إنه يغادر البيت في الصباح ولا يعود إليه إلا قبل غروب الشمس بقليل. بعد عودته، يتم تقديم وجبة الأكل إليه على مائدة لا يساهم قط في إزالة ما تبقى عليها من فُتات. فكلما أحس بقدومه، كان ذات الشعور الذي ينتاب أعماق قلبي، يراودني. وما أن يسدل الليل خيوطه، حتى أعلم أن الأمر نفسه سيعاد من جديد. مرات متكررة. نفس القوة، نفس الحرقة. نفس الألم، ونفس الحسرة. الباب الذي ينغلق، وقنديل الزيت الذي ينزلق على الارضية، والاغطية التي تنكمش.. «يا بنت!»، هكذا كان يناديني قبل ان ينقض علي. لم ينطق قط اسمي الشخصي. إنه اليوم الثالث الذي يوجه لي فيه ضربات. فهو لا يحتمل أن أحاول مقاومته. ما أن أحاول منعه من النوم إلى جانبي على الحصير مباشرة بعد أن انطفأ الضوء، حتى ينطلق في ضربي، أولا بيديه، ثم بعصى، كما الرعد او الصاعقة، مرات ومرات ووالدته تشجعه على ذلك. ـ واصل ضربها بقوة. يجب أن تنصت إليك! إنها زوجتك! ما فتئت والدته تكرر له هذا على مسامعه بصوتها... كلما اشتكت اليه مني. ـ يابنت، يردد وهو يلاحقني من جديد. ـ ليس من حقك، فعل هذا. ـ لقد أتعبتيني بمشكلاتك. إنني لم أتزوجك لكي اسمعك تبكين باستمرار، يقول هذا وهو يصرخ بملء فمه وأسنانه المصفرة تبدو للجميع. كنت أشعر بآلام كبيرة وهو يتحدث إلي بهذه الطريقة. كان يعاملني باحتقار في حضرة الآخرين.. كنت أعيش في خوف دائم من أن أتلقى منه الضرب و الصفعات. كان في مرات يحدث أن يوجه لي اللكمات.. كل يوم كانت علامات كدمات جديدة بادية على ظهري، وجروح جديدة بذراعي. وهذه الحرقة في بطني.. كنت أشعر أنني متسخة بكل مناحي جسدي. عندما كانت بعض الجارات تزرن حماتي، كنت أسمعهن يتحدثن فيما بينهن بصوت خافت، ويوجهن أصابعهن الي. ماذا لو عرفت ماذا يحكين عني؟ كلما سمحت لي الفرصة، كنت أتوجه إلى أحد أركان الغرفة وأنزوي كما كرة تائهة.. تصطك أسناني كلما فكرت في قرب حلول الليل. كنت وحيدة، وحيدة إلى حد كبير. لا أحد يمكنني أن أسر اليه بمكنوني، أو أن أتحدث اليه. إنني أمقته. أمقته من كل أعماقي. أكرههم جميعا. هل كل الفتيات المتزوجات يجب أن يعشن نفس المرارة. أم أنني الوحيدة التي عليها أن تعاني هذا العذاب؟ لا أشعر بأي حب نحو هذا الرجل الغريب. والدي ووالدتي كان الواحد منهما يحب الآخر. معه فهمت فقط المعنى الحقيقي لكلمة «القسوة». مرت أيام وليالي ، عشرة، عشرون، ثلاثون؟ لم أعد اتذكر بالتفصيل. كنت أحتاج مزيدا من الوقت في الليل كي أخلد للنوم. فكلما اقترب مني بالليل لكي يحدث بي أشياء، لا أقدر على استعادة النوم ثانية، أما طيلة النهار فإني أحس كما لو أني أعيش تيها. منهارة القوة، بدأت أفقد الإحساس بمفهوم الزمن. لقد افتقدت لسناء، وافتقدت المدرسة. وأيضا لإخواني وأخواتي.. لعبدو، مراد ومنى، رودة، مشاكساتهم ونكتهم... أفكر أكثر وأكثر في هيفاء، متمنية أن لا يزوجوها هي الأخرى. ومع مرور الوقت بدأت أفقد معالم وجوههم. وكنت أجد صعوبة في تذكر لون سحنتهم، وشكل أنوفهم... إنه حان الوقت كي أعود لرؤيتهم. كل صباح، كنت أتوسل اليهم كي يبعثوني لرؤية والدي. لم أكن أتوفر على أي وسيلة لأجل الاتصال بهم. فلا مكان للكهرباء في قرية «خراجي»، ولا مكان للحديث عن الهاتف. فهنا لم يحدث أن مرت يوما طائرة في سماء القرية، لا مكان للحافلة، والسيارات. كنت أود أن أرسل اليهم خطابا، غير أنه إذا استثنينا كتابة اسمي الشخصي، وبعض الكلمات البسيطة، لا أستطيع كتابة الشيء الكثير. لابد أن أعود الى صنعاء. بأي ثمن. اريد العودة إلى بيتنا. أهرب؟ فكرت في هذا الأمر غيرما مرة. لكن لكي أذهب إلى أين؟ لا أعرف أحدا في القرية. إذن كان من الصعب علي أن ألجأ الى أحدهم، أو أطلب من أحد المسافرين أن ينقذني بنقلي على ظهر أحد حميره.. «خراجي»، قريتي حيث ولدت، أصبحت بالنسبة لي بمثابة سجن.