نحن على أبواب ذكرى مرور قرن على «صدمة الإستعمار» بالمغرب.. ففي سنة 2012، ستكون قد مرت 100 سنة على دخول المغاربة، دولة، مجتمعا وأفرادا، في لحظة للتحول التاريخي هائلة، لا تزال تبعاتها متلاحقة إلى اليوم ببلادنا.. إن النهوض التاريخي الجديد للمغاربة، كثيرا ما يربط بمرحلة الإستعمار، الذي كان السبب في تسريع وتيرة «نظام المدينة» بيننا كأمة وشعب. بينما الحقيقة أن محاولات النهوض المغربية، كانت لها ذاكرة سابقة على وثيقة 30 مارس 1912، الموقعة بفاس والتي تؤرخ لبداية الإستعمار الفرنسي ثم الإسباني للمغرب. يكفي البحث علميا وتأريخيا، في تفاصيل ما حدث خلال القرن التاسع عشر، منذ احتلال الجزائر سنة 1830 من قبل الفرنسيين، ثم المؤتمرات الدولية التي كان موضوعها « القضية المغربية » (مؤتمر طنجة الدولي لسنتي 1877 و 1878، ثم مؤتمر مدريد لسنة 1880، ثم مؤتمر الجزيرة الخضراء لسنة 1906)، لإدراك أن إرهاصات ومحاولات التحول والإصلاح بالمغرب، أقدم بكثير من تاريخ 30 مارس 1912. شجرة أنساب ذلك الإصلاح، تؤكد أنه كان هَمَّ نخبة أكثر منه هَمَّ مجتمع، وأن تفاصيل ذلك، ثاوية في التقارير الديبلوماسية الخارجية (الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، الهولندية، الأمريكية وأخيرا الفرنسية)، أكثر منه في أرشيف الذاكرة المغربية. من ضمن ذلك الأرشيف المكتوب، الذي لا نغفل أنه كتب من موقع مصلحة كاتبه ومحرره والدولة التي ينتمي إليها، نطل في هذه السلسلة من الحلقات، على تفاصيل ما دونه الباحث الأركيولوجي الفرنسي الشهير «هنري دولامارتينيير»، في كتابه الشهير عن المغرب، في الفترة بين 1882 و 1902. هو الذي قضى في بلادنا (أساسا في طنجة)، سنوات طويلة امتدت من سنة 1882 إلى سنة 1918، وتحمل مسؤوليات ديبلوماسية رفيعة لباريس في المغرب. فهو لم يكن له فقط فضل اكتشاف موقعي مدينتي «وليلي» و «الليكسوس» الرومانيتين، بل إنه كان من أشد مهندسي التغلغل الفرنسي في المغرب، من خلال تقاريره السرية الدقيقة التي كان يرفعها للخارجية الفرنسية انطلاقا من طنجة. في هذه الحلقات، سنرافق معه، تفاصيل ما دونه حول عهد المولى الحسن الأول، حول المسيحيين الذين أسلموا بالبلاط السلطاني، حول ذاكرة تحديث الجيش المغربي منذ عهد سيدي محمد بن عبد الله، ثم زيارته إلى مراكش في نهاية القرن 19، حول مغامراته في الأطلس الكبير مرورا إلى تارودانت، ثم زيارته الشهيرة إلى وزان، فاس وتلمسان سنة 1891. كانت السياسة البريطانية [ في المغرب ] جد نشيطة. لقد أصر السير أرثور نيكلسون على إلزام المحميين وغير المحميين المغاربة، بأداء ضريبة «الترتيب» التي تم إقرارها في المؤتمر الدولي لسنة 1880، التي لم تطبق كما يجب. [ المقصود هنا، مؤتمر مدريد لسنة 1880 الخاص بالقضية المغربية، والذي شاركت فيه حوالي سبع دول أروبية إضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، من أجل تحديد الدول التي لها «الأفضلية والأحقية» في تقسيم الحلوى المغربية. بينما ضريبة «الترتيب»، هي ضريبة موحدة تنسبها الكثير من المصادر المغربية ( خاصة كتاب «الإستقصا» للفقيه الناصري السلاوي) إلى السلطان المولى الحسن الأول. والحقيقة أن هذا السلطان المغربي قد حاول إعادة تنظيم الدولة المغربية، من خلال جملة إصلاحات، لعل