ما بين «متاهات الشنق» و « الأب دحمان» مسافة زمنية قاربت أحد عشر سنة حرص القاص شكيب عبد الحميد على ملئها بالحضور ضمن الملاحق الثقافية (العلم ، الاتحاد الاشتراكي)، وخوضه تجربة القص الجماعي مغربيا وعربيا. قصص المجموعة إحدى عشر وتستغرق قصة الأب دحمان التي أخذت المجموعة لها عنوانا الصفحات من 44 إلى ص 60 من مجموع الصفحات 65. تشكل لعبة البوح والقناع والأحلام المجهضة هاجس الكتابة عند القاص شكيب عبد الحميد أتاحتها تقنية استخدام الضمائر التي تنوعت ما بين ضمير المخاطب والغائب، وتكسير خطية السرد، وفعل الإبهام عبر انتقاء شخصيات مفترضة قد نصادفها في الواقع، يعتني شكيب باختيار شخصياته، ينحتها بدقة متناهية، إن عمله شبيه بما يقوم به النحات في مختبره، شخوصه ضائعة، تائهة، هلامية، منكسرة أمام الواقع، يحتويها الفراغ، تبحث في قمامة الزمن عن دقائق صالحة للاستهلاك على حد تعبيره، لكنها صانعة الأحداث بامتياز كما هو الشأن بالنسبة لنادية الممثلة المسرحية التي تماهت مع شخصية بياتريس حد انسلاخها عن جلدها في قصة « يوميات بياتريس» حتى كأننا نلمس انفعال الكاتب وهو يرسم هذه الشخصية. تبدأ القصة بالدقات الثلاث التي تعني في عرف المسرحيين الانفصال التام عن الواقع للولوج إلى عالم آخر، وحياة أخرى هي بالنسبة لبياتريس/أو نادية عالمها الحقيقي، تشخص نادية الشخصية لتجد نفسها بعد انتهاء العرض ومغادرة الجمهور وحيدة في غرفتها ترتدي ملابسها العادية تقف أمام المرآة تستسلم لنوبة بكاء حاد، نتيجة ارتباك حصل خلال العرض وأخطاء بسيطة لم يلحظها الجمهور لا يخلصها منه إلا ظهور بياتريس في المرآة لتبوح لها أنها خلقتها من نور بعد أن خلقها الكاتب من نار، لتأخذها بعد ذلك نوبة شرود لذيذ... وكشخصية العجوز الذي التقاه الكاتب عبر فرجة سينمائية وأثار في نفسه جملة من التساؤلات، أو شخصية الكاتب الذي استحضر عبره القاص في قصة تحمل نفس العنوان تجربته مع الكتابة والإبداع، أو بطلة قصة «زغردات يا بحر» التي يستعيد من خلالها صراع الفلسفة مع الدين، أو شخصيات حقيقية لها وجود واقعي كشخصية « محمد العادي» الفنان التشكيلي الذي استحضره القاص في قصة « إشارات عابرة» فيما يشبه نوعا من التكريم. وحدها شخصية الأب دحمان مارست سطوتها الكاريزمية على القارئ، وقبله الكاتب فاعتنى بها وبكل التفاصيل الصغيرة المحيطة بها، تطل على القارئ عبر لوحة الغلاف بعينين كسيرتين، ونظرات عميقة وشارب أبيض وبملامح قريبة التفاصيل من ملامح الكاتب على ظهر الكتاب، وحتى لا نتهم بأننا نبحث عن حياة الكاتب فيما يكتبه، وهل تشكل قصة الأب دحمان سيرة ذاتية للقاص (وهل كانت قبل ذلك مشروع عمل روائي يالنظر لحجمها مقارنة مع باقي القصص؟)، نقول اختصارا إن كل كاتب يستلهم حياته الخاصة فيما يكتب دون المجازفة بما هو أكثر من ذلك، وحسن فعل القاص بمنحه عنوان هذه القصة للمجموعة ككل، فقد كانت كالماسة التي تزين العقد، وكفص الخاتم دون أن نغفل قصتين تقدم بهما الكاتب كثيرا في الإمساك بخيوط السرد، والتحكم في لغته القصصية، والسيطرة على مجريات الأحداث وهما قصة « العجوز» و « الكاتب». في قصة « الوقت الميت» يتخلص القاص من خطية السرد ليغوص في لحظات زمنية يقبض عليها مستعملا تقنيات التقطيع والكولاج والتشدير مقدما فنتازيا فاجعة على حد تعبير الناقد « غالي شكري»، تبدأ من الطفولة لتصل إلى السن القانوني الذي يشكل صدمة الواقع ويخول لصاحبه الدخول إلى الجامعة المدججة بالحرس الجاهلي الذي يتعايش جنبا إلى جنب مع القراءات الشعرية والمسرحيات والمدرجات والمقررات والمراجع، وهي بوابة لزيارة المعتقل كصك اعتراف فجائعي لا يترك خلفه إلا فراغا يطلب الكاتب من قارئه أن يملأه عبر قسيمة يشركه من خلالها في تشييد وإنتاج معنى للنص، بما أن القارئ هو المعنى أساسا بتجربة الكتابة والتلقي وتأسيس الوعي الأرسطي بلحظة «الكاتارسيس» في هذه الفرجة القصصية بمعناها السينمائي التي يستفيد منها القاص كثيرا. لقد استطاع شكيب (ومعه قصاصون تسعينيون آخرون) أن يحول القصة من الخارج إلى الداخل، ومن الواقع البراني إلى الواقع الجواني، ومن الذات إلى الموضوع، ومن الرؤية الماكروسكوبية ذات الولوع بالتفاصيل الكبرى، إلى رؤية ميكروسكوبية ذات الولوع بالتفاصيل الصغرى، ومن الحدث أحيانا إلى اللاحدث، ومن نمطية الشخصية إلى هلاميتها، ومن الفضاء الهندسي الموضب، إلى الفضاء اللاهندسي المبعثر، وهو ما يسميه الناقد « نجيب العوفي» بعروض التسعينية، وعلى امتداد قصص المجموعة يقبض القارئ على خيط سرد ينتظم في إحكام ليجد نفسه أمام مدرسة مغربية على مستوى اللغة والذائقة الفنية تمتح مادتها الخصبة من أعمال عمالقة السرد المغربي ك « محمد زفزاف» و «محمد شكري» و «أحمد بوزفور»، ينضاف شكيب الآتي من سكون مدينة هادئة ليناطح هؤلاء، كيف لا و» أزمور» التي يحتفي بها القاص في أكثر من عمل سواء داخل هذه المجموعة أو سابقتها كحضور رمزي للأمكنة (وللأمكنة دلالتها الرمزية، وسلطتها على الذات المبدعة) أنجبت أكثر من مبدع ومفكر وأديب وفنان وفي مقدمتهم « عبد الله العروي» و «عبد الكريم الأزهر» ، و» بوشعيب هبولي» و «نور الدين صدوق»، إضافة لأسماء أكاديمية يعرفها الدرس الجامعي المغربي، تشكل بحق عمق الأنتلجنسيا المغربية المعاصرة، وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالعودة إلى المدينة لرد بعض الجميل، ورفع شيء من الغبن الذي يعيشه واقعها، ولعلها التفاتة محمودة تلك التي قام بها شكيب بنشره لمبحث في موضوع تحت عنوان « أزمور وروح المجال» سنة 2005.