مازالت تداعيات الجريمة التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية ضد أسطول الحرية وخاصة السفينة التركية مرمرة مستمرة. ومازالت التحركات جارية لدفع إسرائيل الى القبول بتحقيق دولي لتسليط الأضواء حول الظروف التي تم فيها هذا التصرف المنافي للقانون الدولي والممارسة الدولية خاصة في المجال البحري. ولا يقتصر الأمر على البعد القانوني. فالمنطقة تعرف تغيرات جيوسياسية ملحوظة. وانعكاساتها ليست نهائية. لذلك فإن الأمر يتعلق باستنتاجات وتساؤلات أولية أكثر مما يشي بحقائق نهائية. 1 البعد القانوني: الشرعية الدولية: في معرض تكييف هذه الواقعة تحاول إسرائيل أن تتشبث بفكرة الدفاع الشرعي معتبرة أن قواتها اضطرت الى استعمال القوة بعد أن حاول النشطاء الموجودون في السفينة استعمال القوة وتجريد أحد الجنود من سلاحه. ليست المرة الأولى التي تلتجئ فيها إسرائيل الى هذه الذريعة. فقد سبق لها أن لوحت بها خلال حرب يونيو 1967 مع مصر، وخلال العدوان على المخيمات الفلسطينية في لبنان في أواسط السبعينات وفي 1981 لتبرير ضرب المفاعل النووي العراقي. وأخيرا في العدوان على غزة في سنة 2008 2009. هذه الذريعة لا تصمد أمام تحليل المعطيات المتوفرة. فالعملية الاسرائيلية تمت في المياه الدولية. ومعروف أنه حسب اتفاقية مونت غوباي لسنة 1982 فإن هذه المياه تخضع لحرية الملاحة بالنسبة لجميع السفن. بمعنى أنه يحرم اعتراض أو تفتيش باخرة حاملة لعلم دولة ماعدا في إحدى الحالات الأربع التالية: إذا كانت تحمل الرقيق أو لم تكن تحمل علما أو تتعاطى القرصنة أو تبث برامج راديو غير مسموح بها. وهذه الحالات الأربع لا تتوفر في هذه النازلة حيث يتعلق الأمر ببواخر تحمل نشطاء من كثير من الدول. والعملية ليست فجائية، بل إنها كانت معروفة منذ مدة للجميع. علاوة على أنها تمت في جنح الظلام وذلك ما يطرح نقط استفهام حول شرعية العملية. على مستوى آخر تحاول السلطات الاسرائيلية تبرير العملية بكون الهدف منها هو منع تعزيز قدرات منظمة حماس التي تصنفها بالإرهابية. الواضح أن الشهادات التي أدلى بها من كانوا فوق هذه البواخر تثبت أنها لم تكن تحمل إلا مواد ذات طبيعة إنسانية الهدف منها إنقاذ شعب يوجد تحت الحصار وهو معرض لأقصى المعاناة. ومعروف من خلال الممارسة الدولية فيما يتعلق بالشحن البحري أن مسؤولية مراقبة الشحنات يرجع الى سلطات ميناء الأصل. وفي هذه الحالة يتعلق الأمر بالسلطات التركية. ولا يمكن أن تكون هذه السلطات قد سمحت بشحن مواد ممنوعة من قبيل الأسلحة. أخيرا إن اللجوء الى الدفاع الشرعي في القانون الدولي ليس مطلقا. فالقاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية هي منع اللجوء الى القوة. ومن ثم فقد تم تقييد أي استخدام للقوة بشكل صارم. فالعمليات التي تتم في هذا الإطار ينبغي أن تكون دقيقة ومتناسبة وأن لا ترتب خسائر جانبية. وتبعا لذلك فقد انتقدت الكثير من الدول الاستعمال المفرط للقوة في مواجهة أشخاص مدنيين لا يمكن أن يكون هدفهم تهديد أمن إسرائيل. الصدمة التي أثارها هذا الاعتداء واجهت استنكارا عالميا. والدعوة الى تكوين لجنة عالمية للتحقيق تتسم بالحياد والشفافية والموضوعية لا يمكن إلا أن تحسم بشكل واضح في الأطروحتين المتواجهتين. لكن إسرائيل ترفض القبول بهذه اللجنة. ولكنها في نفس الوقت وأمام الضغوط الدولية قبلت تشكيل لجنة داخلية بمراقبين أجنبيين لا حق لهما في التصويت على خلاصاتها المحتملة. وفي