من مأثورات ليندهال، رئيس مجلس العموم البريطاني في خطاب للملك شارل الأول، حينما جاء إلى المجلس متعقبا خمسة نواب اتهموا بالخيانة سنة 1642 . «أملي أن يروق الأمر جلالتكم، ليس لدي من عيون أرى بها ولا من لسان أنطق به في هذا المكان غير ما أومر به من طرف هذا المجلس الذي أنا هنا في خدمته، والتمس بكل تواضع سماحة جلالتكم في القول أنه ليس لدي أي رد آخر غير هذا لما تفضلت جلالتكم بطلبه مني». لا أخفي أنني كلما هممت بالكتابة عن البرلمان وجدتني موزعا ومتأرجحا بين اختيارين: اختيار الكتابة عن ذلك الموقع الذي يسلكه عادة الباحثون في القانون الدستوري والعلوم السياسية والأنظمة المقارنة، حيث التركيز على الوظائف والأدوار والهندسات المؤسساتية الرامزة إلى علاقة السلط ببعضها، وبين اختيار الكتابة السوسيولوجية التي تقترب من السرد الروائي حيث التركيز على المعيش اليومي، معيش المؤسسة البرلمانية، وخاصة معيش البرلماني، وهو المحور الذي تدور حوله كل آليات اشتغال المؤسسة. واشعر أن هذا التأرجح بين الاختيارين، راجع، فيما يخصني، إلى سببين رئيسيين: السبب الأول، موضوعي، وهو أن حجم ما كتب وقيل وتم التداول بشأنه في السنوات الأخيرة، خلال عشرات الندوات و الموائد المستديرة والأيام الدراسية، بما فيها تلك التي احتضنها مقر البرلمان ( القاعة المغربية وغيرها من القاعات) ناهيك عن الأطروحات الجامعية التي انصبت على الموضوع، تتضمن أكثر مما هو كاف ومقنع علميا وسياسيا للإحاطة بحقيقة المؤسسة التشريعية المغربية، وضعها حالتها البنيوية، علاقاتها بالسلط الأخرى وتطوراتها في الزمان، وبالتالي فإنما يمكن أن أضيفه في هذا الخصوص سيكون بالضرورة محدودا في منطوقه ومداه بكل تأكيد. أما السبب الثاني فهو ذاتي: فلقد أمضيت في المؤسسة التشريعية عشر سنوات كاملة كنائب، وعلى امتداد ولايتين تشريعيتين كاملتين 1997-2002 و 2002-2007، تزامنت الأولى منهما مع تدشين التناوب التوافقي حيث سعت المؤسسة إلى إثبات جدارتها والتأسيس لنظام قول وخطاب جديدين في السياسة المغربية في زمن تميز بالفورة الجامحة وانطلاق أحلام سياسية تعبا الجميع وقتها لترجمتها في الواقع. وأحس فيها المغاربة كشعب وكنخب فاعلة بإمكانية تعليق جزء واسع من الآمال والإنتظارات على البرلمان. عشر سنوات خبرت فيها المؤسسة التشريعية لا كما ترى من طرف الدارسين والملاحظين وقراء النصوص وشراحها أو الجالسين يستمعون للخطب المبثوثة على أمواج الإذاعة والتلفزيون، ولكن كمعيش وكإحساس لا يمكن أن يتبدى لمن عول بالكامل على النظرة الخارجية مهما راجع واستوثق، معيش ولإحساس يتموقع بالضبط عند نقطة التقاطع بينما ينطق به صوت المؤسسة المسموع وما يكشفه البرلمانيون أو ينكشف لهم وينطقون به في خفوت حينما يتمثلون وظيفتهم بعد زوال الدهشة الأولى إثر الفوز بالمقعد وبداية الممارسة البرلمانية. تجربة العشر السنوات امدتني بقناعة أساسية تزداد رسوخا مع مرور الأيام، قناعة أننا حينما نتحدث عن البرلمان فإن الكشف عن المعيش الثاوي وراء الصوت المجلجل والمسموع للمؤسسة جدير بأن يحظى على الأقل بنفس الاهتمام التي تحظى به عملية الشرح على المتون: ذلك أن مجال المعيش، والذي لا يدخل في العادة ضمن شبكة التحليل الدستورية الموضوعية هو بالضبط المستوى الذي يقع فيه التساكن أو التصادم بين ثلاثة مستويات لا تسمح المقاربة الدستورية الموضوعية في التقاطها دفعة واحدة يتعلق الأمر لتصور النصوص لوظيفة البرلمان والبرلماني من جهة أولى، وتصور البرلماني لوظيفته عند المنطلق ثم تطور