ما كنت اعتقد أن تخونني العبارة والفكرة، وأنا أحاول أن انقل القارئ إلى أجواء صيف مكناس، فما إن شرعت استجمع عناصر الموضوع، حتى اكتشفت أن صيف مكناس، ما هو سوى يوم يتكرر بكل ما يعنيه التكرار من رتابة وروتين، حتى لكأنك تعيش الملل والسأم طيلة الفصل إذا لم تغادر مدينة الزيتون والأسوار التي كانت ذات يوم، وقبل أن تمتد لها يد العابثين، من أجمل مدن المملكة صيفا وشتاء. مكناس، صيفا، جو حار وجاف، منذ الصباح حتى الصباح ... تستفيق الساكنة على جدول أعمال يوم لا يختلف عن سابقه ... رجال ونسوة يتبضعون في الأسواق... متسولون يحتلون كل الفضاء .... المسابح القليلة تبدأ في احتضان جزء من الساكنة، أغلبهم أطفال، يتكدسون فيها كما السردين في العلب... بائعو نسخ الكلمات المسهمة والسودوكو... وبائعو السجائر بالتقسيط.... والباعة المتجولون بسلعهم يجوبون الشوارع والأحياء... ويقتحمون المقاهي التي تفنن أصحابها في التغطية على احتلالهم للملك العمومي، بوضع المظلات الشمسية على قارعة الطريق، تجعل المرور أمامها مستحيلا.... الأبناك، والإدارات العمومية ذات الارتباط المباشر بالمواطن، تعرف اكتظاظا وازدحاما غير مسبوقين، في المقاطعات الحضرية والعمالات لإعداد وثائق ملف اجتياز المباريات أو جوازات السفر... وفي الدوائر الأمنية والأبناك ومقرات البريد و... وما أن تحل ظهيرة صيف مكناس حتى يلوذ الجميع بمأواه،إلا من اضطر للبقاء خارج منزله لحاجة يقضيها فهو إلى كل بارقة ظل ملتجئ ، عسى أن تحميه من الشمس التي اعتادتها المدينة حارقة وحارة... وصيف مكناس في المساء شهادة حية، على شدة احتياجات الأهالي إلى فضاءات الترفيه والترويح عن النفس من قساوة يوم حار لايبالي... المساحات الخضراء على قلتها، وعدم العناية بصيانتها ونظافتها، تبقى المتنفس الوحيد الذي يتكدس فيه الأهالي، هربا من حرارة الجدران، حتى ساعات متأخرة من الليل. إكراهات الصيف بمدينة تستحق أكثر كيف تقضي الصيف بمدينة مكناس؟ سألنا السيد ( ع.ف) عامل بقطاع البناء «إن ظروف عملي لا تسمح لي بأن أعيش فصل الصيف كفصل للراحة وتجديد النشاط، إن الفصول عندي تكاد تتشابه، وحتى في فترة العطلة، أو البطالة التقنية، فإن قلة ذات اليد لاتسمح بأن أغير وعائلتي المكان في اتجاه شاطئ أو جبل، ولن أفشي سرا اذا قلت لك بأن ابني الأكبر ذا الخمس عشرة سنة، لم يسبق له ان شاهد أية مدينة أخرى ، سوى مسقط رأسه مكناس، حيث يتابع دراسته طيلة الموسم الدراسي، كتلميذ، وينضاف صيفا إلى جيش الباعة المتجولين الذين يتضاعف عددهم كل صيف بفعل الظاهرة». أما (ع.خ) مستخدم بالبنك، فاضطرته إعادة ابنه لبعض مواد الامتحان إلى قضاء العطلة في مكناس، فيقول إن المدينة بما حباها الله من خيرات وجمال ، فإنها ولأسباب لايتسع المجال لذكرها، قد فقدت الكثير من مقوماتها، بفعل ما فعلته بها حرب الإسمنت، التي لم تبق مساحة خضراء إلا وغزتها، دون أن تولي لحق الساكنة في الترفيه أي اهتمام، وهكذا، وبالرغم مما عرفته المدينة من توسع عمراني، فإن ذلك لم يكن إلا على حساب المنتزهات، وكل ما كان يشكل في السابق متنفسا طبيعيا للسكان... كل هذا جعل من التوسع الذي عرفته المدينة مسخا مشوها، استقطب ساكنة جديدة إما بفعل الهجرة القروية، أو بفعل التزايد الديمغرافي، دون أن يواكب ذلك بنية تحتية تعنى بجانب الترفيه لهذه الساكنة. فالمسبح البلدي يضيف السيد (ع.خ) الذي بني في النصف الأول من القرن الماضي يوم كانت ساكنة مكناس لا تزيد عن بضع عشرة آلاف من السكان، لم يضف إليه سوى مسبحين هما مسبح السلم، ومسبح الزويتينة، في وقت أصبح فيه عدد السكان يعد بمئات الآلاف، أما إذا فكرت في ارتياد المسابح الخاصة بالفنادق المصنفة، فإن راتبك لن يكفيك نظرا لغلاء تذكرة الدخول من جهة، وما يفرضه أصحاب هذه الفنادق على المرتادين من تناول وجبات الأكل من مطاعمهم من جهة ثانية. سألنا السيد (ش.