الواقع تتخوف إسرائيل من أن التحقيق الدولي سيؤدي الى تقرير غولدستون جديد، والذي كان قد أدان إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في عدوانها على غزة في سنة 2008. إن إجبار إسرائيل على الانصياع لتشكيل لجنة دولية يبقى رهينا بتماسك الضغط الدولي وبموقف الولاياتالمتحدة. وفي كل الحالات، فإن الاكتفاء بالصيغة الإسرائيلية المطروحة لا يخدم الحقيقة ولا مصالح إسرائيل نفسها. فالشرعية الدولية لا ينبغي أن تكيل بالمكيالين. والإفلات من العقاب لم يعد مقبولا. 2 تداعيات جيوسياسية: بصرف النظر عن التداعيات المحتملة والمستمرة، فإن هذه الجريمة قد أفرزت ثلاث معطيات: المعطى الأول يكمن في الدور الذي بات يلعبه المجتمع المدني في إثارة الانتباه الى المأساة التي يتعرض لها السكان في غزة بفعل الحصار اللاشرعي الذي تضربه إسرائيل. وأكثر من ذلك ينم هذا الأمر عن رغبة في فك هذا الحصار. فالهدف الأساس ليس فقط مد السكان بالمؤن، ولكن دفع المجتمع الدولي الى إجبار إسرائيل على التخلي على هذا الحصار الذي يعتبر جائرا، وأكثر من ذلك غير منتج طالما أن الممارسة بينت أنه لم يفض الى النتائج السياسية المرتقبة. بل عمق فقط من معاناة السكان. صحيح أن التفاعل بين منظمي هذا الأسطول الإنساني والسلطات التركية يبقى قائما، لكن ذلك لا يقلل من أهميته في القيام بدور لفت الانتباه الى معاناة السكان الفلسطينيين الأبرياء. المعطى الثاني يتمثل في ضرورة العمل على رفع هذا الحصار. تبدو إسرائيل مهووسة بشيء واحد وهو توليد الاقتناع أن غزة أصبحت ملحقة إيرانية. ومن ثم ينبغي العمل على أن لا يتحول ميناء غزة الى ميناء إيراني. إن هذا التصور علاوة على نزعته التبسيطية فإنه لم يعد يجد الكثير من الأنصار. على العكس من ذلك يبدو واضحا أن الاتجاه العام داخل الدول بدأ يعي أن هذا الحصار لا يمكن أن يخدم مسلسل التسوية. فعلى خلاف ما تعتقد إسرائيل، فإن الحصار بدون بديل لم يؤد في نهاية المطاف إلا الى تقويبة حماس وتأكيد موقعها كمدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة السلطة الوطنية الفلسطينية التي لم تتمكن لحد الساعة من جني ثمار خطها بفعل تعنت اليمين المتطرف الاساسي. فقد بدأ التفكير حتى في إسرائيل من أجل إقرار صيغة جديدة، لا ترفع الحصار، ولكنه تخفف من وطأته من خلال آليات جديدة. وقد يكون هذا في صلب المشاورات الأمريكية الاسرائيلية. المعطى الثالث، وهو الذي يرتبط بجوهر الصراع، الذي هو الاحتلال الاسرائيلي. رغم التقدم الذي حصل على مستوى الخطاب والنوايا، فإنه لحد الساعة فإن مسلسل التسوية في المنطقة مازال متعثرا، وترفض إسرائيل لحد الساعة التعاطي بشكل إيجابي مع المبادرات الرامية الى إنعاش مسلسل السلام. وكلما اشتد عليها الخناق. فهي تسعى الى اختلاق وقائع تفرمل هذا المسلسل. والاعتداء يأتي في سياق انطلاق المفاوضات غير المباشرة تحت إشراف المبعوث الامريكي روبرت متشل. وتعثر هذا المسلسل لا يخدم الجناح المعتدل في المنطقة. على العكس من ذلك يزيد في إضعاف مصداقيته. لذلك فإن ما هو مهم اليوم هو ممارسة ضغط فعلي على إسرائيل من أجل الانخراط في مسلسل التفاوض بحسن نية. إذا تركنا هذه المعطيات التي ستحكم الديناميات المستقبلية في المنطقة، فإن الاعتداء على أسطول الحرية قد وضع في الواجهة مجموعة من الفاعلين الذين استأثروا بالاهتمام وبالتساؤلات حول سلوكهم، يتعلق الامر بإسرائيل المعتدية وبتركيا والولاياتالمتحدة