هذه الممارسة عند الاحتكاك بالواقع المؤسساتي من جهة ثانية ثم تصور المحيط المجتمعي (الرأي العام)، والإعلام لوظيفة البرلماني من جهة ثالثة. المستوى الأول: ككل برلمانات العالم تقول نصوصنا الدستورية أن البرلمان عندنا هو مصدر التشريع والمراقبة وان البرلمانيين هم ممثلو الأمة تترتب لهم بهذه الصفة مسؤوليات ومستوى نفاذ في القرار السياسي العام. برلماننا بالطبع لا تنطبق عليه تلك المقولة التي لا بد أن كل دارس للقانون الدستوري قد سمع بها بخصوص برلمان ويست منستر، حيث قيل في حق هذه المؤسسة إن البرلمان الانجليزي يستطيع أن يغير كل شيء إلا أن يجعل من الرجل امرأة أو من المرأة رجلا، هكذا رددها الأستاذ ميكو رحمه الله على مسامعنا ونحن طلاب في بداية السبعينات في إحدى مدرجات كلية الحقوق بالرباط في إشارة إلى ثقل مسؤوليات برلمان ويست منستر وضخامة صلاحياته. لا ينطبق علينا ذلك بالطبع و لكن النصوص تقول أن البرلمان هو مستودع القرار التشريعي ومراقبة الحاكمين وعين الشعب على الإداريين حسنا. المستوى الثاني: يلج النائب باب المؤسسة التشريعية مقتنعا بقدراته على ممارسة التشريع والمراقبة مسلحا بما تخوله صفة ممثل الأمة من قدرات وصلاحيات تبدأ الاجتماعات واللقاءات وسيل الأسئلة الشفوية والكتابية وركوب قطارات الدرجة الأولى ومجالسة الوزراء ومرافقة المسؤولين الإداريين في التدشينات وحضور بعض الأنشطة البروتوكولية وربما بعض السفريات إلى الخارج. تتقاطر على البرلماني وسائل التظلم والتشغيل وطلبات مساعدات وتشكيات من كل نوع أحيانا حول قضايا وملفات هي من صميم العمل الجماعي أو حتى دونه درجة. يأتي موسم القانون المالي عند البداية فيكتشف البرلماني ان وزارة المالية تكلفت بإكسيل الألواح والجداول وتركت المجال لنقاش عام للبرلمانيين في القاعة الكبرى، تضيق بعده القدرة على تغيير ما نطقت به الأرقام. يكتشف البرلماني رويدا رويدا محدودية ما قد يستطيع القيام به لتغيير سطوة المدراء الكبار. يكتشف بمناسبة التصويت على الميزانية وقع الفصل 51 ويبدأ في تغيير تصوره لما تنطق به منظومات المستوى الأول وأخطر ما يكتشفه في هذا السياق أن نظرة الإدارة العليا لوظيفته نظرة مطبوعة بالدونية لأنها تتبرم بالسليقة من كل ما يمت إلى الصفة التمثيلية بصلة، ثم يكتشف أن مصدر هذه النظرة لا ينحصر في رجالات الإدارة العليا في الرباط، بل يتقاسمها كذلك رجالات الإدارات الترابية في الأقاليم وهكذا يبدأ تدريجيا مسلسل السحب الذاتي للثقة من الذات البرلمانية ويبدأ مونولوغ خافت في مقصورات القطار بالتشكيك في كل ما علق في الوعي في البداية عن طبيعة الوظيفة وقدرات أصحابها ويصل الأمر بالبعض إلى ترديد ما يشبه بيت المعري: تعب كله البرلمان فما *** أعجب إلا من راغب في ازدياد المستوى الثالث: مستوى تمثل المحيط المجتمعي والإعلام لدور البرلماني. وبالطبع ففي هذا المستوى كما في المستويين السابقين، قد يلاحظ قارئ هذه السطور أنني لا أضع للفوارق بين العائلات السياسية حسابا، وكأن هذا المتغير التحليلي لا قيمة له، وأبادر إلى القول ردا على هذه الملاحظة المحتملة أنني أتحدث هنا عن المؤسسة في بنيتها الداخلية أو في حدودها البنيوية والتي لا تستطيع معها الشهامة السياسية شيئا قي الوضعية الراهنة. ماذا نجد في المستوى الثالث؟ لا أجد أحسن في الترميز على ما يتضمنه هذا المستوى من ثلاثة وقائع - ضمن مئات- مررت بها خلال العشر سنوات التي قضيتها في البرلمان لازالت محفورة في ذهني تنطق بدلالاتها الرمزية. الواقعة الأولى جرت بيني وبين سيدة من أقارب العائلة: لاحظت أنها تنطق كلمة برلماني بصيغة مختلفة حيث يأخذ النون مكان اللام واللام مكان النون فتصبح الكلمة «برنمالي» سألتها أن تعيد النطق بالكلمة ففعلت وحاولت أن أصحح لها لكنها تشبثت واعتبرتني امزح فلما استفسرتها مجددا وجدت أنها تنطق تلك الكلمة بعفوية وحسن النية اعتقادا منها أن الكلمة ترمز إلى رجل مال - برنمالي- ثم إذا بها تستوضح مني مستغربة: أليس الأمر كذلك يا بن عمتي ألا يسمونكم كذلك للتدليل على امتلاككم للأموال؟؟! الواقعة الثانية حصلت لي ذات يوم عندما ذهبت إلى مصبنة الملابس لأسترد جاكيتتي، فإذا بي أجد العامل المكلف قد وضعها جانبا وكتب عليها لتمييزها ( البرلماني)، استغربت لأن الرجل وهو من القدماء في المحل يعرفني بالاسم وبصفتي المهنية وكان يضع دائما على ملابسي صفة «الأستاذ» حاولت أن اعرف منه لماذا غير لي الصفة فأجابني بكل تلقائية «سمعت من بعض أبناء الحي أنكم غيرتم المهنة وان مهنتكم الجديدة أصبحت برلماني أليس كذلك؟ وفهت على التو أن البرلماني قد أضحت في المخيال الجماعي مهنة وليست وظيفة سياسية. الواقعة الثالثة لها صلة بالفهم العام للحصانة البرلمانية: دخل علي ابني ذات يوم وهو يكتم ضحكات لم أفهم معناها إلا حينما بدأ يحكي لي عن احد أصدقائه في الدراسة الذي خاطبه قائلا هنيئا لكم بما تسمح به الصفة البرلمانية فلما استفسره عن سبب التهنئة أجابه لقد سمعت أن للبرلمانيين حصانة تمكنهم من تجاوز القانون والإفلات من المحاسبة والعقاب. وكانت دهشتي كبيرة من هذا الفهم العام والمتقاسم على نطاق واسع، وكانت الحكاية قريبة من واقعة أخرى جرت لي عندما زارني أحد الجيران يطلب مني التدخل لحل مشكلة تواجهه وحينما دققت في الأمر وجدت انه يطلب تجاوز القانون وحينما فسرت له أن هذا الأمر غير قانوني بادرني بالقول «أنا قصدتك بالذات لعلمي أنكم تتمتعون بهذه القدرة على تجاوز القانون. أنت تفاجئني إذن بادعائك عدم قدرتك على تجاوز القانون». بين المستويين الأول والثاني، مستوى النصوص وفهم البرلماني لدوره عند المنطلق يعيش البرلماني في الشروط الموضوعية لمؤسستنا التشريعية وضعا سياسيا ونفسيا خاصا واستثنائيا، بل ونوعا من الانفصام الحاد، انفصام بين ما تنطق به النصوص من أوضاع وتصنعه من مقامات وما يفرضه الواقع من حدود. هل من حلول لفك عقد هذا الانفصام؟ ونصل هنا الى الجانب الموضوعي: ما العمل لتقوية دور المؤسسة التشريعية؟ وأعطي هنا للتقوية empowerment مدلولا سياسيا وليس تقنيا كما في توصيات بعض المنظمات الدولية. ونعرج بكل تأكيد في الطريق ونحن نتحدث عن التقوية عن الإشكال الأساسي المتعلق بالإصلاح الدستوري. والحق أنني كما قلت في بداية هذا المقال الذي أردته اقرب إلى السرد الروائي على طريقة توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف منه إلى التحليل الدستوري مترابط الأركان ، الحق أن تجربتي المتواضعة ومن موقعي ضمن من يعتقدون بأن ليس كل واقعي عقلاني. صرت اليوم شديد الاقتناع بأن ربح رهان الإصلاح الدستوري لا يمكن أن يتم بمعزل عن ربح رهان تغيير جذري في بنية وطبيعة النخبة البرلمانية، وإلا فهو الدوران في الفراغ. وأخطر الفراغ أن نجد أنفسنا يوما ? وقد يكون ذلك منذ الاستحقاقات القادمة إذا لم تتغير الموازين في وضع لا تستشعر فيه النخبة المغربية التي لازالت تؤمن بالعمل السياسي النبيل الذي تتوسطه مؤسسات تمثيلية حقيقية، أية جاذبية تجذبها نحو العمل في المؤسسة البرلمانية، بكل التداعيات المدمرة لذلك على مجمل المسار السياسي للبلاد.