بين يوم وصوله إلى الدارالبيضاء في 14 ماي 1912 بعد تعيينه مقيما عاما لفرنسا في المغرب، ويوم مغادرته ذات المدينة في 12 أكتوبر 1925، استطاع أوبير ليوطي أن يطبع مسار مملكة الحماية وأن يهدي الجمهورية إمبراطورية. مؤخرا صدرت الطبعة الثانية من السيرة الشاملة التي خصصها أرنو تيسيي ل "مهندس المغرب الحديث"، سيرة نقدم للقراء عرضا لفصولها المتمحورة حول مغرب ليوطي. بعد الحصول على موافقة باريس على منح قرض جديد للمغرب والموافقة على عقود جديدة تهم السكك الحديدية، سيغادر ليوطي فرنسا ويعود إلى المغرب في شتنبر 1920 مثقلا بالأسئلة القلقة. لقد اقتنع بأن الأغلبية الحكومية المشكلة من «الكتلة الوطنية» عاجزة عن مباشرة الإصلاحات الكبرى التي يعتقدها ضرورية ومستعجلة. وفي ذات الآن، بدا له مستقبله في المغرب معتماً وبدون أفق، مثلما تمحورت الانتقادات حول شخصه وأفكاره وسياسته، لذا، أصابه سؤال المخرج المرتقب من هذه الأوضاع بالأرق. كان المقيم العام صادقاً بدون شك يوم صّرح، في الدار البيضاء، أمام الجالية الفرنسية بمناسبة اجتماع لغرفة الفلاحة: «لا أرى مانعا في البوح لكم، بكل صراحة، أنني، حين غادرت المغرب قبل خمسة شهور، كنت عاقداً العزم على عدم العودة. لقد خلفت لدي سنة 1919 بعض المرارة. إنني أشعر بنوع من الألم جراء الانتقادات المتواصلة رغم أنني أخصص لعملي كل وقتي وكل جهدي، وهي انتقادات تطال أيضا أفضل المساعدين الذين يعملون بجانبي». في 18 نونبر 1920، سيرسل ليوطي تقريراً حول حال ومآل الحماية، سيظل سرياً الى مطلع خمسينيات القرن الماضي. في تقريره هذا، يكتب المقيم العام: «لقد حان الوقت لتغيير وجهة النظر في سياسة الأهالي تغييراً جذريا، ومعها مشاركة العنصر المسلم في الشأن العام»، مستحضراً الوضع الجديد الذي أعقب الحرب وانتشار فكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها عالميا. ولم يتردد ليوطي، كذلك، في توجيه سهام نقده إلى محدودية ولوج النخبة المغربية الشابة الى مناصب المسؤولية في هرم إدارة الحماية. ومن جهة ثانية، فإنه سيقر ضمنيا بفشله، إذ تظل تعليماته مجرد «حبر على ورق» محذراً من كون الشبان المسلمين النشطاء، الذين يحرمون من العمل، قد يوظفون طاقاتهم المعطلة ضد فرنسا. لقد صار البون شاسعاً، حسب رأيه، بين إدارة الحماية ودواليب المخزن، مثلما أصبحت هذه الادارة تمضي في اتجاه «إدارة مباشرة» لشؤون البلاد، وهو ما يعارضه المغاربة بقوة. إن هؤلاء، يواصل ليوطي، ليسوا «لا همجيين ولا جامدين»، وشبيبتهم تتطلع إلى التعلم والعمل. «من المؤكد أنه، يضيف التقرير، إلى جانبنا وخارج سيطرتنا، تتخلق حركة فكرية وتنعقد اجتماعات وتبزغ تعليقات تقارب كلها الأحداث العالمية ووضع الإسلام. وسيأتي يوم تنظم خلاله هذه المستويات نفسها في إطار وتنتفض، وذلك إذا لم نأخذها بعين الاعتبار وإذا لم نبادر، باستعجال، للتحكم في قيادة الأمور». فكرة ليوطي واضحة ولا غبار عليها: منح النخبة المغربية «وسائل التطور» والاضطلاع بدور «الوصي» عليها إلى أن تدق ساعة «انعتاقها». لكن آلة الحماية تجاوزت الرجل نفسه، وصار «نسقها السياسي والاداري» قويا الى درجة العمل ب «استقلالية»، مما جعله ينفصل تدريجيا عن الواقع الذي يعيشه الأهالي وعن مؤسسات المخزن التي استحالت مجرد «ديكور» وفي الأفق المنظور ،يعتقد ليوطي، تتطلع النخب المحلية والشباب الى الاستقلال اذا لم يتغير وضع الحماية القائم. وفي 14 ابريل 1925 بمناسبة اجتماع لمجلس سياسة الاهالي بالرباط، سيوسع ليوطي دائرة تحذيره لتشمل باقي المنطقة، معتبرا أنه «بعد أمد قد يقصر وقد يطول» ستنفصل افريقيا الشمال عن فرنسا. ومن الواجب حينذاك ان يحصل الانفصال بدون الم وأن تظل نظرة الاهالي لفرنسا موسومة بالمودة. بعد حيازته رتبة مارشال (19 فبراير 1921) سينال المقيم العام هيبة و احتراما اكبر مثلما سيتميز تدبيره لشؤون مغرب ما بعد الحرب بسلطوية اعمق، لكن الى متى ستستمر خطوته هذه. ويكتسي السؤال مشروعيته من تقدمه في السن ومن حلول عهد جديد مغربيا، عهد المقاولين والمستثمرين. ولذا، وبعد مدة وجيزة. سيبدو المارشال متجاوزا ومنقطعا عن واقع مغرب يتطور بوتيرة متسارعة. وبموازاة تقدمه في السن، ستنتاب ليوطي عدة وعكات صحية هكذا، وخلال سفره الى باريس (صيف 1922 ) ستفرض عليه آلام الكبد ملازمة الفراش طوال اسابيع، مما سيحرمه من تسلم شارة المشيرية ابان استعراضات العيد الوطني الفرنسي (14 يوليوز ) وفي بداية 1923. اثناء اقامته بقصر بوجلود، في فاس، سيصاب بالتهاب خطير في الكبد، مما سيدفع العديدين الى الاعتقاد في وشوك انتقاله الى جوار ربه. اصابة المارشال هذه، سيصاحبها حدث لا يخلو من عجائبية، اذ سيقرأ المصلون «اللطيف» في المساجد الفاسية وفي البلاط نفسه، متوسلين من القدرة الإلهية شفاءه مثلما ستحتضن مدن البلاد الاخرى مظاهر تلقائية للتعاطف معه. وبعد تماثل ليوطي للشفاء سيطلب منه أهل فاس، للرد على تضرعهم الى الله، بأن يكون اول مكان يزوره، هو مسجد مولاي ادريس الكبير. و بالطبع سيستجيب لطلبهم، لكنه سيحرص، قبل ذلك على التوقف في مصلى المدينة الكاثوليكي، وكيف له فعل غير ذلك، هو الحريص منذ الأبد على الرمزية السياسية لكل أفعاله؟