يشكل كتاب الصحافية الهولندية يوديت نيورينك «الشهداء الضالون» (دار الجمل) صورة صادمة للقارئ، لتباينها الجذري بل الانقلابي، عما وفر في ذهنه من انطباع عن حركة مجاهدي خلق الثورية الإيرانية، وكيفية انزلاقها إلى طائفة أو نِحلة منغلقة، تماثل، في الموروث الفارسي الإسلامي نفسه، طائفة الحشاشين، بمآربها وآليات عملها. وتقترب في إطارها الضيق من الطوائف الدينية في أميركا والغرب. بل إنّ الكاتبة تستوحي مِن روايات مَنْ استنقذ نفسه من قبضة المنظمة فضاءً مطابقاً لفضاءات هذه الملل والنحل الحديثة، كما تتجلى في كتابات علماء النفس والاجتماع، وعلى رأسهم المختص جان - ماري ابغرال Jean Marie Abgrall. وما يميّز هذه الطائفة عن سواها، أنها تعظّم الفكر التضحوي، إلى درجة دفعت الفتاة ندى حسني، الى ان تضرم النار في نفسها في يونيو2003 احتجاجاً على توقيف مريم رجوي من قِبل الشرطة الفرنسية. ولأنّ الفكرة التضحوية تفضي إلى بذل الدم، والاستشهاد في سبيل العقيدة، فإنها باتت الرائز الأساس لمعرفة مدى الجدية والإخلاص للمنظمة المذكورة وزعمائها، بل لزعيميها مسعود ومريم رجوي. والحال انه كلما ازدادت جثث الشهداء، ازداد مؤشر الولاء والتبعية. تصبو الكاتبة نيورينك إلى إقناع القارئ بأّنّ هذه المنظمة التي ما فتئت حتى اليوم محاطة بالأتباع والمتعاطفين معها، وإن تضاءل عددهم، قد تدهورت مكانتها، وساءت ظروفها وأحوالها، إلى ان اصبحت مجتمعاً ضيقاً يعيش خلف أسوار الوهم والعزلة. بيد أنّ الكاتبة اقتصرت على شهادات من تخلى عن المنظمة، ومن ناصبها العداء، أو من مزج بين ما رصده وعاناه واستشعر به، وما تخيّله او اختلط في ذهنه واستشبه به. وكان حرياً بها أن توازن بين كفة المجموعة الباقية التي لا تزال عاملة في صفوف المنظمة، والمجموعة التي خرجت عليها وناوأتها، حتى يكتمل طرفا الصورة، ويجلو القارئ خيطها الأسود من خيطها الأبيض. لكن القارئ لا يحتاج إلى كثير من الأدلة أو القرائن ليتبين أنّ الكاتبة تستعدي المنظمة. وهي إذ تجمع المعلومات والوثائق والشهادات من أفواه المتكلمين، أو من صفحات الكتب والمذكرات الشخصية، فلأجل محاكمة رجوي وقيادته، بل وإدانته. وهي تجاهر بأن في الغرب من شهود عيان، وضحايا سجون مسعود رجوي، ما يكفي لمواجهته بتهم شاملة. سر الانجذاب ومع أنّ مسعود خدابنده هو الراوي الأساسي الذي يُخبر الكاتبة بكل ما يتعلق بتاريخ مجاهدي خلق، وآليات عملها الميداني والعقائدي والدعائي، فإنها لا تدقق كثيراً في معلوماته، وإن ساورها أحياناً بعض الارتياب من الأرقام والأعداد التي يذكرها. والكتابة الموضوعية كانت تفترض مزيداً من الحذر والتمحيص، عند مؤلفة ترمي إلى بناء صورة شاملة وحقيقية عن المنظمة، لا سيما ان خدابنده وزملاءه قطعوا كل صلة لهم بمجاهدي خلق، وهم يؤلبون الرأي العام الغربي عليهم، ويفضحون مآربهم وأساليبهم وطرائقهم، والحطّ من شأنهم . ولا بد في هذه الحال، من أن تأخذ الكاتبة هذه النيات بالاعتبار، لأنها تلعب دوراً أساسياً في تكوين الصورة المرتجاة. وإزاء الصورة السلبية لمنظمة مجاهدي خلق، كما يرسمها الكتاب، يُباغت المرء من سر انجذاب الشباب الإيراني إلى هذه المنظمة، رغم كل العثرات والعوائق والموانع. ومردّ ذلك، عوامل كثيرة، لعل على رأسها، الطريقة العنيفة الدموية التي صفى بها حكم الملالي هذا الفصيل المشارك في الثورة الإيرانية، حيث