يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن. ثمّة كلمات أو عبارات مألوفة لديْنا، ومع ذلك فإننا نجهل محتواها ومسارَ تكوّنها بكلّ تأكيد. وفي هذا الصدد، فقد انكبّ المؤرخون كثيرا على دراسة المخزن دون أنْ يولوا لهذه الكلمات الأهمّية التي تستحقّها. ويُعتبر ابن زيدان، أحد مؤرّخي المخزن، هو الأكثر انتباها لهذا المعجم. لكن ما يهمّنا هنا هو تكوّن وتشكّل هذه العبارات والألقاب. وهو ما سيساهم بكلّ تأكيد في التعرّف على الجذور التاريخية للدولة المغربية. وإذا كنا في الحلقة السابقة قد حلّلنا عبارة «السدّة العالية بالله»، فإننا سنولي الاهتمام الآن لعبارة «العَتَبة السّلطانية». تموّجات في التعريف تُستعمل كلمة «العَتَبة» (جمعها: أعتاب وعَتَبات وعُتُب)، في الاستعمال العادي، للدلالة على عتبة الباب التي تجتازها الأرجل. لكن قد تعني كذلك، بحسب المصادر، الدرجة العليا من السّلّم، وقطعة الخشب الموجودة في الجزء الأعلى من الباب. وأخيرا، فإنها تعني العوارض الخشبية التي تسند الباب. ويعرّفها معجم المحيط في اللغة (الجزء الأول، ص. 445) باعتبارها «السقيفة العليا للبيت». معنى ذلك أنها تشير إلى مختلف مكوّنات تأطير الباب والإحاطة به، كما لو أنها تشهد على تعقيده وحمولته الخاصّة. ولذلك فإنها تستمد ذريعتها من هذا التعقيد للفت الانتباه، على التوالي، إلى القِطع والمكوّنات المحيطة بالعتبة السلطانية، والتي ينبغي تذكّرها من أجل اجتيازها وتخطّيها. درجات وهميّة مؤسِّسة للمكان العالي تعود لفظة «عتبة»، التي نستعملها لوصف «العتبة الشريفة»، على الأرجح، إلى البدايات الأولى لظهور البيوت المَلَكية، حين كانَتْ دار المُلك الفتيّ، الحديث العهد، هي مركز الحياة الاجتماعية، والملجأ الحامي من مختلف الاعتداءات وتقلّبات الأحوال. ومن الوارد أنْ تكون هذه الدار موجودة في مكان عال، أو متوفّرة على أدراج ومراق هائلة احتفظت عبارة «الأعتاب الشريفة» بذكراها. لكن، مع اتساع مساحة الدولة، وتزايد أعداد محيط الملوك، صارت العبارة ضربا من الخيال الذي لا يمكن ربطه بالدرجات والمراقي الحقيقية التي تسمح بالدخول إلى القصر. تقوم العبارة إذن على مجموع المراقي التي يتعيّن اجتيازها بُغية الوصول إلى القرب من الملك، والحصول على نعمه وأفضاله. لكن المثير في الأمر، وبصفتها بالخصوص أعلى الباب، فإنّ العتبة مرادفة للحاجِب، سواء بمعنى الستار أو بمعنى البوّاب. هذا الأخير الذي سيرتقي فيما بعد إلى مرتبة الحاجب في المعجم المَلَكيّ (تاج العروس، الجزء الأول، ص. 406؛ والجزء الثاني، ص. 201). من المحتمل جدا أنْ تكون هذه العارضة، في السابق، تحمل علامة تشير إلى مساكن الملوك. وبالتالي، كان ذلك يحميها من الناحية الفيزيائية أو الرمزية من خلال إخفاء طلاسم تعمل على صرف الأنظار الخبيثة. وفي جميع الحالات، فقد انتهت العبارة بأخذ مسافاتها بالقياس إلى طبيعتها الأولى، لكي تنتقل للإشارة إلى شخص الملك، الشّخص نفسه، وإلى القصْر الملكي. لقد باتتْ، إذن، واحدة من العلامات التي لازلنا نستعملها اليوم لتشريفه، والتعبير عن الامتثال له. ثمّة عنصران يؤكّدانها في مثل هذه