تناول الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، في الأسبوع الأخير، إحدى أهم القضايا التي يمكن اعتبارها حاسمة بالنسبة للآفاق المستقبلية لتطور المغرب، ومدى قدرته على مواجهة تحدي المنافسة التي لا ترحم مع باقي الأمم، في عالم المعرفة والتعليم وتأهيل الموارد البشرية، على ضوء الثورة التي تعرفها التقنيات الحديثة في الاتصال. وقد ناقش المشاركون في الحوار هذه القضايا في ثلاثة أيام دراسية، تم تخصيصها لتدارس الآثار السوسيوثقافية لاستعمالات الانترنيت والتوجه المستقبلي للتعليم وآفاق المؤسسة الصحافية والإعلامية وتكوين الصحافيين وغيرهم من الفئات المتدخلة في المحتوى الإعلامي. وأثبتت المناقشات المعمقة أن القضايا متداخلة ومرتبطة بشكل كبير، حيث أن الاستراتيجية المستقبلية للتعليم لا يمكنها أن تتجاهل الوسائط الجديدة لتداول الصور الاخبار والمعطيات والمعرفة، والمتمثلة في شبكة الانترنيت وما تحمله من إمكانات لتبادل المعلومات والمعارف والترفيه و الحوار... إنه أفق مفتوح على العالم بشكل لم يسبق له نظير، ولا يمكن تصور حدود الفضاءات التي سيخترقها والوسائط التي سيخترعها باستمرار. وهذا ما يؤشر إلى أن التحدي الكبير الذي ستعانيه المدرسة، هو مدى قدرتها على التلاؤم مع هذه المعطيات الجديدة، لأن الدراسات تؤكد أن الوقت الذي يقضيه اليافع والشاب أمام الحاسوب، بما يتضمنه من مضامين ومحتويات، سواء علمية أو ترفيهية أو إخبارية وغيرها، يتجه لأن يكون هو المؤطر الأول، متفوقا على المدرسة وعلى الأسرة. وهذا ما يفرض على المؤسسة التعليمية أن تتموقع هي بدورها في هذا الفضاء، وأن تكيف مناهجها وأساليب تعليمها مع هذا الزخم من المعطيات والصور والتبادل المتواصل من خلال الشبكة العنكبوتية وما تتيحه المنصات الجديدة للبث والنشر... ومن المؤكد أن هذا سيقلب رأسا على عقب النموذج التقليدي للتعليم والتربية، في كل شيء، ومن أهمه أسلوب التلقين والدراسة والبحث وتكوين الكفاءات، بالإضافة إلى المنافسة القوية للعوالم المفتوحة والمتجددة، بما تحمله من قيم ومفاهيم وثقافات، وكذا استعمالات اللغات الأخرى، التي تفرض هيمنتها، وخاصة الإنجليزية. و إذا كان هذا يفرض على المدرسة أن تحدث تغييرات في مناهجها التربوية، وما يستتبع ذلك من أساليب بيداغوجية ومضامين وأدوات وموارد بشرية مؤهلة، وعلاقة جديدة مع المحيط الاجتماعي، فإن وسائل الإعلام سيكون عليها الاستجابة لهذه التحولات، على المستوى التكنولوجي، وعلى المستوى التحريري، لأنها ملزمة بأن تخاطب أجيالا شابة تربت على نموذج آخر، غير تقليدي، في الصحافة والإعلام. وهنا ينبغي البحث عن المحتويات الجديدة، التي تلائم متطلبات التعليم و المعرفة والترفيه التربوي، عبر الوسائط التكنولوجية الحديثة. وهذه مهمة لا يمكن لوسائل الإعلام القيام بها وحدها، بل إنها تقع على عاتق المفكرين والمبدعين ومنتجي المضامين الثقافية والعلمية والفنية والترفيهية... أي إنها تتطلب سياسة إرادوية واضحة، لتغطية الطلب المتزايد من طرف وسائط تحتاج إلى زخم مستمر من المحتوى الجيد والقادر على المنافسة، والذي ينبغي أن يكون مرتكزا بالأساس على المنتوج المحلي، المستمد من الثقافة العميقة والقريبة من القضايا اليومية والوجدانية للشعب، دون أن ينغلق على الثقافات الأخرى، بل يتفاعل معها. الواقع الحالي ينذر بصعوبات حقيقية قد نواجهها، سواء بالنسبة للنموذج التعليمي، ومدى قدرته على التكيف مع المعطيات المتوقعة في المستقبل، خاصة وأنه بالرغم من التطور المستمر الذي يشهده استعمال الانترنيت في بلدنا، إلا أن منتوجنا على صعيد المحتوى، يكاد لا يذكر. وتعاني من هذه المشكلة تقريبا كل الدول العربية، بنوع من التفاوت، غير أن ما يسجل في هذا الصدد هو هيمنة محركات البحث الكبرى في العالم، دون أن نتمكن من إطلاق استراتيجية لمعالجة هذا الموضوع، مع العلم بأن الشركات الدولية الكبرى، التي يهمها الربح بالأساس، لن تسعى إلى تطوير الجودة والثقافة المحلية، بل إنها ستبحث عن المضامين التي تنجح في قانون السوق، بغض النظر عن طبيعة المنتوج. إن ما أثارته الدراسات المقدمة في هذه الجلسات يفتح الباب على مصراعيه للتفكير في مستقبل التعليم، في علاقة مباشرة بوسائل الإعلام والتواصل، التي أصبحت، مع الثورة التكنولوجية الحديثة، معطى محوريا سيرسم آفاق انتشار الثقافة والعلم والمعرفة والدعاية والتأثير، ليس في عالم الاقتصاد والفن والسياسة، بل أيضا في كل الخلايا المجتمعية، وخاصة لدى الأجيال الشابة.