذا علمنا أن الصلاحيات الحكومية تظل بدورها هامشية في هذا الشأن. والجدير بالذكر أن ضعف الأداء البرلماني في هذا الشان؛ وعلاوة عن ضيق الهامش الدستوري؛ يجد أسبابه أيضا في مجموعة من العوامل ذات الطابع التقني والبشري والأداء الحزبي.. - علاقة بكل هذا، البرلمان المغربي لا تدخله النخب الحقيقية والأحزاب في أغلبها في مجملها لا توفر كوادر برلمانية ملمة بالعلاقات الدولية و الحياة الدولية و لا تملك خبرة تفاوضية في التعاطي مع السياسة الخارجية للبلاد، كيف تفسرون ذلك؟ - على المستوى الدستوري؛ -وكما أسلفت- يبدو أن الهامش المتاح للبرلمان فيما يتعلق بالتأثير في مسار السياسة الخارجية لا زال ضيقا ولا يسمح بتأثير فاعل في هذا الشأن. كما أن التنسيق والتعاون بين غرفتي البرلمان على مستوى بلورة تحركات ومواقف خارجية متكاملة ومنسجمة في جو من التعاون والتنسيق لا زال ضعيفا. ومن جهة أخرى؛ وإذا استحضرنا أهمية الجوانب العلمية والتقنية (الخبرة التفاوضية؛ إدارة الأزمات؛ الاطلاع على عدد من الاتفاقيات والمعاهدات التي تهم الدولة؛ القانون الدبلوماسي؛ مبادئ القانون الدولي..) اللازمة لبلورة دبلوماسية فاعلية؛ يظهر أن الكثير من الأحزاب السياسية لم تستطع بعد إعداد نخب برلمانية قادرة على بلورة سلوكيات ومواقف دبلوماسية في مستوى القضايا المطروحة، تستطيع إخراج زيارات الوفود البرلمانية إلى الخارج من طابعها السياحي إلى خدمة المصالح الحيوية للمغرب؛ ناهيك عن تقصير البرلمان بغرفتيه في مد أعضائه بالخبرات والمهارات والمعارف اللازمة في هذا الشأن. ويزداد الأمر تعقيدا مع حرمان البرلمان من عدد من المعلومات والمعطيات المرتبطة بمختلف القضايا الخارجية التي تدار في كثير من الأحيان بشكل غير منفتح؛ وهو ما يجعل البرلمان مركّزا في عمله على القضايا الداخلية بشكل كبير.