كم أحب هذه المدينة رغم عاهاتها المستديمة .. كنت لا أزال أتسكع في أرخبيل أحياء المدينة و دواويرها أطلب الليل الساتر للعيوب بانتشائه ..علني أعيش حياة افتراضية إلى حين .. أسترد عبرها شيئا من آدميتي المفقودة.. فالليل زمن الصبوة ولا ضير من الكبوة . فقد حان الوقت لأضحك ثانية على تفاهاتي وأجعل من نفسي موضوع سخرية لذيذ حتى أنشر الضحكة من حولي وأُعدي كل من يقترب مني بهستيريا الضحك.. هيأت نفسي لأفرد أشرعة الحلم كي أسافر في دواخلي عبر زمنٍ نفسيّ ، مادام زمن الأجرام يجتر ذاته في وتيرة سرمدية رتيبة.. كنت وطدت العزم لأسمو بتفاهتي الظليلة تحت فَيْء لا جدواي .. أتحسس الجيب لأقتني حلم ساعتين ونيف ، حين عنّ لي فتى لم تر عيني من قبل أوسخ منه.. أو رأته ولم أره .. كنت حينذاك أتأهب للجلوس على السور الدائري القصير المسيّج للنخلة الاستوائية المقابلة لبائع «الآيس كريم» لكنه سبقني وجلس .. خيشومه في كيس بلاستيكي ينتفخ وينقبض على إيقاع نفَسه .. مِلت عن وِجهتي وسرت أجتر أولى خيبات ذاك المساء .. بعد أن توالت الخيبات تباعا ذلك اليوم. صباحا وأنا في المقهى أتجرع فنجان قلق أسود وأملأ رئتيّ بجرعات من السرطان شنّف أسماعي خبر الاعتداء على سفن السلام المتجهة نحو غزة ، وقبلها كانت سيارتي ذات الخمس عشرة ضريبة قد أبت إلا أن تعكر مزاجي ..وما زال في جراب القدر مزيد .. في لحظة .. تذكرت سبب تواجدي هناك. ولجت مقهى على الناصية والتقيت بعمر صديقي في العبث والجنون .. لعنت نفسي التي تريد فقط أن تعيش حياة افتراضية .. كنت سأجلس أرقب الأجساد المنقوشة العابرة لشارع الأمير .. فهذا عهدي بنفسي منذ أن وجدتني بلا صاحبة .. تتمنع المدينة وترفض أن تجود علي بامرأة .. تحبني بكل جنون العشق وأتشظى فيها..أريدها أُماً فقدتها حتى من قبل أن أولد ..ابنة لم تخرج بعد من بين صلبي وترائبي،صديقة من جمهورية أفلاطون ،حبيبة من جيل الهبيزم ، طاهية أبرع من شميسة..أ تُراني أطلب المستحيل ؟ أ وَ لا يمكن أن أجد في هذه المدينة المليئة بالوجوه الذاوية امرأة واحدة تستطيع أن تزلزل كياني ..؟ أحببت دائما هذه المدينة رغم أنها تخذلني كل صيف ، وتماطلني كل شتاء، وتعلقني فيما بينهما حتى أنها علمتني العبث. قال عمر : خذ لك ..أما تملأ عيناك كل هذه السلع ؟ «لّي ما شرى يتنزه» قلت : أحتاج حبا وليس عهرا. قال شيئا آخر ولكنني لم أسمعه ، كنت أُسمع ذاتي صوتها.. قلت : لم نعد سوى رهائن لأصنام هذي المدينة التي تستفزنا، تسربلنا و تلحفنا، تبرجنا و تعرينا.. لا فرق بين شرقها وغربها كلما أعلنت غياب المعتزلة وحضور ذاكرة الموت.. وكلما أعلنت غياب الحياء وحضور الخلاعة و الرياء. وقفت و رحلت دون سابق وداع .. ثم ما لبت أن وجدت نفسي أسير وأنا أردد مقطعا حزينا في داخلي.. وجدتني أسير نحو سور المدينة القديمة وأردد مع الشاعرة التي أعيتها القوافي والدروب: أُشهدكم اليوم أني مازلت أجلس القرفصاء على فوهة مدفع فوق سور المدينة القديمة ألقي مرثيتي عن مدينتي وأتلقى التعازي من البحر.