م) مدير مدرسة: مالذي ينقص مكناس ليكون صيفها جميلا؟ فأجاب «تنقصها إرادة منتخبيها، فمكناس تمتاز بساحتها التاريخية، ساحة الهديم وبمدينتها العتيقة، وأسوارها المميزة... وصهريج السواني، وحديقة الحبول وغابة الشباب، ومنتزه باب بوعماير، حتى وادي بوفكران، إضافة إلى الجنان والحدائق.... كل ذلك كفيل بأن يحول صيف مكناس القاسي، إلى صيف رحيم يريح السائح والمقيم، إذا ما تضافرت الجهود، وتوفرت الإرادات لتأهيل هذه الفضاءات، وجعلها في خدمة التنفيس والترويح عن النفس، بدلا من أن تظل لقمة سائغة في مأدبة مقتنصي فرص الإغتناء السريع بواسطة من اشتهروا بوأد المساحات الخضراء، واحتكار المرافق العامة، بالفهلوة والتمقليع».... مؤهلات ضعيفة تفرز صيفا بئيسا هذه الشهادات و التصريحات، تجمع جميعها على أن مكناس بما تتوفر عليه من إمكانيات هائلة يظل صيفها بئيسا .... إذ لا مسابح كافية و في متناول الجميع، و لا حدائق تستوعب الساكنة، التي تبحث عبثا عن متنفس، اللهم من محطات الوقود الكبيرة عند مداخل المدينة، تحرق أسعارها كل من اقترب من خدماتها، و اللهم أيضا من بعض المهرجانات التي كانت، على قلتها، تضفي بعض الحيوية على المدينة، أصبح يتسرب إليها ما يوحي بمحاولة تهريبها إلى وجهات أخرى .... فحتى مهرجان وليلي الدولي ، الذي شكل فيما سبق مصدر غذاء للروح و الجسد الجائعين قد فرض عليه أن يظل حبيس أسوار مكناس ، تتوزع أنشطته بين ساحة الهديم و حديقة لحبول ، مع ما يستتبع ذلك من «احتلال» لما تبقى للساكنة من أماكن التنفيس ، و استبدال حرارة المنازل .... هكذا يتحول مهرجان وليلي إلى عامل آخر من عوامل تضييق الخناق على الساكنة في الصيف، في وقت كان يشكل فيه متنفسا للأهالي في هذا الموقع الأثري العظيم الذي يحتضنه جبل زرهون الرائع !! أبناء الجالية وحركية جديدة وصيف مكناس لا يختلف عن غيره، من حيث عودة أبناء المدينة المهاجرين بالخارج، حيث السيارات في ازدياد و السياحة الداخلية في أوجها ، دون أن يواكب المسؤولون ذلك بأية عناية منهم لبنية استقبال في المستوى ... فلا طرق مصونة ، و لا شوارع واسعة، و لا مواقف للسيارات تستوعب ازديادها المضطرد، و لا حتى فنادق لسياح الليلة و الليلتين ... كل هذا يحول صيف مكناس إلى «جحيم» بالنسبة للسواد الأعظم ، بينما يشكل فرصة للبعض لاستنزاف ما تبقى للمواطن من قدرة شرائية متدهورة أصلا. و كمثال على هذا الاستنزاف، فإن فضاء صهريج السواني الذي اصبح محجا للسكان يحتمون به من حرارة يوم قائظ، قد أعد لهم مقصفا يستغل ثلث الفضاء لبيع المشروبات و المأكولات الخفيفة ، بالثمن الذي أراده أصحابه... وكيف لا يفعلون، وقد تمت «حمايتهم» من المنافسة بإقامة محلات أخرى مجاورة يتسع الفضاء لها جميعا! هل تفلح مجهودات السلطة لحل الإشكال؟ و لمعرفة رأي مسؤولي الجماعة التقينا بالكاتب العام لجماعة مكناس، الذي أفاد بأن «البنى التحتية لمدينة مكناس في ما يخص التعايش مع صيفها تتضاءل بفعل التزايد السكاني، و الهجرة القروية... و هو ما تم الوعي به ... و قد فرغنا للتو من إنجاز كل الدراسات، و إعداد الملف التقني لبناء مركب رياضي ترفيهي اجتماعي بالقرب من ملعب 20 غشت بشراكة مع مديرية المياه و الغابات، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، و المجلس الإقليمي لعمالة مكناس، وأن من شأن هذا المركب أن يخفف بعض الشيء من محنة سكان المناطق المجاورة، والتي جميعها عبارة عن أحياء شعبية لذوي الدخل المحدود من جهة، و البعيدة عن المسابح البلدية الثلاثة من جهة ثانية». لماذا لم يفكر المسؤولون في صيانة المناطق الخضراء و جعلها في خدمة الساكنة عوض تتريك المدينة بتفويتها لتتحول إلى إسمنت يخنق أنفاس الساكنة؟ سؤال طرحناه على الكاتب العام، الذي اعتذر عن الجواب لعدم الاختصاص . تركنا الجميع وقفلنا راجعين إلى البيوت ، مهرولين خوفا من لفحة شمس قد تكون عواقبها الصحية وخيمة ....