في الليلة الأخيرة لي بالقاهرة ، عدتُ متأخرا إلى غرفتي بفندق البيراميزا ، وعاد إليَّ شيطان النثر، وهو غير سلطان الشعر الرشيق. فصاحبي جاءني محملا بخاطر متخيل تعج به عدد من الحقائق ،ملأني بالكتب والوثائق... وذكَّرني بالنص النائم الذي يستفيق بداخلي كلما هاجرتُ وطني. فقلت له بأن نصوصا نائمة كثيرة تزدحم في نفسي التي لا ألومها على شيء في كل هذا، سواء هنا أو هناك . أخرجتُ أوراقي القديمة، وقرأتُ ما كنتُ كتبته في رحلتيَّ السابقتين إلى القاهرة والشام، ثم رميتُ القلم وتمددتُ في الفراش متفكرا في ما جرى لاحقا.وسرعان ما نسيتُ الأمر ونمت تاركا شيطان النثر واقفا دون أن يلوي على شيء من خيالي.. في الغد ، يوم عودتي إلى المغرب، وبعد زيارتي المبكرة لشارع المعز لدين الله ، عدتُ إلى غرفتي واستحممتُ ثم نزلتُ لتناول فطور الصباح مع أصدقائي دون أن أخبرهم برحلتي «العجيبة « إلى القاهرة القديمة ، وقد انتابني شعور مزدوج ، خبأته بداخلي .. لم يعد أمام الفجر من خيار، أو من حقيقة أخرى، غير الاختباء في نفسي ، فكل ما رأيته ما زال جاثما على خيالي وقد طوح بي بعيدا في التاريخ ، حيث صوتي لم يعد صوتي، بل شريانا من دمي، أكلم به نفسي فيخدش صمتي لتطلع منه أبخرة حارة، لو قشرتها لوجدت دمي الضائع مند قرون.هكذا رأيتُ الأشياء وعشتها في هذا الفجر . قررتُ رفقة أصدقائي استثمار السويعات المتبقية لنا في جولة أخيرة على الأقدام بوسط البلد ، فعبرنا كوبري الجزيرة صامتين ،لم نكن نتكلم كثيرا في ما بيننا ..فكل واحد منا يتأمل لحسابه الخاص ويختزن الصور الأخيرة لنا في هذه الرحلة الممتعة . أحسستُ أن أنفاسي وهي تُخالطُ رائحة ماء النيل النفاذة في ذلك الصباح الباكر مثل نهر ممتد تطلع منه أبخرة ندية ضاجة بروائح روحانية..تستولد بدواخلي أحاسيس بائدة ومتوغلة في مناطق قصية من وجداني.أحاسيس تتراءى لي بأني كنت في هذه الأرض قبل مئات القرون ولما تزال آثارها المتجددة.. بنفس الدهشة التي كانت تتلبس سيدنا يوسف وكل الأنبياء الذين مروا من هناك . مشينا لساعة تحت نفس الشموس التي تشرق على الأحلام الممددة غربا إلى حيث تتبلل بما فاض من ذهولي..بدأنا نحس بشراسة الشمس فوق رؤوسنا فدخلنا إحدى المقاهي الشعبية جالسين لفترة نتحدث ونضحك ونحن نحتسي الشاي.
تواصلت جولتنا إلى غاية الواحدة ظهرا ثم ركبنا التاكسي عائدين إلى الفندق بعدما أخذ منا التعب مأخذا. وهناك تناولنا وجبة الغذاء وأسرعنا لجمع حوائجنا في انتظار التوجه إلى المطار مع الأخذ بعين الاعتبار زحمة الطريق والمطار. كل واحد منا - ونحن في طريق العودة - يشعر بأننا قضينا سنوات طويلة بالقاهرة وليس أسبوعا واحدا ...ولو قيض لكل واحد منا أن يكتب رحلته هذه لشكلت نصوصا تعكس الرؤية الثقافية ، بخصوصياتها، هذا فضلا عما يوحي به السفر من رغبة في الكتابة والتخييل الموازي .