والفلسطينيين الذين يتعرضون للاحتلال والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة. تبدو إسرائيل أكثر من أي وقت مضى معزولة دوليا بفعل الإدانة الواسعة التي واجهتها هذه الجريمة الجديدة. وأكثر من ذلك تعطي الانطباع بأنها مذعورة وتراكم الاخطاء في تعاملها مع جوارها. وربما يعود ذلك الى أن مسؤوليها لم يستوعبوا جيدا التحولات الجيوسياسية التي عرفتها المنطقة بعد نهاية الحرب الباردة. فإسرائيل لم تعد ذلك المحور الأساس في المنطقة ولا المدافع عن مصالح الغرب. الشرق الاوسط تعقد وهو يخضع لديناميات متباينة ولصعود فاعلين جدد منهم ما هو مؤسساتي ومنهم ما هو غير مهيكل. في سنة 2006 قادت إسرائيل حربا ضد حزب الله. وسجلت لأول مرة هزيمة حيث لم تحقق أيا من الأهداف التي رسمتها، بل انتهت بمقتل أكثر من أربعمائة جندي إسرائيلي. سنتين بعد ذلك قادت عدوانا على غزة بدعوى تفكيك البنيات التحتية لحركة حماس. وانتهى العدوان بالكثير من الجرائم التي أدانها العالم وأدانها تقرير غولدستون. ولم تفض الى إضعاف حركة حماس التي مازالت تسيطر على القطاع. منذ شهور نفذ الموساد الاسرائيلي عملية اغتيال ضد المبحوح أحد قادة حماس. وهي التي بينت كيف أن هذا الجهاز تصرف خارج قواعد القانون الدولي وخاصة منه الدبلوماسي. هذه التحركات المختلفة فندت مجموعة من الأساطير التي ظلت إسرائيل تروج لها من بينها تفوق الجيش الاسرائيلي ونجاعة جهاز الموساد. لكنها في نفس الوقت بينت أن إسرائيل ماضية في تقديم نفسها كضحية لإيران. وأن الآخرين يناورون ضدها. فكرة اسرائيل المطوقة بجوارها لم تعد تغري. فالأمن الحقيقي لأية دولة لا ينبع من الرغبة في السيطرة وتركيع الجيران، بل من السعي الى الاندماج في المنظومة الاقليمية بحسن نية وارتكاز على احترام حقوق الآخرين. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا بالانخراط في مسلسل التفاوض على أساس السلام مقابل أمن الجميع. ظهرت تركيا كفاعل نشيط في هذه الازمة. فبالرغم من كون هذا الأسطول مجهز من طرف منظمة غير حكومية تركية، إلا أنه نال قبول الحكومة التركية. ومن ثم كان من الطبيعي أن يحدث رد الفعل الاسرائيلي العنيف ضد مواطنين أتراك أزمة في العلاقات بين تركيا وإسرائيل. ربما على خلاف إيران التي تخيف سياستها الكثير من الدول. فإن تركيا تبدو وكأنها تتصرف بذكاء أكبر في سعيها الى البحث عن دور متميز في علاقاتها الخارجية. فهي عضو في الحلف الاطلسي وحليف للولايات المتحدة. أكثر من ذلك فإنها ظلت لمدة ستين سنة حليفا أساسيا لإسرائيل. وكانت هذه العلاقة تقدم كنموذج ممكن للعلاقة بين إسرائيل والعالم الاسلامي. على المستوى الداخلي يقدم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان نموذجا قابلا للتأمل لإمكانية التركيب بين الاسلام ا لمعتدل والحداثة بقبول لمجموعة من الخطوط الحمراء التي وسمت الدولة التركية الكمالية. على الصعيد الخارجي بدأت تركيا التي كان ينظر إليها على أساس أنها الحليف التابع في سن سياسة متميزة عن الولاياتالمتحدة. وتصب مجموعة من المؤشرات في هذا السياق. من فعلى مستوى الصراع العربي الاسرائيلي فقد سعت الى وساطة بين سوريا وإسرائيل. وهي التي أجهضت بفعل العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، وتذمر الأتراك من بشاعة الممارسات الاسرائيلية. وقد يكون هذا الشعور قد جعلها تتعاطف أكثر مع الفلسطينيين في القطاع من خلال التركيز على تقويض