رن الهاتف المرعب دائما في ذلك اليوم المصادف للفاتح من أبريل 2007. جاء الصوت، بعد الرد الذي أعقب ترددا متوجسا، حاملا خبرا مفجعا آخر: هل تعلم أن إدريس الشرايبي فارق الحياة في فالونس الفرنسية بمنطقة لا دروم؟ كان النبأ صحيحا إذ لا يمكن لعاقل العبث مع الموت لتزجية الوقت بمناسبة أكذوبة مطلع أبريل! قبل ثلاث سنوات إذن غادر أحد أهم مؤسسي الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية مجرة الحياة، غادرها بعد أن تحقق التصالح بينه وبين مجرة الأدب المغربي التي كانت قد فتحت ضده النار ونصبت له المشنقة إثر القنبلة التي فجرتها روايته البكر الصادرة سنة 1954 «الماضي البسيط» أو»الماضي المنقضي». احتفاء بذاكرة الراحل الذي وصفه فريد الزاهي بأنه «خلافا لبعض كتاب جيله، حافظ على قوته الإبداعية وسار بها إلى نهايتها بشكل فردي وشخصي، غير خاضع كما البعض لإكراهات دور النشر الفرنسية وإيقاعها والهالات المصطنعة التي تحيط بها البعض (1)، علما أنه كتب كل أعماله باللغة الفرنسية ونشرها في فرنسا (20 رواية ونصا سرديا ومذكرات) باستثناء الطبعة الثانية ل»من كل الآفاق» التي صدرت في المغرب بعنوان مغاير»أصوات أخرى»، مثلما صدرت له في بلده الأصل أربع حكايات موجهة للأطفال، احتفاء بذاكرة أب «المفتش علي» إذن، نخصص للغائب/الحاضر بقوة الإبداع ملف هذا العدد عبلر نشر ترجمة لمقتطفات طويلة ومنتقاة من كتاب «حياة بدون تنازلات، حوارات مع إدريس الشرايبي» الذي أنجزه الصحفي المغربي عبد السلام القادري والذي صدر عن منشورات طارق بالرباط سنة 2008. المقاطع المترجمة التي ننشرها في الصفحتين الثانية والثالثة من هذا الملحق هي عبارة عن آخر الحوارات التي أدلى بها إدريس الشرايبي، حواران مطولان أجراهما معه عبد السلام القادري في مقر إقامته بكريست الفرنسية في دجنبر 2004 وماي 2006. في هذه المقتطفات، لا يتبرم الشرايبي من أي سؤال، كما لا يلجأ إلى لغة الخشب واللف، بل يتسلح بما يلزم من الشجاعة للرد على كل علامات الاستفهام، ومنها تلك التي جعلته يغرد خارج السرب في مرحلة معينة من حياته الأدبية. يفتح الشرايبي النار ضد الذين أساءوا تأويل «الماضي البسيط» حين صدوره واتهموه بالخيانة والعمالة للمستعمر، مصرحا بأنهم لم يخلفوا شيئا آخر غير المال، «الفلوس»، الممتلكات المادية! مثلما يناقش، بجرأة وصراحة، قضايا الكتابة ولغتها،القراءة والثقافة، الفرانكفونية واللغة الأم،عزلة الكاتب وعلاقته بالقارئ، الموسيقى وواجب الشك،العلاقات العائلية وحب المغرب والمغاربة البسطاء، اللقاء مع أحمد المرزوقي وعشق الماء، بالإضافة إلى وصيته الأخيرة... هذه المقاطع المطولة من آخر حوارات الشرايبي، التي تنشر لأول مرة بالعربية، ستثير بدون شك سؤالا صعب الجواب متعلقا بتنكره ل»ماضيه البسيط» في مقال نشره في 4 فبراير 1957 بالمغرب (2)، وهي سابقة نادرة في تاريخ الأدب عالميا. لكنه، وبعد عشر سنوات من تنكره ل»ابنه الشرعي»، سيتسلح بفضيلة الاعتراف ويصرح: «أقر بأنني كنت في حالة ضعف حين تنكرت ل «الماضي البسيط». لم يكن ممكنا لي أن أتحمل ادعاء أن أكون متعاونا مع المستعمر. لقد كان علي أن أقاوم، أن أتحلى بشجاعة أكثر». وهي الشجاعة التي تتدفق في أجوبته التي يتضمنها ملف هذا العدد. - - - (1): أعمال ندوة «إدريس الشرايبي، سلطة الكتابة وسؤال الهوية»، منشورات اتحاد كتاب المغرب. (2) : لمزيد من التفاصيل أنظر مداخلة رشيد بنحدو المنشورة ضمن الكتاب المذكور أعلاه.