منذ توليه عرش البلاد، لم يتوان الملك عن مباشرة عملية ضخمة ومعقدة، تتجلى في استدراك التأخر الذي عانى منه المغرب على مستوى تأهيل مجاله العمراني حضاريا، والتعجيل بتحديث كل البنيات التحتية القائمة، مع إحداث أخرى على صعيد مختلف المدن المغربية والقرى و المداشر النائية. إنها شبه ثورة في مجال التجهيز والعمران والبناءات الضخمة التي وضعت البلاد على سكة تاريخ جديد. على ضوء هذا الثابت الاستراتيجي ستصبح الملكية المغربية أكثر قدرة على بلورة مفهومها الخاص للتحديث دون أن يكون بالضرورة تلقينا خارجيا، أو تقليدا لنماذج جاهزة مهيمنة سياسيا وفاعلة دوليا؛ تحديث لن يرى النور دفعة واحدة كما حدث في تونس البورقيبية، بل تحديث متفاوض حوله باستمرار، ولعل هذا الاختيار هو الذي كان سببا في حرمان بلدنا من ثورته الثقافية التي مهد لها اليسار التقليدي المتمثل في الاتحاد الاشتراكي عبر عدة عقود من العمل المؤسس والمضني على مستوى واجهة النضال الثقافي. أحيانا يمكن أن تتحول الأدوات المستعملة في ضبط الحقل الديني والمجال التقليدي عائقا يحد من فعالية الأداء، ومن توسيع نوافذ الانفتاح؛ إنها الظاهرة التي ستطبع علاقة الملكية المغربية بالفقهاء ورجال الدين والعلماء الذين لهم تأثير بالغ في وجدان العوام. قد يبدو أن هناك ولاء تاما من لدن هذه النخب للعرش ورمزيته الدينية، لكن هناك مصالح ومآرب ومواقع لا يمكن دوسها تحت يافطة التغيير الذي تفرضه الظروف التاريخية، وحاجيات التنظيم السياسي للدولة المغربية في علاقتها بالمجتمع، وبالأحزاب وبأسئلة الديمقراطية والحريات العامة والفردية. التحالف مع اليسار من أجل بناء الانتقال الديمقراطي سيتعرض لوخز من لدن هذه النخب التي تعتقد دوما أنها الوريثة المؤهلة لخدمة الدين والسلطان في علاقته بالعامة والرعية، أي الدعوة الصريحة لعدم تخطي الحدود الحمراء في التعاطي مع ملف المرأة والأسرة باعتباره من المجالات التي ينبغي أن يشملها الإصلاح، حتى يتم تأهيلها قانونيا لكي تستطيع مواكبة المستجدات العصرية والتعقيدات الاجتماعية بشكل عام. لن يكون من المفاجئ إذن أن تتحرك هذه النخب، في شبه تحالف محتشم مع بعض خطباء الحركة الإسلامية المحسوبة على التيار المعتدل، ضد المجيء التاريخي لليسار إلى دفة الحكم في شخص عبد الرحمان اليوسفي الذي يحمل كارزمية وطنية، وشرعية نضالية وحقوقية لا يمكن النيل منها بأي وسيلة ديماغوجية، حتى ولو باللجوء إلى المناورات الدنيئة التي كانت تستهدف مدى إخلاصه للعرش، وذلك لما كانت بعض المصادر تعمل على تحريك ملفات مخابراتية تظهر المجاهد اليوسفي «كرجل مؤامرات»، و»كعدو للملكية» و»مناوئ لشرعيتها» وبعيد عن التقليد الذي يعادي مفاهيم التقدمية والديمقراطية بدعوى أنها مفاهيم غربية لا يمكن لها أن تنطبق على الوضع الاجتماعي للمجتمع المغربي الذي ينبغي أن يقوده أهل «الحل والعقد». ستكون الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية هي المعركة الفاصلة بين توجهين إيديولوجيين في المشهد السياسي المغربي المعاصر، واحد تقدمي حداثي يتحمس لإحداث قطيعة مع