هناك مصطلح فرض نفسه على أهل السياسة منذ أمد ليس بالقصير يطلق عليه (ديكتاتورية الجغرافية ) ويستعمل في الحالات التي يكون الموقع الجغرافي يتحكم أو يؤثر في المواقف السياسية. ولعل أكثر البلدان التي تخضع لهذه الديكتاتورية هي الدول المحاطة بعدد كبير من الجيران، ومن هذه البلدان فلسطين . ففلسطين تقع في قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي، مما يجعل عددا وافرا من الدول العربية والإسلامية تحاول أن يكون لها رأي في الشأن الفلسطيني، ويجعل السلطة الوطنية الفلسطينية مضطرة لأن تبدي الكثير من المرونة في التعامل مع هذه الدول، وتدفع ثمنا غاليا لكيلا تكون القضية الفلسطينية ورقة في يد هذه الدولة أو ذاك التحالف خاصة وأنه سبق أن اضطرت الثورة الفلسطينية لخوض العديد من المعارك ودفعت آلاف الشهداء من أجل الحفاظ على قرارها المستقل. ولعل ادولف هتلر هو صاحب نظرية «المجال الحيوي»أو أشهر من طبقها، حيث تشعر بعض الدول أن مكانتها لا تتناسب مع قوتها العسكرية أو الاقتصادية، فتتدخل سياسيا أو عسكريا في البلدان المجاورة أو القريبة منها خاصة إذا كانت هذه البلدان ضعيفة عسكريا. ومن يراقب الأوضاع الميدانية للشرق الأوسط، يمكنه أن يرى تطبيقا واضحا لمصطلح ديكتاتورية الجغرافية ونظرية المجال الحيوي في المنطقة ككل وفي القضية الفلسطينية بشكل خاص . فمنطقة الشرق الأوسط محاطة من الشرق بالجمهورية الاسلامية الإيرانية ومن الشمال بالجمهورية التركية، وهاتان الدولتان بدأتا بعد موت الملوك والرؤساء العرب الكاريزميين. وبعد تحطم القوة العسكرية العراقية وإسقاط القمم العربية للخيار العسكري، بدأت هاتان الدولتان تريان المنطقة العربية جزءا من مجالهما الحيوي، مع اختلافهما الواضح عن المنطقة حيث أن إيران دولة شيعية والمنطقة سنية، وتركيا علمانية وفق نص دستورها في حين أن الغالبية العظمى لدول المنطقة ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام. وتتشابه الدولتان في أن كلتيهما تحتل أجزاء من الأراضي العربية. وتصطدم رؤية هاتين الدولتين بوجود دولة الكيان الصهيوني التي تمتلك القوة العسكرية الأقوى في المنطقة والمدججة بترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والتقليدية، وهي الولد المدلل للقوة الأعظم في العالم الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تحميها سياسيا وتمونها بكل احتياجاتها. وتقوم هذه الدولة الصهيونية على أنقاض إحدى دول المنطقة وهي فلسطين، وتمارس دكتاتوريتها على مجمل دول المنطقة وتتصرف فيها كمجال حيوي لها. فهل تعني هذه المعادلة أن صراعا ثلاثي الأطراف دائرا أو سيدور في المنطقة ؟ وما هو دور دول المنطقة ؟ وما هو دور أبناء وجماهير المنطقة؟ وإذا بدأنا بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنها تبدو وفقا لوسائل الأعلام عدوا لكل من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودولة الكيان الصهيوني، ويتصور البعض بأن الولاياتالمتحدة تسعى لمنعها من إنتاج السلاح النووي لكيلا تهدد وجود الدولة الصهيونية وفقا لتصريحات الرئيس أحمدي نجاد ، وستوجه لها ضربة ماحقة مباشرة أو بواسطة الكيان الصهيوني. يقال هذا الكلام ويجد منابر إعلامية وشخصيات سياسية مأجورة تروج له رغم علمها بأن الحقيقة عكس ذلك تماما. فإيران تتعايش بشكل متفاهم عليه مع الولاياتالمتحدة في العراق دون حاجة إلى توقيع معاهدة عدم اعتداء، ويؤكد ذلك بشكل جلي ما صرح به وزير الدفاع الإيراني الأسبق علي شمخاني حيث قال بأنه «لولا العون اللوجيستي والمعلومات الاستخبارية الإيرانية لما استطاعت الولاياتالمتحدة أن تحقق أي نجاح في العراق أو أفغانستان . وتستفيد الولاياتالمتحدة من التصريحات النارية للرئيس الإيراني لتجعل دول المنطقة تشعر