كما لو أننا في «سيرك روماني»، مدرجاته تحيط بحلبة مصارعة، «يبدو» فيها السيد كريم غلاب وزير التجهيز والنقل بمفرده يواجه «جمهرة» من نقابات و جمعيات مهنيي النقل، تسعى لعزله، لانتزاع مدونة السير منه وإتلافها بإحراقها ( بإضراب و تظاهرات يوم 20 شتنبر المقبل، المعلنة منهم ).... وصفير الجهور على الجنبات وضجيجه لا يتبين منه مناصرة لا للوزير ولا للجمهرة... كما لو أن الجمهور ينتظر أن يرى لمن آلت الغلبة ليصفق له ويواليه. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل السيد كريم غلاب هو المعني الوحيد وحتى الأول بتطبيق مدونة السير الجديدة؟ هل هي مدونة للسير في ضيعات السيد غلاب ( ولو أني لا أعرف أن له حتى ضيعة )، أم مدونة للسير في طرقات المغرب، ما بين المدن والقرى وداخلها. «جمهرة» تلك النقابات والجمعيات تهدد بإضراب عام طويل لوقف تنفيذ مدونة السير الجديدة، فقط لأنها معترضة عليها، حتى بعد أن أقرها البرلمان بغرفتيه، وأعدت في مطبخ مفاوضات طويلة وعلى موقد هادئ النيران. بعد أن سحبت من الفرن الساخن بالاحتجاجات و الإضرابات. ليس للمغرب قدرة على اختراع صيغة أخرى، غير هذه المعمول بها في أرقى الديمقراطيات. صيغة أن مشروع القانون تستشار في شأنه الجهات المعنية، أحزاب أو نقابات أو جمعيات، ثم يعرض على البرلمان وتقول فيه أغلبية ممثلي الشعب، كما الأقلية المعارضة لها، ما ينبغي أن يقال. ليصادق عليه، ثم يدخل حيز التنفيذ، باعتباره قانونا يخضع له من كان يسانده ومن كان يعارضه. و بديهي أن أي قانون ، قابل للتعديل ، بمساطر قانونية وديمقراطية ، معلومة و متعارف عليها، إذا ما أفرزت الممارسة به ، ما يستدعي التقويم أو التعديل من مقتضياته. مدونة السير، اليوم، شأن وطني. هي قانون عام، المعني بتتبع أو مراقبة تطبيقه هو القضاء و أجهزة مراقبة السير على الطرق، وضمنها بعض مصالح وزارة النقل... وفي المستوى العام، قوى وفعاليات التقدم والحداثة والتنوير، في الدولة وفي المجتمع، معنية بالحرص على سريان تأطير المدونة الجديدة لحسن استعمال الطريق والسير عليها بمحددات قانوينة. المسألة من صميم الشأن العام، و من الأهمية والحساسية، بحيث لا يجوز أن يترك السيد كريم غلاب وحده، معزولا و أعزلا، في مواجهة عصيان لا يبرره منطق معقول، ومن خارج الآليات الديمقراطية المتعارف عليها. المدونة أنتجتها مسطرة ديمقراطية مخلوطة بكمّ فاق المطلوب، من التفاهمات ومن توابل توافق، اتضح أن هناك من لم يستطعمها. الأمر ، اليوم، أبعد من الدفاع عن مدونة قانونية، إنه أمر الحرص على ترسيخ الاحتكام إلى المساطر والآليات الديمقراطية واحترام مؤسساتها، من البرلمان إلى الحكومة المتفرعة عنه. وإلا أي معنى سيكون لمسعانا في ترسيخ دولة الحق والقانون. نعم للمعارضة، ولكن بالمساطر والآليات الديمقراطية والقانونية، و في سياقات وأوان و داخل محافل وأروقة صوغ وإقرار القرارات والقوانين. بالقدر نفسه من قوة الحق، مرفوض قانويا، غير مقبول سياسيا و ممجوج أخلاقيا التوسل بالعصيان والتمرد لفرض»تناغم» قانون