التصورات والتشريعات القديمة التي لا تمنح للمرأة المغربية المكانة التي تستحقها بالنظر لما حققته من تقدم وتطور أهلها لأن تخرج من الحجر والوصاية لتصبح مواطنة كاملة الحقوق والواجبات، وتيار محافظ يراهن على التقاليد المغربية التي تميل نحو الخوف من التحديث والإصلاحات التشريعية من أجل كبح عجلة التطوير والتغيير الذي قد يعصف بمواقع هذه النخب ومصالحها المادية بالخصوص. اليسار في شخص اليوسفي مارس دوره المنتظر لما حان موعده مع التاريخ، وتحمل نتائج فعله والتزامه التاريخي مع الشعب المغربي، كما كان حريصا على تدشين مرحلة جديدة في علاقة الملكية المغربية بالأحزاب المعارضة التي سيصوت أغلبها بالإيجاب على دستور 1996 . إنها بداية لعهد جديد سيعمل محمد السادس على استكمال بناء أعمدته بمؤسسات جديدة ستمكن المغرب من تجميع قواه لمواجهة خطر الإرهاب الذي سيفرض على الملكية تموقفا واضحا من ظاهرة الغلو الديني، وحسما نهائيا مع الممارسات السلفية التي ستنتقل إلى تكفير الدولة بعدما كفرت المجتمع ونخبه الثقافية والسياسية، وذلك بمنهجية جديدة تختلف عن أداء الملك الراحل الحسن الثاني. تدخلات الملكية بعدما التحق جزء من اليسار المغربي بممارسة الحكم انطلاقا من منهجية التناوب التوافقي على الرغم من علاته ونواقصه، ستدار المعارك السياسية والأمنية بين الدولة بقيادة ملك المغرب الجديد في تحالف استراتيجي مع أحزاب الكتلة الديمقراطية وأحزاب الوسط الليبرالي من جهة، وضد خطر التيارات الدينية المتطرفة من جهة أخرى. لن يمارس الملك الجديد ازدواجية في خطابه السياسي، أو تقية في مواقفه الفكرية والحضارية، بل سيكون اشد وضوحا، وأكثر إصرارا على اجثتات الخطابات التي تشرع للعنف بالدين، وحتى تلك التي تحرض ضد الملكية بتأويل فقهي سلفي، أحيانا، وصوفي، أحيانا أخرى، انطلاقا من تأويل ميتافيزيقي لمفهوم الخلافة ونظام الحكم في الإسلام، وهو ما كانت ولا تزال تدعو له حركة العدل والإحسان. ملك المغرب الجديد لن يستعمل العنف الأمني المتوحش في مواجهة العنف المنفلت من خطابات دعاة السلفية الجهادية، بل سيستثمر الأدوات الأمنية باعتدال وانضباط لكل الشروط القانونية والمساطر الإدارية في الاعتقال والمتابعة، والعرض على أنظار العدالة التي كانت تعمل بشكل مفتوح وواضح قام الإعلام المغربي بتغطية وقائع أدائها بالصوت والصورة والكتابة؛ تارة نقدا وتشجيعا، وتارة مؤاخذة وتأكيدا. سيعيش المغرب تحديثا على مستوى اشتغال الآلة الأمنية وذلك مقارنة بزمن السبعينات الذي كان فيه الاعتقال يشبه الموت. لم يكن أسلوب الدولة إذن هو الانتقام من جهة أفزعها التطور الذي حققه المغرب بعد انتقال العرش بشكل سلس من الملك الراحل إلى خلفه الجديد، بل اعتمدت منطق المؤسسات في تصريف القانون والرد بعقلانية سياسية ناضجة على عنف أعمى، وذلك بتفعيل مسؤول وموزون للقضاء الذي سيتولى مهمة متابعة أو تبرئة كل من تورط من قريب أو من بعيد في العمليات الإرهابية التي كان هدفها بالدرجة الأولى هو تليين العهد الجديد ودفعه لكي يقدم تنازلات لصالح التيار المحافظ في المشهد السياسي، مع