أهمها إصلاح الجيش وتحديث أسلحته، تنظيم البريد، توحيد العملة ( الريال الحسني الشهير )، توحيد الضرائب ( ضريبة الترتيب )، وأخيرا بعث 350 طالبا مغربيا لتلقي العلوم الحديثة بجامعات أروبا . - م - ]. كانت ملتقيات الجسم الديبلوماسي الأجنبي بطنجة تتوالى، ولم تكن العين المجردة لتخطئ الجهد المبدول من أجل تحقيق الإصلاح [بالدولة المغربية]. وفي كل تلك اللقاءات، كان كل طرف يحاول تبرير مبادراته، حتى التافه منها، وكنت للحقيقة، أتتبع ذلك بحياد علمي، لكن الأساسي، أن ذلك كله كان يسمح لنا بتتبع خيط السياسة البريطانية بالمغرب. السياسة التي كانت تسعى أن تكون متساوقة مع سياسة السلطان الجديد [مولاي عبد العزيز، الذي لم تكن الكتابات التاريخية الفرنسية منصفة في حقه - م - ]، دون أن تسقط من حساباتها احتمالات التحول بسبب من حساباتها في مصر. [ هنا يكشف الكاتب أن التفاوض السري، كان مفتوحا بين باريس ولندن حول القضية المغربية، والذي تجلى واضحا سنة 1906 من خلال اتفاقية وزيري خارجية البلدين سايكس بيكو، حيث تنازلت فرنسالإنجلترا عن أي مزاحمة في مصر والسودان، فيما رفعت إنجلترا يدها عن المغرب. - م - ]. لابد من الإشارة، أن السير نيكلسون كان متعاونا جدا معنا في ما يرتبط بالأمور الصحية [بالمغرب]. لقد نجحت في أن أنصب طبيبا فرنسيا في منصب الطبيب الرئيسي بطنجة، بعدما كان ذلك المنصب دوما من نصيب الإسبان. في هذه الظروف جاء الدكتور رينو، الطبيب المجرب والمبرز بالجزائر، الذي كانت له تجربة في مواجهة الأوبئة وإقامة المعازل الطبية. كان شتاء 1899 - 1900، من أشد فترات التوتر والعمل المتلاحق عندنا. ففي أواسط شهر دجنبر، كان فريق الباحث الجيولوجي م. فلامون، العامل بالمناطق الصحراوية الشرقية [للمغرب]، بطلب من حكومة الجزائر [الفرنسية]، بمنطقة « إنصلاح » بواحة تيدكلت، قد تعرض لهجوم من أهالي ذلك القصر [الصحراوي]. فولدت « قضية توات »، التي كنا مضطرين لحلها بطرق عسكرية عنيفة [من خلال احتلال المنطقة]. للأسف، كان الطقس قد بدأ يتبدل، وبدأ موسم الحرارة يزحف، فاضطررنا لتأجيل إتمام العملية إلى العام الموالي. لقد كانت نتيجة ذلك، هي المساس عميقا بتواجدنا في المغرب. لقد تم اتخاد إجراءات متسرعة بباريس. الحقيقة، أن عدم التخطيط الجيد في أمور مماثلة، تكون نتيجته دوما كارثية، فقد كان الأمر مجرد رد فعل منا على حادث معزول، ولم يكن الأمر مندرجا في عمل استراتيجي منظم. وكانت النتيجة مواقف تتطلب الكثير من النقد والمواجهة. منذ وفاة السلطان مولاي الحسن [ الأول ]، الذي كانت له مواقف معروفة حول قضية الصحراء [الشرقية ]، والتي تعاظمت بعد زيارته لتافيلالت سنة 1893، فإن المغرب كان تحت قيادة [الحاجب] سي أحمد، الذي كان رجلا صعب المزاج، لا يقبل الحلول الوسط، والذي كان يصر على مواصلة اتباع سياسة سيده الراحل. علما أن خبر سيطرتنا على « إنصلاح »، قد ولد ردود فعل عنيفة بكل المملكة الشريفة. [ لابد من التوقف هنا عند هذا الحادث الذي لا تزال تبعاته متواصلة إلى اليوم بتفاصيل جديدة. الأمر هنا يتعلق بمشروع فرنسا في احتلال مناطق الصحراء الشرقية للمغرب، جنوب فكيك وتوات، وصولا حتى تيندوف وكولمب بشار ونزولا إلى الحدود الشماليةالشرقية لموريتانيا الحالية. وهي أراضي شاسعة، اكتشف