ما مع «مزاج» فئوي ومصلحي مضاد للقانون العام، ومرتاح في ممارسات تغيب القانون وراء ضباب التغاضي و «مرونة التفاهم». قبل ذلك وبعده، مدونة السير الجديدة هي من تفرعات المد الإصلاحي العام الذي يسري في البلاد، وهي أيضا، من روافده. يكفي أن المدونة أحيت الوعي، وقبله الشعور، بأهمية القانون وإلزامية الخضوع له. و قد أسهم في ذلك، بعض آليات المراقبة الأوتوماتيكية، التي ستصاحبها، و هي عمياء عن كل مراوغة أو تغاضي أو محسوبية. مشروعنا الإصلاحي العام يستدعي، من مبتداه إلى منتهاه، التربية على ممارسة المواطنة باعتبارها منظومة مبادئ وقوانين، تنظم وتعقلن ممارسة الحياة الإجتماعية بمحددات مصلحة الفرد وسلامته ضمن مصلحة وسلامة الجماعة أو المجتمع. من تلك الزاوية، أضع مدونة السير في خانة المبادرات أو الإجراءات الإصلاحية الهامة، تلك المنجزة أو تلك التي هي قيد الإنجاز... من نوع إصلاح التعليم، والصحة العمومية والقضاء والسياسات البيئية، وسوى ذلك من الإصلاحات التي هدفها سلامة، مصالح وتفتح الجوهر الإنساني في المواطن. مدونة السير، هدفها الإسهام بالتأطير القانوني (بالعمق التربوي) في مواجهة نزيف حرب الطرق الممارسة في البلاد . حرب تراكم فينا مآسي إنسانية وتبعات اجتماعية وخسارات اقتصادية. حرب أكثر مسبباتها التعامل مع «المركبة» بغير بعدها النفعي، والاستكانة لثقافة قدرية، إضافة (و بسبب) الجهل والاستهانة بالقانون. التمرد على مدونة السير لا طعم له ولا لون. لا هو من منطلق يميني ولا من منطلق يساري، ولا حتى فيه دفاع عن مصلحة حقيقية «للمتمردين». مصلحتهم الحقيقية، وهم في الطرق يوميا و معاشهم منها، فرض احترام الانسياب الآمن و المنظم لسير المركبات على الطرق. عطفا على ما سبق، بلغة ية الحكومة وأحزابها (أصلا بمنطق التضامن) ومسؤولية قوى المجتمع المدني ونخبته المثقفة المتطلعة لترسيخ دولة الحق والقانون والمجتمع الحداثي... ولا يجوز أن نستقيل عن هذه المواجهة، ونتفرج من مدرجات «السيرك الروماني» على السيد كريم غلاب و»الجمهرة» تحاول عزله للانفراد به وهي تتوثب لنهشه معنويا. التقدم المنشود للمغرب، كل يحوي تفاصيل. أو قل، تفاصيل مجموعها أو تجميعها أو تكاملها هو ما يحقق التقدم. والتفصيل هنا، ليس قليلا... كل تفصيل أو جزء، هو كل كامل الكلية والأهمية في فسيفساء التقدم. كل مجالات النشاط الإنساني في مجتمعنا، تتغذى من بعضها البعض وتتضامن في النهوض كلها أو السقوط جميعها، في التقدم أو في التأخر ككل واحد وسمفونية واحدة. وفقط على سبيل التوضيح، إصلاح السير على الطرقات، عبر إقرار مدونة السير الجديدة، ذلك الإصلاح، حتى وهو يبدو انشغالا تقنيا، ينفر الواحد منا بروائح البنزين وزيوت المحركات التي تتصاعد منه، هو إصلاح شديد الاتصال بإصلاحات شتى...كل الإصلاحات التي دخلنا غمارها، مجاورة ومزاملة له...لأنها ، في معانيها العميقة، نوع من إصلاح قوانين «السير»... في التاريخ، في المجتمع ، في العمران، في الشأن العام...»سير» المواطن في الوطن، وتعبيد طريقه إلى المستقبل.