تهديده بضرورة فك ارتباطه باليسار والتيار الوطني السلفي المتفتح حتى يتأتى له توجيه المغرب نحو إرضاء استراتيجيات بعض الدول الإسلامية التي لا تريد أن ترى دولا مثل المغرب وتونس تقطعان أشواطا مهمة في مسار التحديث والتنمية في انسجام تام مع المقدسات الدينية، والعادات الثقافية، رغم وجود فارق نوعي و تباين سياسي وتاريخي، طبعا، بين التجربتين المغربية والتونسية. رفض التحديث السياسي بالعنف الديني سيدفع الملكية المغربية لأن تعلن موقفها الحازم من كل النزعات التي تستثمر العاطفة الدينية والمشاكل القومية للشعوب الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين من اجل احتجاز الفعل السياسي للدولة المغربية، وجعله بالتالي يساير خيارات معادية للقانون الدولي والشرعية الدولية. ستنحاز الملكية المغربية بشكل واضح للمجتمع الدولي مع الاحتفاظ بمواقفها القومية اتجاه حقوق الشعب الفلسطيني، والاستمرار في دعم حقه العادل في إقامة دولته المستقلة على أرض فلسطين ضمن الاتفاقات التي وافقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية تحت القيادة التاريخية للزعيم الراحل عرفات. لن تساير الملكية منطق الابتزاز، بل ستعمل على فك ارتباطها بالمطلق بكل الغموض الذي شاب علاقتها بالجماعات الإسلامية، لكي تؤسس لممارسة سياسية عقدية جديدة ستضع المغرب ضمن هوية روحانية ما فتئ المؤرخون والأنتربولوجيون يؤكدون عليها كرافعة وجدانية لصيانة البلد من كل الأهواء الكلامية التي تنهال عليه من الشرق، أوحتى من بعض العواصمالغربية التي استقرت بها بعض الوجوه الدعوية التي ستعمل جاهدة للتأثير في التقاليد العقدية والطقسية لجاليتنا، وذلك برغبة تحويلها إلى قوة معادية للتقدم والتحديث بدعوى التصدي لمنع الدولة عن الاستمرار في خياراتها التحديثية تحت ذريعة حماية أرض الإسلام المغربية من أن تحتضن ميلاد «مجتمع ديمقراطي»الذي قد يضع في»اعتقادها» حدا لطموحات كل الذين يراهنون على المعتقد من أجل بلوغ السلطة أو تقويض الدور الديني للملكية المغربية. ستنهج الملكية المغربية سياسة اجتماعية تجد أصولها الروحية في الممارسة الإحسانية الصوفية التي تمثل أنضج وجه للإيمان المغربي كما تجلى تدريجيا لدى المغاربة منذ تفاعلهم الأول مع الإسلام كحدث سماوي سيغير جذريا العادات التعبدية والطقسية لدى المغاربة الأوائل أي الأمازيغ. بهذا المعنى ستقوم الملكية باسترجاع تراث التدين السليم والعبادة الجمالية التي تنبذ العنف، وترسخ المحبة والتسامح في العلاقات بين المسلمين من جهة، ثم بينهم وبين غيرهم من الناس سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم. سيعمل الملك محمد السادس على تحويل هذه التقاليد العرفانية من وضعها المثالي المتعالي إلى قيم اجتماعية ستحتضنها مؤسسات تتولى مهمة النهوض بالأوضاع المادية والمعنوية لكل الشرائح الفقيرة والمعدمة، أي تلك الفئات التي تقتات من بؤسها الجماعات السلفية المتطرفة من أجل تصريف حقدها ضد التحديث والتوجه الاقتصادي والاجتماعي الذي عزم المغرب على ارتياده بزعامة ملك لا يخفي تبنيه لمشروع