هذا الكتاب ولد عن فيلم يرصد نصف قرن من مسار سياسي وشخصي لصاحبه، الكتاب هو نقل كامل لعشرات الساعات من الحوارات التي تم تكثيفها حتى تستجيب لإكراهات وقت البت التلفزي، لكنه يحتفظ بتلقائية وأمانة الحوار الأصلي، ولو أنه خضع لإعادة كتابته حتى ينتقل من الحوار الشفهي إلى الشكل المكتوب، وبالتالي فهو أكثر ثراء ودقة في الوصف وأكثر عمقا في تحليلاته من صيغة الفيلم (الذي ثبته قناة فرانس2 في يناير 2010 في حلقتين من 90 دقيقة). الكتاب ليس مذكرات لصاحبه، ولكنه سرد لحياة وبالأخص حياة سياسية، لشخصية نمت في قلب التاريخ الحديث للاشتراكيين ولليسار في فرنسا. نكتشف فيه ليونيل جوسبان الشاب المولع بالرياضة والكتب والسينما، ثم المنخرط في أحداث عصره ومعانقة المثل الثورية ثم الدبلوماسي والأستاذ... ثم إلى جانب فرانسوا ميتران ومع الاشتراكيين وكيف تعلم ممارسة السياسة بهدف تحقيق التقدم والعدالة وعبر الوصول إلى السلطة بالسبل الديمقراطية. ثم كاتبا أول للحزب الاشتراكي، فوزيرا للتربية، ثم مرشحا للرئاسة سنة 95 وكيف استطاع إعادة الحزب الاشتراكي إلى الواجهة بعد 97 وحكم كوزير أول لمدة 5 سنوات وكيف تقاسم انكسارات وانتصارات الاشتراكيين في فرنسا. لقد فاجأتني القطيعة الأولى (قطيعة يناير 1975) بعد ذلك كنا منذرين وكنا مهيئين لذلك. الحزب الشيوعي وبواقعية، إن لم أقل بانتهازية، اقترب منا سنة 1977 بمناسبة الانتخابات البلدية. وأعتقد باقتناع أن ما جرى في مؤتمر ميتز كان حاسماً بالنسبة لمستقبل اليسار، وبالأساس بالنسبة لانتخابات الرئاسة لسنة 1981. فلو فاز تحالف موروا وروكار في هذا المؤتمر، لم نكن بالتأكيد لنفوز في رئاسيات 1981. فالحزب الاشتراكي كان سيفقد هويته، وكانت استراتيجيته ستبدو متناقضة وزعامته أسقطت. وسيكون قد دخل أزمة سيصل بها الى الانتخابات الرئاسية مهزوماً. بعد 1975 أتيحت لي مناسبة ربط علاقات وثيقة مع فرانسوا ميتران عندما كنت كاتبا مكلفا بالعالم الثالث والعلاقات بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي. ومع مؤتمر ميتز أصبحت الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي مكان بيير موروا ككاتب وطني مكلف بالتنسيق وروبير بونتيون ككاتب مكلف بالعلاقات الدولية. طيلة سنتين، كنت أرافق فرانسوا ميتران في العديد من أسفاره إلى أمريكا اللاتينية، افريقيا، اسرائيل، أوربا، في بلدان الشرق، سواء للمشاركة في اجتماعات الأممية الاشتراكية أو في إطار دبلوماسية الحزب الاشتراكي. كنت أتنقل كثيراً داخل فرنسا في إطار مهام حزبية وخارج فرنسا عندما أرافق ميتران في زياراته للخارج. وعندما لا نكون نقرأ في الطائرة لأنه كان كثير القراءة وأنا أيضاً كنا نتحدث في السياسة في حياة الحزب الاشتراكي وأيضا في مواضيع لم يسبق أن أتيحت لي فرصة إثارتها معه مثل الأدب وأشياء من الحياة، الموت المقاومة... في هذه الفترة لم نتحدث عن مرحلة نظام فيشي. أتذكر جملة قالها ونحن عائدان من السينغال، كنا بالطائرة فوق اسبانيا في نونبر 1975، حيث كان فرانكو يحتضر. تحدثنا عن الفاشية، عن الحرب، ثم فجأة أكد قائلا: «هل تعرف، الحرب العالمية الثالثة ستقع