عندما يكون على المغرب أن يكون واضحا مع نفسه، لا يمكنه أن يتجاوز ما حصل من هروب إرادي من الانتخابات من طرف أزيد من ثلثي المغاربة. والثلث الذي شارك نصفه قاطع بالأبيض . نحن أمام صورة بالأبيض والأسود لشعب لا يرى أي ضرر في التنازل عن سيادته الاقتراعية. وهذا هو الأخطر في ما وقع سنة 2007 وما وقع في 2009 وما بينهما. لقد وجدنا أنفسنا مطالبين بتحليل ما وقع، وأمام كل معضلة يكون من الأسهل أن تصدّر أطراف اللعبة الأزمة إلى بعضها البعض، ويكون من السهل أن نلعب «التنس» أو«أزمة اليد» كما نقول كرة اليد أمام المعنيين. وغالبا ما يزيدون ابتعادا عنا وعن الدائرة التي يرسمها لهم المعنى الديمقراطي للسياسية. إنهم يخرجون من الدائرة لأنه دخلها فاعلون لا يرضون بهم ، وهم في ذلك يبادلوننا الرفض: عندما يدخل المال والسلطة والفاسدون والانهيار الاجتماعي للتعاقد السياسي والتفويض المدبر للسياسة، يخرج المواطنون ويعلنون رفضهم للعبة من أصلها. ويبدو أننا لا نعير ذلك اهتماما يليق بما نعيشه، وربما منا من يعتقد بأن أسلم ما نفعله في هذه الحالة هو أن نترك الوقت يلعب لعبته، ناسين بأن الوقت لا يخدمنا. ولأن الذين نتركهم خارج الدائرة، إما يتولاهم المتطرفون أو يتولاهم اليأس الاجتماعي، أو يحولهم المرتشون والفاسدون إلى احتياطي وأذرع للتسلط على الفضاء السياسي، بالرغم من محدوديته. من البسيط أن نتهم الأحزاب، هكذا بالجملة، ولا نتأمل المشهد في رمته. والمشهد في رمته يقول لنا بأن كل الأطراف المعنية بالسياسة دعت إلى المشاركة الانتخابية وكل الفاعلين، من المجتمع المدني إلى «المجتمع الفردي» لصانعي الرأي واستطلاعات الرأي، دعت إلى المشاركة، وكانت أكبر نقطة تستدعي منا النقاش والتأمل، بغير قليل من الارتعاش، هو دعوة ملك البلاد، ليلة الاقتراع .. إلى الاقتراع. ومع أننا كنا جميعا في هذه الباخرة أو السفينة، فإن الذي وقع وقع بالفعل وكان الخروج الجماعي من دائرة الفعل الانتخابي. هل لأن الذين اختاروا ذلك، ومنهم جزء كبير من الشباب، أصبحوا يعتقدون بأن المشاركة السياسية لم تعد تعني المشاركة في القرار الانتخابي، أو بلغة أخرى أن القرار السياسي لا يعني بالضرورة القرار الانتخابي، وبالتالي فإن الذي يمكن أن يكون سياسيا لا يمر بالضرورة بالتمثيلية السياسية؟ وفق هذه الحالة تكون الردة الفعلية إعلانا بأن الديموقراطية التمثيلية تعاني من تجدرها.. وعلينا أن نفكر في ذلك.. أم أن الناخب أصبح يرى بأن الطابع المؤسساتي بالكامل نزع عن الممارسة السياسية، وبالتالي لم يعد يرى بأن المؤسسات يمكنها أن تضفي أية قوة على العمل السياسي؟ هذان سؤالان لا يعفياننا من التذكير بأن الكثير من المؤسسات التي ارتبطت بالانتخاب، تعاني بالفعل من أزمة مشروعية، ومن أزمة تسويق ومن أزمة قوة .. ونجاعة. كما لو أن المراد هو أن كل مناخ ينبع من الاقتراع هو متسخ!! وهذه خلاصة جد خطيرة بالفعل.. والأخطر منها هو أن يشعر جزء كبير من شعب الديموقراطية التمثيلية بأنه تعرض للضرر من كل ماسبق منها.. لنتفق على أن الديموقراطية الذكية «تصنع مواطنين صعبي المراس، يصعب سياستهم» والديموقراطية الأخرى تصنع العكس، كما هو حال التلفزيون في ناحية من النواحي. ولهذا فإننا إذ نصنع مواطنين شرسين في الأحكام، نكون نصنع ديموقراطية ذكية. وهي مطالبة بالتفكير في صانعيها. والتفكير الوحيد هو أن تصلح من ذاتها وأدواتها. ومن هنا تكون الضرورة الكبرى إلى تنقية الشأن الحزبي، عبر تنقية الترسانة القانونية التي تؤطره. ونعني بالضرورة القانون الخاص بالأحزاب. فقبل أن تكون القضية قضية تشخيص، فإنها أولا قضية جبر الضرر:لقد تعرض الناخب إلى ضرر معنوي عندما استُعمل صوتُه ذريعة للمنتخبين للتنقل بين الاحزاب وبين الرموز. وعلينا أن نصلح ضررنا معنويا إزاءه. لقد تعرض الناخب إلى تسليعه، وهو في ذلك يشعر بأنه معروض في مارشي كبير، يوضع إلى جانب الزيت والسكر وأقل قليلا . وعلينا أن نجبر ضرره المعنوي بأن نوقف المهزلة. إن الناخب يشعر بأن جزءا من السياسة حوّله إلى مواطن غير مجد ولا نفع منه، لذلك يشعر بأن عودته إلى السياسة تقتضي عودة السياسة إليه: ليس بالنقد الذاتي للأحزاب، بل أيضا بترسانة لا تماري أحدا ولا تقف عند أي توازن معين.. وتبدأ من داخل الأحزاب بطرح السؤال الجوهري : كيف نختار مرشحينا وبأية مواصفات تجعل تعاقدهم مع المغاربة هو الذي يحدد بقاءهم، إما في دائرة الفعل الحزبي والفعل المواطن بشكل عام.. وكذا بترسيم حقيقي للأخلاق السياسية على كل المستويات من المرشح إلى المسؤول، إلى القاضي، إلى القيادات السياسية، إلى القيادات في القرار السياسي .. ترسيم يجعل بالفعل أن الأخلاق قد تتجاوز القوانين في بناء المواطن الصالح.. لشدة ما أكل الشعب المغربي في السابق من انتخابات مطبوخة، فقد أصبح خبيرا جدا بالمطبخ السياسي، ولشدة ما أكل السياسة النيئة، فإنه يشعر بأنه غير قادر على أن يهضم كل ما يقدم إليه الآن.. ولهذا فنحن لا نحتاج إلى طباخين مهرة، بل إلى أطباء أخصائيين في أجهزة الهضم..