بلغت أعداد الذين زُجوا في السجون، أو علقوا على أعواد المشانق عشرات الآلاف. وقد طاولت يد البطش عائلات بأكملها، وشكّلت حالذاك أرضية خصبة للانتقام من السلطة التي قتلت الأقارب والأحباء والأصحاب. ورغم أن العديد من «المجاهدين» تركوا المنظمة لأسباب كثيرة، فإنّ دافع الانتقام من الحكام ما زال حياً وماثلاً في أذهانهم، ومستمر الصلاحية حتى اليوم، لكن الخطأ نجم عن سلوك المنظمة التي خانت هذه الدماء، على ما تقول فرح كريمي. إذاً، تؤسس يوديت نيورينك كتابها على أقوال الذين انقلبوا على أعقابهم، والذين يراجعون ماضيهم، وينتقدون تجاربهم وأخطاءهم، ويقومون أمام الكاتبة بفعل الندم والتوبة. وهذه طريقة هي في الأصل جزء من حياة المسيحيين الدينية، وتؤول إلى تطهير النفس من الذنوب. لكنهم اكتسبوها كإحدى آليات الاعتراف المفروضة عليهم في منظمتهم السابقة، على ما يزعمون. وإذا ما أخذنا بأقوال الرواة دون تحقيق او تمحيص، مثل مسعود خدابنده المسؤول الأمني ومساعد رجوي، وفرح كريمي البرلمانية الهولندية و»المجاهدة « السابقة، وعلي رضا ميراسكري وياسرعزتي ومرجان مالك ومحمد حسين سبحاني وحبيب خرمي ومسعود بني صدر وسواهم، لوقفنا على أعتاب نِحلة مغلقة تماماً ذات شكل هرمي، على رأسه مسعود رجوي القائد والقطب السياسي، الذي تحوّل إلى قطب روحي (رهبر بالفارسية) أو «GOUROU» المبجّل والمعلم الروحي في الديانات البرهمانية، وهو الذي يقود مريديه إلى طريق الاستنارة، والذي ينتسب الى جوهر إلهي يضعه فوق الجميع. ولأن البنية الهندسية لهذه الطائفة بنية هرمية، فإنّ الأوامر لا بد من أن تتحرك من فوق إلى تحت. من القائد إلى أتباعه. ويغدو هو الأب البديل، وتغدو زوجته الأم البديلة. ويقول خدابنده إنّ رجوي نصّب نفسه زعيماً روحياً يتوسّط بين أتباعه وبين الله. فلم يعد الاتصال بالله مستحيلاً فحسب، بل صار محرماً، ولا يجوز إلاّ من خلاله. وعليه فإن كل ما يقول الزعيم عنه انه جيد فهو جيد، اما التمييز بين الخير والشر فيعتمد على ما يوافق الزعيم، لا على الفهم او التحليل العقلي والأخلاقي. وما يربط الرعايا بقائدهم، ليس موقفه السياسي، بل أواصر العاطفة والوجدان والإخلاص الروحي. نقاط مشتركة ينبغي التوقف ها هنا، للتنويه بنقاط جامعة ومشتركة، لم تعرها الكاتبة اهتماماً كافياً، وهي المنكبّة على الروايات الداعمة لنقاط الارتكاز التي تقوم عليها سياسة الكتاب، أكثر من التحليل والمقارنة بين خط رجوي الفكري، وخط حكم الملالي. فبين الخطين تقاطع أو تنازع على المفاهيم الشيعية. فرجوي رغم أنه يُنكر ولاية الفقيه المطلقة التي يعتنقها حكام إيران، لا سيما الإمام الخميني، فإنه يتبناها بشكل أو آخر لنفسه، فيُرغم مريديه على الطاعة المطلقة لما يحسبه في صالح الجماعة، كما كان يفعل الإمام الخميني. والخليط الماركسي الإسلامي الذي يعتنقه رجوي، ما لبث أن اضمحل ليُستبدل بعقيدة جديدة، تحوّل فيها مسعود رجوي إلى زعيم روحي، ومنظمته من حركة سياسية إلى طائفة دينية، بوأته علاوة على قيادته السياسية، مرتبة الزعيم الديني المطلق الصلاحيات، بعد أن كانت هذه العقيدة التلفيقية، والخلطة الماركسية الإسلامية العجيبة، أقرب إلى أن تكون بمثابة نسخة باهتة عن اللاهوت التحرري، كما ظهر على أيدي كهنة كاثوليك متمردين في أميركا اللاتينية. ومجاهدو خلق، كما ملالي إيران، يتنازعون الأرضية الإيرانية