لامحالة». لا أعرف لماذا قال ذلك، ولا إلى أي حد كان فعلا يفكر في ذلك. كانت تلك الفترة مرحلة توتر شديد بين الشرق والغرب ولكنني فوجئت بهذا التشاؤم. فإذا كانت مقارباتنا السياسية متطابقة، فإن نظرتنا للحياة كانت مختلفة. لم نتعارض فيما بيننا حتى تلك الفترة، وسياسيا لم نتعارض أبداً. ومع ذلك، في أحد الأيام وقعت بيني وبينه نوع من المواجهة البسيكولوجية، كنا في ندوة موسعة لقيادة الحزب جمعت حوالي 50 فرداً. كنت مكلفا بإعداد تقرير، وكنت على وشك إتمام تلاوته، عندما قاطعني فرانسوا ميتران بنبرة ملل واضحة، قائلا: «جوسبان، أعتقد أنه عليك تقديم الخلاصة»، كان لبقاً في علاقاته مع الآخرين، ولكنه كان في بعض الأحيان يحس بالملل ويستعجل الأمور، ويأخذ ذلك في بعض المرات طابع التسلط.... كان ردي عليه: «السيد الكاتب الأول، لو تركتموني أنهي كلامي، ستكتشفون أنني وصلت خلاصتي». بعدها وقع صمت تام، لأنه كان من النادر الرد عليه بهذه الطريقة. واصل ميتران الكلام معبراً هذه المرة بكلمات لبقة تجاهي. وأعتقد أنه فهم من هذا الصدام البسيط، بأنني كنت شخصية مستقلة، وأنه من الأفضل إقناعي بدلا من مفاجأتي. وأنا طيلة هذه الفترة إلى جانبه، تعلمت أشياء كثيرة... مثلا في العلاقات الدولية، لاحظت دقته التي تصل حد التفاصيل وحرصه على الكلمات. عندما ننهي لقاء مع محاورين أجانب ببيان ختامي مشترك، لاحظت الدقة التي كان يراجع بها مضمون البيان ونصحح ويشطب ويعيد الكتابة. كان يبدي، بالنسبة لزعيم مثله في المعارضة، حرصا فكريا واضحا وشرطا كرجل دولة، كنت معجباً بموهبته واحترافيته العالية. كان مقتنعاً أنه لا يمكن الوصول إلى السلطة مع إبداء مواقف لامسؤولة في المعارضة... في سنة 1975، كنت ضمن الوفد الذي رافق ميتران في زيارته لموسكو، كانت هذه أول مرة أزور فيها موسكو، وتباحث الوفد مع قادة الحزب الشيوعي السوفياتي طيلة 3 أيام. استقبل ليونيد بريجنيف ميتران وتباحثنا معمقاً مع ميخائيل سوسلوف أهم منظري الحزب آنذاك، بوريس بونوماريف وآخرين. كان ذلك بالنسبة لي مناسبة لتأكيد أمرين أولها شخصي: ليونة ودبلوماسية فرانسوا ميتران وأيضاً صلابته كمسؤول سياسي لا يتنازل أمام التهديد. والثانية أكثر عمومية وتاريخية، الملاحظة المباشرة بجمود النظام السوفياتي. هذه البرودة تظهر جسدياً في قمة هرم الدولة. وإذا كنا لا نستطيع لمس هذه البرودة على مستوى المجتمع الذي بقينا بعيدين عنه، كنا نعرف أن العلاقات الاجتماعية كانت أيضاً متصلبة، جامدة بفعل الدكتاتورية. كنا نلمس أن قادة التنظيمات الجماهيرية التي كنا نلتقيهم كانوا يرأسون هياكل فارغة أو بنيات للاستقطاب الإجباري بدون حياة. كنا هناك لدواعي دبلوماسية سياسية. وإذا كانت المفردات التي نستعملها الطبقة العاملة، الرأسمالية، السلم... هي نفسها، فلم يكن هناك أدنى تعاطف بيننا وبين هؤلاء. كانت زيارة الساحة الحمراء، وقبر لينين ووضع إكليل الزهور على نصب الموتى والبولشوي... بالنسبة لي التاريخ لكن دون عواطف، اللهم بعض اللحظات في مكتب وإقامة لينين في الكرملين، لأنك تحس في هذه الأماكن التي تحولت الى متحف بالنبض القديم للثورة البعيدة..