تنتمي إلى الجيل الذي تلقى تكوينه الدراسي الأول، إبان تأسيس المدارس الحرة التي انشأتها الحركة الوطنية أيام الحماية الفرنسية. ولذلك أسألك عن الأجواء التعليمية في سنوات الأربعينيات، وعما تراه عناصر مميزة لتلك الحقبة؟ هي أولا حقبة الاستعمار الفرنسي وطغيانه، وهي أيضا حقبة الحماس الوطني ومقاومة الدخيل. وحتى لا أسهب في رسم صورة هذه الطفولة الموغلة في التاريخ، أحدد لك منها ملامح دالة أجملها في نقطتين: دور المدرسة الوطنية، وروح التكافل الاجتماعي. كانت الصدفة هي التي ميزت مسيرتي، ومسيرة أبناء جيلي من أبناء مسقط رأسنا، مدينة القنيطرة. فتأسيس مدرسة التقدم من قبل الحركة الوطنية، هي التي أخرجتنا من فضاء الكتاب القرآني ونحن في سن التمدرس، إلى المدرسة الحرة العصرية لنتعلم الحساب والجغرافية واللغة الفرنسية، إلى جانب اللغة العربية وآدابها وتاريخ المغرب، حتى إذا اجتزنا الشهادة الابتدائية عرفنا الفيزياء والكيمياء والترجمة. إنشاء مدرسة التقدم نفسه صورة حية للتضامن والتضحية، فبعد استئجار دار صغيرة في البدء، اتجه الآباء إلى البحث عن أرض ليقيموا عليها مدرسة أوسع، حتى إذا اختاروا هذه الأرض وسط المدينة أبي صاحبها، وهو من أثرياء الفلاحين ويسمى جلول الرميقي، أن يأخذ ثمنها فقدمها هدية، ثم توالى المحسنون، بعضهم تبرع بالمال وبعضهم ساهم بالعمل، وبعض آخر بمواد البناء. أما السيد أحمد آيت يوسف، فقد أضاف إلى مساعدته المالية تخصيص ثلاثة منازل للأساتذة الوافدين للإقامة الدائمة بها. في هذه المدرسة حفظنا أمهات القصائد العربية من كل العصور، من أشعار امرئ القيس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء وابن زيدون، إلى الشابي وأبي ماضي، إلى علال الفاسي ومحمد الحلوي. ولم تقتصر المدرسة على الدراسة المنتظمة، بل أنشأت مكتبة نستعير منها كتب أحمد أمين وكرم ملحم كرم وجبران، ومجلات: الكتاب والرسالة، والثقافة والثريا التونسية. وقد توجت هذه المدرسة عملها الحي بعرض المسرحيات في مناسبات عيد العرش ، وعيد الجامعة العربية، وفي آخر السنة الدراسية. وبعض هذه المسرحيات كان من تأليف أستاذنا محمد الأمري المصمودي، الذي عرف بكتاباته الأدبية وخاصة في مجلة «دعوة الحق». إضافة إلى العروض المسرحية، كانت المدرسة تعلن عن جائزة شعرية بين التلاميذ. وقد فزت مرة بهذه الجائزة بقصيدة هذه بعض أبياتها: أنت يوم الحفل أم عيد النيرات ريحك السحري طلق النسمات نتلقاك بثغر علوي البسمات ** لمن هذا الجمع وتلك الهمسات لمن هذا الرقص وتلك القبلات فهنا النشء الجديد وهنا الجمع الحشيد هاتفينا منشدينا إنه يوم سعيد ** أيها الناس الكرام أيها القوم العظام اجمعوا الشمل وقولوا رغم إن سلت سهام إن عيد الخلد هذا هو عيد الذكريات هو درس أبدي لفقيد الحريات وكنت آنئذ في السنة الثانية إعدادي. لكن ظاهرة صارخة كانت، ومازالت تثيرني، هي أن جميع أقطاب الحركة الوطنية في مدينتنا، وبعضهم من الموقعين على وثيقة الاستقلال سنة 1944، جميع هؤلاء الأقطاب من محمد الديوري، إلى عبد القادر برادة، إلى محمد التازي، إلى الجيلالي بناني، إلى حميدو برادة إلخ...لم يرسلوا ولو واحدا من أبنائهم للدراسة معنا في مدرسة التقدم، وإنما أرسلوا البنات فقط. وربما كان ذلك تلبية لحركة النهضة النسائية التي كانت تقودها الأميرة عائشة، علما أن المرأة لم تكن تعرف الوظيفة، وإنما تقبع في الدار أو تتردد على «دار لفقيهة». أبناء الأقطاب ظلوا، إذن، يتابعون الدراسة ضمن المدارس التابعة لنظام الحماية؟ تماما. والاختلاط بين الجنسين كان قائما آنذاك؟ نعم ، ولم يكن يطرح أدنى مشكل. كيف كنتم تتفاعلون مع الأحداث الوطنية المميزة لتلك الحقبة؟ المظهر اللافت في طفولتنا هو أن كل الأسر متكافلة. في هذا الإطار، شهدت القنيطرة حملة واسعة، خاصة بعد نفي المغفور له الملك محمد الخامس وأسرته، اعتقل فيها بعض أساتذتنا، ومنهم مدير المدرسة أحمد بلحاج السلمي، والأستاذ المعطي الحيمر ، وحكم عليهم بمدد متفاوتة من السجن. ولكن الأسر كانت تتعاون في ما بينها لتمويل المسجونين، وإعانة الأبناء والزوجات لأن أغلب العائلات كانت رقيقة الحال. لإعطاء صورة أخرى عن هذه المرحلة المبكرة، أشير إلى أمر يبدو اليوم غريبا، وهو علاقة السكان بباشا المدينة، فالحسن الوزاني كان يسكن في درب بجانب عديد من الأسر، وعندما يخرج من داره يمشي راجلا إلى المحكمة، مارا بالبقال والحلاق وصاحب المقهى الصغير .وكان الباشا الوزاني رجلا مهيبا وقد تزوج في آخر ولايته بسيدة أمريكية، كما أنه رفض مبايعة ابن عرفة فأزيح من منصبه، ولكنه أعيد إلى السلطة بعد استقلال المغرب. بعد عزل الباشا الوزاني أوتي بعسكري، هو محمد السنوسي، وكان يسكن على بعد عشرة أمتار من دارنا، وهو متزوج من سيدة سورية. كان له ابنة في عمرنا، وابنان أحدهما التحق بالجيش الملكي واسمه مامون، أما الصغير هشام، فيأتي إلى دارنا يوميا مع رفاق له في الحي، وكانوا جميعا في الخامسة أو السادسة من عمره، وما أن يدخل الدار حتى يقول:أنا ولد الباشا: فيجلس القرفصاء مع أصدقائه ليشربوا الشاي. وقد غاب عني هشام عقودا من السنين حتى فوجئت به منذ سنوات قليلة، وقد أصبح مديرا لجريدة «لوماتان».