الحصار الاسرائيلي المرفوض إنسانيا وقانونيا. في نفس السياق فقد رفضت تركيا المقاربة الامريكية القاضية بفرض عقوبات على إيران. ومقابل ذلك سعت مع البرازيل الى الاتفاق المتعلق بالوقود النووي. ومن ثم التصويت داخل مجلس الامن ضد العقوبات الجديدة التي فرضت على إيران. في هذا الملف تتحرك تركيا للدفاع عن مصالحها. فهي تدرك من خلال تجربة العقوبات التي كانت مفروضة على العراق أن مصالحها تضررت. وهي لا تريد أن يتكرر نفس الأمر مع ايران التي تزودها بالنفط. هذا الدور التركي إزاء الشرق الاوسط وإزاء المحيط القوقازي والآسيوي لا يمكن أن ينفصل عن المعاناة التركية في علاقتها مع الاتحاد الاوربي. وتركيا تريد أن توجه رسالة واضحة مضمنها أنه بإمكانها التخلي عن الانضمام الى الاتحاد الاوربي طالما ان هذا الاخير مصر على إذلالها من خلال مفاوضات مسطرية لا تنتهي. لكن هذه الرغبة التركية في تجديد سياستها الخارجية لا تلغي التساؤل حول ما إذا كان الامر يتعلق بتغير هيكلي أم إننا أمام مواءمات ظرفية الهدف منها الهدف عن مصالح تركيا بفعالية ونجاعة أكبر؟ يطرح الدور الامريكي في الشرق الاوسط سؤالا حول قدرة الإدارة الامريكيةالجديدة على خلق التغيير الضروري بالمقارنة مع السياسة العنيفة التي نهجتها الادارة السابقة، والتي زادت من تأجيج المشكلات العالمية. وكان خطاب الرئيس الامريكي الموجه للمسلمين في القاهرة مؤشرا واضحا على محاولة العالمية. وكان خطاب الرئيس الامريكي الموجه للمسلمين في القاهرة مؤشرا واضحا على محاولة الادارة الامريكية التعامل مع تطورات الشرق الاوسط بطريقة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحولات والديناميات والتعقيدات المرتبطة بها. لكن من الواضح أن الرئيس الامريكي الذي يقترب من نصف حقبته الرئاسية ليس حرا بالكامل في تحديد سياسته الشرق الاوسطية. صحيح يبقى الهدف الاساس هو الدفع بالمفاوضات المباشرة للانكباب على القضايا الجوهرية، لكن ذلك يتطلب من الادارة الامريكية جرأة للضغط على إسرائيل من خلال تقديم ضمانات علي تقدم المفاوضات. تحاول الادارة الامريكية أن تتفهم الهواجس الامنية الاسرائيلية، لكن في نفس الوقت إعطاء الاهمية للاعتبارات الإنسانية، كما يبدو ذلك جليا حيال حصار غزة. فمازالت الإدارة الامريكيةالمتحدة على خلاف الأوربيين لا تطالب برفعه وإنما فقط بالتخفيف منه عبر بعض الآليات. نفس الامر فيما يتعلق بلجنة التحقيق. لكن الادارة الامريكية توجد في امتحان صعب حيث إن نتعثر المفاوضات والتصدع في العلاقات التركبة الاسرائيلية كل ذلك من شأنه أن يضعف من مصداقية الرئيس الامريكي أوباما وقدرته على تحقيق السلام في المنطقة. ضمن هذه التداعيات التي تشهدها المنطقة تبقى المصالحة الوطنية الفلسطينية عنصرا جوهريا وحيويا بالنسبة للفلسطينيين. فلا يمكن تكريس حالة الانفصام الحالية. لكن المصالحة ينبغي ان تقوم على مضمون سياسي يقوم على مناهضة الاحتلال وتدبير الاختلال بالطرق الديمقراطية، والأخذ بعين الاعتبار التراكمات التي عرفها مسلسل التسوية بإنجازاته وتعثراته. فلا يمكن أن نتصور تقدما في مسلسل المفاوضات بدون موقف فلسطيني موحد ومدعوم بمساندة عربية واضحة. من الواضح أن منطقة الشرق الأوسط دينامياتها وتعقد مصالح الفاعلين ستظل معرضة لتفاعلات جديدة ستحدد ليس فقط التوازن في المنطقة ولكن ستطرح على النظام العالمي برمته إشكالية التدبير العقلاني والعادل للمشكلات التي تطرحها بصيغ متعددة.