ديمقراطي حداثي. لن يمر الصراع مع جماعات العنف الديني دون انفجار نقاش وطني لن يرقى، للأسف، إلى مرحلة التأسيس والتبني من لدن الدولة كخيار استراتيجي لمحاصرة المد الإسلاماوي، إيديولوجيا، عبر استثمار ممنهج للإعلام والمدرسة والمسجد وكل القنوات التي يتسرب منها الخطاب المعادي للتحديث السياسي والتنمية الاجتماعية، و بالخصوص الواجهة الإعلامية الجديدة، أي الأنترنيت وما يرتبط بها من إمكانيات تواصلية لها علاقة مباشرة بالشباب الذي تراهن عليه الجماعات الإرهابية قصد توظيفه في مشاريعها التخريبية. لقد كان الرد الفكري خجولا ومنعزلا لا يتجاوز حجمه بعض الوجوه التي تحملت مخاطر الصدح برأيها في وجه الانحراف العقدي الذي قد يشكل خطرا على أمن ومستقبل المغرب. النقاش الوطني الذي كان من المفروض أن ينطلق على ضوء الأحداث الإرهابية التي هزت أركان العاصمة الاقتصادية للمملكة، ظل سجين مماحكات هنا، ومساجلات إعلامية هناك، بحيث لم ينخرط المفكرون المغاربة بوزنهم الأكاديمي وإشعاعهم الثقافي في التموقف الصريح ضد المشروع الأصولي الذي استفاقت على ضرباته نخبة مخملية ألفت المناظرات الباردة بعيدا عن المواجهة الميدانية مع خطاب يصرح بالواضح أنه لن يستثني من «حكمه الشرعي» كل من كان تفكيره يساير أو يجامل أو يبرر الديموقراطية «الكافرة»ودعاتها العلمانيون. كما لم نلاحظ انخراط فقهاء المؤسسات الدينية العالمة في الإدلاء بآرائهم التنويرية التي من أجلها يحتلون مناصب متقدمة في جبهة التوجيه والإرشاد الديني وطنيا وجهويا ومحليا إلا بشكل متأخر بعدما استجمعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ما يكفي من الخطط لمحاصرة التسرب السلفي الجهادي لبيوت الله وبيوت المواطنين. لقد تبين فيما بعد أن ملك المغرب كان يبحث عن سياسة متكاملة لمواجهة المد الإرهابي الأصولي بدل الرد الأمني الذي قد يجعل الدولة تنجر نحو الاكتفاء برد الفعل وهو ما سيضمن للجماعات الإرهابية هامشا واسعا للمناورة وتغيير التكتيك باستمرار. لكن ستظل القوة الإسلامية المحسوبة على خط الاعتدال غير قادرة عن التخلي عن حنينها لزمن الفكر الجهادي مما سيفتح الباب على مصراعيه لكل احتمال من أجل أن تتحلل الملكية المغربية من كل تعاقد مع حزب العدالة والتنمية الذي مافتئ يتردد في بلورة رد حازم وواضح على الجماعات التي تمارس العنف السياسي بتأويل سلفي متطرف للنص الديني. لقد كانت كل السيناريوهات محتملة من بينها منع هذا الحزب أو تقليم أظافره، وهي الرسالة التي فهمها بعض زعمائه الذين سيذهبون لمباركة المدونة الجديدة للأسرة واضعين ثقتهم الكاملة وبشكل واضح في ملكية إصلاحية قادرة في نظرهم على الحفاظ على التوازن بين تيار التحديث وتيار التقليد الذي أصبح في مربع قاتل على ضوء العمليات الإرهابية التي كشفت بالملموس عن ما يمكن أن يمثله التأسلم السياسي من خطر على المشروع الديمقراطي الذي بناه اليسار تاريخيا وبمعاناة مثالية لكي يتبناه الملك محمد السادس كخيار وطني من أجل إنقاذ المغرب من السكتة القلبية والردة الماضوية. لن يتراجع ملك المغرب عن إرادة تعزيز