بالهلع فتشتري بكل ما لديها من أرصدة، أسلحة من الولاياتالمتحدة وتعطيها ما تريده من قواعد برية وبحرية وجوية . وفي اعتقادي أن إيران لا ولن تشكل أي خطر على الكيان الصهيوني ، وأنه ليس هناك أي إشكال بينها وبين الولاياتالمتحدة، وأن العقوبات التي عملت الولاياتالمتحدة على استصدارها من مجلس الأمن الدولي ضد إيران لا قيمة حقيقية لها، وأن أقصى ما تريده إيران هو نصيبها من قطعة الحلوى التي تشكلها المنطقة العربية. أما بالنسبة لتركيا، فإنها وكما قال رئيس وزرائها السيد رجب طيب أردوغان يوم 12 يونيو/ حزيران 2010 قد بذلت كل جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وأنشأ ت وزارة مخصصة للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي ومع ذلك فان «الاتحاد الأوروبي مارس سياسة عبث مع تركيا طوال خمسين سنة في ما يتعلق بانضمامها إليه ». ويؤكد هذا الكلام ما قاله السيد فرانكو فراتيني وزير خارجية ايطاليا في مقابلة مع صحيفة فرانكفورتر تسايتونغ الألمانية يوم 10 يونيه/ حزيران 2010 «اعتقد أننا نحن الأوروبيين ارتكبنا خطأ دفع تركيا إلى الشرق بدل جذبها إلينا. فقد أعطيناهم انطباعا بأننا لا نريدهم في الأسرة الأوروبية، فحولوا أنظارهم نحو آفاق أخرى تتصل بقوة إقليمية ». كما يؤكده أيضا ما قاله السيد روبرت غيتس وزير الدفاع الأمريكي يوم 9 يونيه/ حزيران 2010 في لندن «أعتقد بصفة شخصية أنه إذا كان هناك أي شيء له صلة بفكرة أن تركيا تتحرك صوب الشرق، أنه نتيجة دفعها من جانب البعض في أوروبا الذين يرفضون إعطاء تركيا العضوية التي تسعى إليها». ومازالت المواقف الفعلية لهاتين القوتين الإقليميتين تدور في إطار مقولة «أشبعتهم سبا وفازوا بالإبل ». فماذا قدمت إيران للثورة الفلسطينية أيام حصار بيروت ؟ وماذا قدمت للانتفاضتين الأولى والثانية ؟ وماذا قدمت لقطاع غزة الذي تحكمه حليفتها حركة حماس غير مبالغ مالية لا يستفيد منها سوى محسوبو حماس ليستمر حكمهم على إمارة غزة ؟ وبالنسبة لتركيا، هل أرسلت بوارجها لحماية السفن التي خرجت من موانئها باتجاه غزة ؟ هل ثأرت لشهدائها الذين قتلهم الصهاينة في عرض المياه الدولية وتحت سمع وبصر العالم ؟هل انتقمت لكرامتها التي أهينت في العدوان الأخير وقبله ما وقع للسفير التركي في تل أبيب ؟ إنني لا أجادل في أن من حق كل من إيران وتركيا أن تسعى لتحقيق مصالحها الحيوية والدفاع عن حقوقها. ولا أشك إطلاقا في أن الشعبين المسلمين في إيران وتركيا يتمنيان المساهمة في تحرير فلسطين من منطلق القداسة الدينية للقدس وفلسطين. ولكنني أرفض أن تعلو الأعلام التركية على أعلامنا في مسيراتنا التضامنية مع فلسطين وليس فوق فيالق المجاهدين الذاهبين لتحرير فلسطين ، وأرفض ما بدأ يتردد على ألسنة البعض بأن النصر قادم على يد أردوغان أو أحمدي نجاد مع تمنياتي أن يحدث ذلك فعلا يوما ما . وأرفض تحقير أو تناسي تضحيات شعوبنا العربية من أجل فلسطين واعتبار أن النصر والتحرير لن يتم إلا باللغة الفارسية أو اللغة التركية. كفانا تعلقا بالشعارات النارية التي لاتسمن ولا تغني من جوع لأننا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا. قد تكون الجماهير الشعبية معذورة إن هي صفقت لمن يقول بأنه يرفض الخضوع والخنوع في ظل عجز حكامنا حتى عن قول مثل ذلك القول. إن هذا الوضع يذكرني بما قاله الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى عندما وصف تعلق الجماهير العربية بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر: كنا جياعا للبطولة كنا عطاشا للرجولة فمتى نتمتع بقليل من الرجولة التي تستطيع صنع شيء من البطولة التي يمكن أن تعيد لنا شيئا من كرامتنا وبعضا من حقوقنا.. بدلا من انتظار الفرج من جهات لا يهمها أولا وأخيرا إلا مصالحها الخاصة.