فيها الجيولوجي الفرنسي المذكور أعلاه م. فلامون، مناجم غنية للحديد والكوبالت وغيرها من المعادن الهامة. فقررت باريس إلحاقها بالجزائر الفرنسية في العقدين الأخيرين من القرن 19. بل إن الرئيس الموريتاني الراحل، المختار ولد داداه، في مذكراته الجريئة التي نشرت مؤخرا، الذي كان أول رئيس لموريتانيا التي تأسست بدعم كامل من باريس سنة 1962، باعتراف من الرجل نفسه، قد ذكر تفصيلا هاما جدا، هو اتصال الجنرال دوغول بالملك الوطني الراحل محمد الخامس سنة 1958، واقترح عليه إعادة المناطق التي احتلتها فرنسا من صحراء المغرب الشرقية، في مقابل وقف المغاربة الدعم الرسمي والشعبي للثورة الجزائرية البطلة. لكن ملك المغرب، الوطني الأصيل، رفض تلك الصفقة، قائلا إنه لا يمكن أن يطعن الأخوة الجزائرية في الظهر، وأنه اتفق مع السيد بن خدة رئيس حكومة المنفى الجزائرية، على حل مشكل الحدود وضمنها تلك المناطق الصحراوية، بعد استقلال الجزائر. لكن الفريق الشاب الذي تسلم السلطة سنة 1962، بالجزائر العاصمة، لم يرى من داع للإلتزام بذلك الإتفاق. فتصاعد الموقف، في بدايات عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبدايات عهد الدولة الجزائرية الحديثة، برئاسة الرئيس المقاوم أحمد بن بلة، مما أدى إلى حرب 1963، التي عرفت بحرب الرمال، وبعض المصادر تسميها أيضا « حرب توات »، التي لها إحالة على ذكرى القضية التي يتحدث عنها الكاتب هنا، وهي «قضية توات» سنة 1900. ومن مكر الصدف أن ذات المنطقة المغربية التي انتزعتها فرنسا بالقوة والغصب من بلادنا، وألحقتها بالجزائر، أي مناطق تيندوف، هي ذاتها التي تنطلق منها استراتيجية القوة العسكرية النافذة في السلطة الجزائرية منذ 1975، لتقويض حق المغرب في استكمال وحدته الترابية. إنه مكر التاريخ، وفي كثير من الأحيان قلة مرؤوته أو بالأحرى بعض من صناعه. - م - ]. لقد بادرت الحكومة الشريفية للإتصال بالممثليات الأجنبية [بالمغرب]، وضمنها طبعا الممثلية الألمانية، لكن الظاهر أنها لم تتلق منها جميعها غير الكلمات المعسولة. كنت حينها المسؤول عن سفارة فرنسا، في انتظار وصول السفير المعين، من تونس، السيد م. ريفوال، وكنت أتلقى كثيرا زيارات زملائي الديبلوماسيين الألمان والإسبان، الذين كانوا يعرضون أمامي قضية واحات [توات]. كنت في كل مرة يطرحون علي الملف، أجتهد في أن أقدم أمامهم ملف الصحراء تلك في شموليته، وأحاول إقناعهم بالحجج الدامغة لسبب تحركنا ذاك، من أجل ضمان أمننا في أقصى الجنوبالجزائري. كان زملائي، لا يجدون ما يدافعون به عن الموقف المغربي، ولا ما يدافعون به عن موقف حاجب المملكة [سي أحمد ]. هذا، لم يحجب عنا أن الكل كان ضد موقفنا في السفارات الأجنبية، عدا السفير الروسي، السيد دوباشراش، الذي بقي وفيا لنا على طول الخط. [جميلة عبارة «وفيا لنا» هذه. كما لو أنه وفاء في قضية عادلة!! - م - ]. الحقيقة أن الجو الديبلوماسي العام [في طنجة] كان مشحونا جدا حينها، وأذكر أنه تصادف أن رست سفينتان حربيتان فرنسيتان بعرض بحر المدينة، وهما سفينتا « كارنو» و « ماسينا »، لمدة 48 ساعة فقط، في رحلة لهما من ميناء تولون إلى ميناء بريست الفرنسيين، مما اعتبر من قبل الديبلوماسيين الأجانب استفزازا لم يقبلوه قط. غدا: تتمة حكاية «أزمة توات»