المشروع الديموقراطي الحداثي وذلك بخلق مؤسسات جديدة لإعادة تنظيم مطالب النخب، ومنحها بالتالي إمكانيات من أجل العمل والفعل الميدانيين المباشرين؛ في هذا الإطار سيتم الإعلان عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وهو الإجراء الذي جاء سابقا للأحداث الإرهابية على اعتبار أن مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية والاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب كان هو المطلب الأكثر تجذرا وتألقا في مرحلة نهاية عهد الملك الراحل الحسن الثاني ؛ من هذا المنطلق سيعلن الملك محمد السادس بتاريخ أكتوبر 2001 ومن داخل غابات الأطلس المتوسط بخنيفرة عن مبادرة مأسسة خطاب الهوية والتاريخ والثقافة الأمازيغية، مما سينجم عنه موقفا وطنيا شبه عام حول الاتفاق على إعادة الاعتبار للأمازيغية باعتبارها غذت خيارا وطنيا لا مزايدة عليه لا من جهة رواده المؤسسين، أو من أي جهة سياسية تستعمل الأمازيغية للوصول إلى السلطة وبالتالي تحقيق مكاسب سياسية وهو الدور الذي ظلت تمارسه الحركات الشعبية. لن يمر طبعا هذا الإنجاز الثقافي الإستراتيجي دون أن يثير غبارا كثيرا في مواقع الجهات المعادية للحقوق الثقافية والتاريخية للأمازيغية ونخبها المناضلة، حيث سيكو ن التيار الأصولي ممثلا في حزب العدالة والتنمية هو القاطرة التي ستتكلف بتعبئة باقي القوى «العروبية» المحافظة على وجودها الإيديولوجي عبر المعتقد والتقاليد الدينية التي يعتبرون أنفسهم أوصياء عليها، سيقوم هذا الحزب بالكشف عن شراسة سياسية في تعاطيه مع اختيار الحرف الذي ستكتب به الأمازيغية في المدرسة. لقد تبين أن التحديث اللغوي الذي كان من المفروض أن تستضيفه الثقافة المغربية الأصلية في حالة إذا ما تم اعتماد الحرف اللاتيني في كتابة لغتها قد عصفت به الاعتراضات التي أججها هذا الحزب وكل حلفائه من مختلف الجبهات حتى من داخل بعض القوى التقدمية والوطنية التي لها عداء تاريخي مع الهوية الأمازيغية لأنها تشوش على معادلاتها الفكرية التي لا تخرج عن دائرة العروبة والإسلام. تدخل الملك سيكون متوازنا لكي يحفظ للجميع موقفه ومصداقيته، هكذا سيوافق على أن تكتب الأمازيغية بحرفها الأصلي «تفيناغ»، وهو الحرف الذي كانت تطالب به نخبة قليلة وسط النسيج الجمعوي الثقافي الأمازيغي؛ لن يقع إذن ميل للحرف العربي، ولا للحرف اللاتيني؛ وهو موقف يمكن اعتباره بمثابة ترسيخ للمفهوم الأنتربولوجي للذات المغربية كما عبرت عن نفسها تاريخيا. من هذا المنطلق سيكون الاحتكام الملكي حاملا بدوره لموقف يرجح كفة الذين يمنحون الأولوية للمكونات الذاتية للهوية دون اقتراض عناصر جديدة من ثقافات وافدة على البلاد لحل معضلات تحديثها. تطهير المجال في نفس السياق، وانسجاما مع تحديث الذهنيات السياسية لكي تتصالح مع تربتها الثقافية ووجودها التاريخي، سيعمل الملك وبرفقة ثلة من المعتقلين القدماء، الذين قضوا جزءا من شبابهم في سجون والده رحمه الله الحسن الثاني، على تطهير المجال الاجتماعي والسياسي المغربي من عناصر الحقد والرغبة الدفينة في الانتقام من نظام