الوظيفة. فالنعت الشريف، أوّلا، هو الذي خلّصه من معناه العادي المتداول، المعنى الدّالّ على عتبة عادية توجد في بيوت وضيعة، وأعطاه بالمقابل معنى العلوّ والسموّ. فليْس الباب، مهما كان جليلا، هو الذي يعطي المهابة والجلالة، وإنما ذلك الشّرَف الذي يتمّ اكتسابه عن طريق الانتساب المَلَكي، أي الانتساب إلى شَرفه، وبالضّبط إلى علوّه وسموّه، على اعتبار أنّ الشّرف كان يعني في البداية وضعية عالية تطلّ على كلّ ما يحيط بها، والتي تعني القوّة وعدم القدرة على الوصول إلى الشخص المراد. فيما بعد، تحوّلت هذه الوضعية الاستراتيجية، التي انتزعها السّادة بحدّ السيف، إلى وضعية اجتماعية تزعم الانتساب إلى أصل متحرّر من كلّ خضوع سابق، وبالتالي لا يمكنه أنْ ينتج إلاّ السّادة وليس الرعايا أبدا. إنّ قوّة السيف، والبسالة الحربية، تشكّلان الصرح الأوّلي الذي تقوم عليه الأسس الإيديولوجية للسلطة، بإفرازها لسلالة السّادة. وفيما بعد، سوف يحلّ محلّهما الرأسمال الاجتماعي ونظام الوراثة. يعني «الاعتتابُ» الارتفاع قصد الوصول إلى مكان مرتفع. هكذا ترتبط كلمة «عتبة»، عبْر بُعد الارتقاء، بالارتفاع وبالعلوّ، لكن يبقى، رغم ذلك، أنّ النعت الشَّرَفي هو الذي يؤكّد الدور الرئيسي لهذا الملمح. وبالتالي، فإنّ «الأعتاب الشريفة» تشهد على ارتفاع البيت الملكي، وتعمل في الوقت ذاته على كشف النقاب عن أصله. وهو يحيل كذلك على فضل الملتمس الراغب والطّامع في الوصول إلى الملك. الأعتابُ مرادفة لدرجات السلّم ومراقيه، الأمرُ الذي يعطي صورة واضحة على حمولته السّياسية. هناك درجات يتعيّن على المرء ارتقاؤها، وصعوبات ينبغي تجاوزها من أجل الوصول إلى الأعالي، إلى المكان السّامي الذي يوجد فيه الملك. العتبةُ إذن تجاور للدّرجة. إنّ إدخال السُّلَّم في هذا السياق له دلالته الكبرى فيما يخصّ أهمّية الفارق في الارتفاع، لأنه يفترض صعودا وارتقاء لا يتحقّقان باليد الفارغة، وبالتالي يتطلّب الأمر وجود دعامات وركائز. ومن أجل إبراز حجم الصعوبات، فإنّ الجبل هو الذي يتمّ إعطاؤه مثالا باعتباره هدفا للصّعود. غير أنّ هناك عنصرا ثانيا ذا أهمية بدوره. فكلمة «عتبة» في المفرد، ورغم الافتراض بكوْن المقصود منها هي الدرجة الأخيرة، فإنها لا تكفي لوحدها لتحميل المفهوم ما يحتمله. ومن ثمّ، فإنّ وضعية الملك تستدعي كلمة في صيغة الجمع، وهي «الأعتاب»، التي من شأنها تقوية وتعزيز المسافة التي تبقي رعايا الملك بعيدين عن مكانه العالي. فكما هو الشّأن بالنسبة للسماء، التي لا يكتفي فيها الله بسماء واحدة، فإنّ كثرةَ الدرجات ضرورة أساسية للملك. فهذا الأخير يحتاج لحُجُب متعددة تقوّي تحكّمه في مختلف دوائر محيطه. ومنه هنا تغدو «الهَيْبة» شديدة، وسرُّ الجلالة كثيفا. وعليه، فالأعتابُ لا يمكن النظر إليْها بصفتها معطى فضائيا يترجم، عند الضّرورة، تعدّد العتبات والقُصور. بل إنّ الأمر يتعلّق هنا بوضعيات وبتراتُب وببَنينة للمحيط المَلَكي. ومن ثمّ، فإنّ ترجمة العبارة بالعَتبة الشريفة، مثلما هي الحال دائما، معناه تفقيرها إذا نحن لم نأخذ في الاعتبار كلّ حمولتها. غدا: الصَّفْحُ والغَضبُ