الفكرية ذاتها، والرموز الدينية الشيعية الرائجة، لا سيما معركة كربلاء؛ المعركة الأكثر وجدانية في ضمير الشيعة أينما كانوا، التي تقوم على تقديس الشهادة، وهو أمر سعى إليه الطرفان، ورفعا فكرة الاستشهاد علماً ومثالاً على محاربة الظلم؛ الظلم الذي يراه كل منهما من وجهة نظره. كذلك يتقاطعان في تبني النزعة المهدوية التي تبشر بتحطيم العروش والدول والطواغيت، والتبشير بأن ساعة النهاية أزفت، وأن المؤمنين يقفون على أبواب النصر المشرّعة أمامهم، وأنّ النظام المعادي هو دائماً على وشك السقوط. وفي هذا المقام، تروي فرح كريمي عن زميلة لها في المنظمة، أنها حملت أدوات الزينة معها، إبان معركة «الضوء الأبدي» التي شنّها مجاهدو خلق ضد الأراضي الإيرانية بعد حرب الخليج، لتتزين عند دخولها الاحتفالي الموعود إلى طهران. وتماثل حياة المنضوين تحت لواء مجاهدي خلق، حياة متطوعي الباسيج الإيراني، فإذا كان الأوائل تخلّوا عن عوائلهم ليتبنوا عائلات بديلة مؤلفة من رفاق السلاح، فإنّ الباسيج كانوا يتمردون على عوائلهم المتمنّعين عن التحاقهم بالجبهة، وينسلخون عن آبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم وأخوانهم، لتلبية اوامر القيادة الدينية، عبر العلاقة الاستثنائية بالموت، الذي يرى فيه مريض الشهادة، بحسب عبارة خسرو خافار، معنى وجوده الوحيد. وإطار الباسيج يشبه طائفة منغلقة تقوم على عزل أفرادها الطامحين إلى الشهادة، لإعادة إنتاج مقولة: إن الموت آخر مرحلة من مراحل التطهّر الروحي (ص 140 من «شهداء الله الجدد» لخسرو خافار). ولا تختلف آليات التجنيد والسيطرة في المنظمة، عما يُمارس عادة في النحل الموصدة. واذا ما أخذنا بصحة ما روى «المجاهدون» القدامى، وبالإحالة على دراسات Abgrall وغيره من الباحثين، فإنّ أهم ما يمكن أن تنسجه هذه الملل المغلقة هو نظام الهيمنة النفسية على الأتباع، من خلال الادعاء أنّ هذه الطائفة من دون سواها، تستحوذ على الحقيقة المطلقة، وعلى أنّ العالم الداخلي، هو العالم النوراني المطهّر من أرجاس العالم، وهو الملاذ الذي يدرأ الجماعة الصفوة من غائلة الشرور والعداوة التي يمثّلها العالم الخارجي الموبوء، ومن خلال إعادة شحن اللغة بمفاهيم جديدة تعظّم من أمر الجماعة، وتحقر المعادين لها، وتتحول إلى نوع من اللغة المشفرة التي تساعد على التعارف بين أعضاء الجماعة خارج دائرتهم المغلقة، ومن خلال تحريم العلاقة الجنسية بين الزوجين، وفرض الطلاق أحياناً، وفصل الرجال عن النساء، والعائلات عن الأطفال. وباستخدام الجنس كوسيلة ضغط وابتزاز، يغدو السماح به مكرمة من مكارم القيادة، لدرجة تجعل حبيب خرمي يشعر بالحرج إزاء زوجته، كلما التقاها، إذ ينتابه إحساس بأنه يلتقي مومسا رخيصة. وهذا المنع أفضى أحياناً إلى ممارسات شاذة، في حين أفشى خدابنده، بسرالعلاقة الجنسية التي قامت بين مسعود رجوي ومريم قبل زواجهما. وأهم ما تتركه هذه المجتمعات المغلقة على نفوس مريديها وعقولهم، أنها تسلبهم حريتهم الشخصية، وقدرتهم على الاختيار والمبادرة، وتضعف تواصلهم مع الآخرين، أو الوثوق بهم. بمثل هذا التصور لعمل الجماعات المغلقة، والإضاءة على كيفية عملها وتأثيرها على الأتباع، فإننا ندنو من حقيقة الكثير من الجماعات الإسلامية الأصولية والمتطرفة الصغيرة والكبيرة، وربما جعلتنا نفهم بعض آليات العمل حتى في داخل الأحزاب العقائدية.