سياسي عرضهم للاعتقال والتعذيب والمحاكمات الصورية والسجون الظالمة، إنه سلوك سيقوم بزرع مفاهيم أخلاقية ظلت مبعدة من حقل الصراع والاقتتال على الحكم لعدة عقود طالما أن التسابق نحو احتلال المواقع وتصيد فرص المعارضة والتمرد كان هو اللغة التي سادت مرحلة الاستقلال. مفاهيم مستقاة من حقل فلسفي أنواري لكنها متجذرة في اللاوعي الجمعي المغربي، ستلتئم كلها حول معنى الصفح والعفو ونسيان جراح الماضي للتفرغ لتحضير البلاد لمستقبل مغاير. من هنا سيسهر الملك على إرساء المصالحة والإنصاف كمؤسسة ستشتغل لسنوات من أجل تهيئ كل الملفات المتعلقة بالاعتقال القسري، والاختطاف والاختفاء والتعذيب، أي كل ما له علاقة بالخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان. إنها منهجية جديدة ومتقدمة بالنسبة لتقاليد مجتمعنا الذي لم يألف ثقافة البوح والاعتراف والتخلص من الأوزار في جلسات عمومية سالت فيها دموع حارقة، وانفطرت لها قلوب من هول الآلام التي حكى عنها رجال ونساء كانوا ضحايا خروقات خطيرة مست جوهر شخصهم وعمق كيانهم. لقد فتح الجرح السياسي في بعده الإنساني، وعولج بمقاربة حقوقية أعادت الاعتبار للضحايا ولأسرهم وهو ما تضمن اعترافا واعتذارا رسميا من الدولة المغربية لفائدة الضحايا وأبنائهم وذويهم ولكل المغاربة، حيث أنها بعملها هذا أرادت أن تمسح من سجلها تاريخا لا يليق بمقامها، ولا يستحق أن يحسب على سيرة رجالها وحكامها. لم يكن من اليسير ولا من المألوف أن تنهج الدولة المغربية التي هي في العمق المظهر المؤسسي للملكية المغربية، أسلوبا حداثيا في طي صفحة الماضي، ونسيان انتكاساته الإنسانية، باعتماد قاموس الصفح والإنصاف بعدما انكشفت جوانب متعددة من الحقيقة في صورها الممكنة والمؤلمة للرأي العام المحلي والدولي، بدون تردد أو تقطع أو ابتزاز. لكن، من المفهوم أن العملية لم تكن لتحظى بإجماع الكل، لأن هناك دوما فرق بين ما نطمح إليه والممكن سياسيا، حيث أن الأغلبية كانت تباركها لأنها من صميم شعار الإستراتيجية الجديدة للملكية التي تريد التأسيس لمشروع سياسي يقطع مع السلبي في العهد القديم، ويواصل العمل بما هو إيجابي ضمانا للتوافق والتضامن، و من أجل توحيد الجهود لدرء المخاطر التي تتهدد أمن واستقرار البلاد. لا مراء في أن المغرب قطع شوطا سياسيا متقدما في ظل العهد الجديد، وهو ما تؤكده الإنجازات المهمة والجبارة التي تملأ العين وتقنع الملاحظ المقارن. لن يصبح إذن من الممكن التراجع إلى مربع الاحتياطات التي لن تزيد وضعنا إلا خوفا وقتامة ، التاريخ يعلمنا أن نتحلى بالشجاعة في اللحظات الحاسمة من السباق ضد النفس التواقة للكسل والمطمئنة لأساطيرها الذاتية وأحلامها الذاتية . من عمق الدولة المغربية المشبعة بالروح الأميرية يمكن للتحديث أن يصبح واقعا ممارسا ومعاشا كسياسة واجتماع ورؤيا للكون وللإنسان، كما يمكن أن ينتكس هذا المشروع التحريري الإنساني عندما ينعدم التيار الفكري والاجتماعي والسياسي الذي من المفترض أن يحتضنه ويحميه ويدافع عنه ويحاجج له ضد كل النزعات المريضة بالبقاء في الجحور المظلمة.