بين يوم وصوله إلى الدارالبيضاء في 14 ماي 1912 بعد تعيينه مقيما عاما لفرنسا في المغرب، ويوم مغادرته ذات المدينة في 12 أكتوبر 1925، استطاع أوبير ليوطي أن يطبع مسار مملكة الحماية وأن يهدي الجمهورية إمبراطورية. مؤخرا صدرت الطبعة الثانية من السيرة الشاملة التي خصصها أرنو تيسيي ل "مهندس المغرب الحديث"، سيرة نقدم للقراء عرضا لفصولها المتمحورة حول مغرب ليوطي. في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن المرض بمفرده مصدر عياء ووهن ليوطي، بل كذلك الشعور بأن سلطته ما انفكت تغضب عدة أوساط، ليس في المغرب فقط، بل في فرنسا أيضاً، حيث كان يبدو لصحافة اليسار «مناهضا للجمهورية» وللأوساط اليمينية المعتدلة «مربكا». وحسب العديد من المؤرخين، فالمارشال انساق، في المراحل الأخيرة من تحمله مسؤولية الإقامة العامة بالمغرب، لشراك «أنوية مفرطة»، بل «لجنون العظمة»، وأصبح أسيراً لتجليات وفاء محيطه الزائدة عن اللازم، لعزلة الحكم ولمظاهر البلاطات، مثله في ذلك مثل جل القادة المتقدمين في السن. هذا، وستتكفل «حرب الريف» بدق آخر مسمار في نعش «ليوطي المغربي». هكذا، ويوم 12 أبريل 1925، ستشن ثلاث «حرْكات» من قوات عبد الكريم الخطابي هجوما ستهدد عبره مباشرة فاس وتازة، بعد انضمام عدة قبائل لصفوفها. لكن، وبما أن «المغرب الفرنسي» ليس «المغرب الإسباني»، فقد استقطب ليوطي قواد الأطلس وفرسانهم إلى خندق القوات الفرنسية. وبين أبريل ويوليوز، ستستمر المعارك حامية الوطيس بين الطرفين في غياب كبار قادة الحماية العسكريين الذين غادروا المغرب إبان الحرب العالمية الأولى، لكن ليوطي سيجد في الطيران المنبثق قوات ضاربة ستساعده في مواجهة انتفاضة الريف. وفي تلك الحقبة بالذات، غادر إدوار هيريو وزارة الخارجية، تاركاً مقعده لبول بانلوفي الذي كان مصراً على «ذهاب المارشال» وتعويضه بمدني على رأس الإقامة العامة. لكن وزارة الدفاع كانت، آنذاك، هي الوكر الرئيسي لأعداء «الأسد العجوز» الذي ظهرت عليه علامات «فقدان التوازن» لأول مرة منذ عشرين سنة. وفي رحاب مقر وزارة الدفاع، ستفك عقد الألسنة: ليوطي جاهل تماما بشروط الحرب الحديثة، لقد أرهق مساعديه، أعماه شغفه بالسلطة ونرجسيته المفرطة. ولم يعد مسؤولو وزارة الدفاع يترددون في إبراز وتسجيل تناقضات المقيم العام إزاء عبد الكريم الخطابي، التناقضات التي تعددت وتراكمت خلال الشهور الأخيرة حسبهم. وعلى مستوى آخر، لن تقدر باريس القوات الريفية حق قدرها، معتقدة أن انتصاراتها السالفة على الإسبانيين تعود أساسا الى ضعف هؤلاء الأخيرين، ولذا سترفض إمداد ليوطي بما طالب به من رجال وعتاد. سيستطيع المقيم العام «إنقاذ المغرب النافع» من زحف الثورة الريفية، بل إنه سيفكر في «الاعتراف بالجمهورية الريفية» لاستئصالهامن «مغربه»! وبالمقابل، لن توافقه القيادة العسكرية العليا في باريس الرأي، داعية إلى الحرب الشاملة قصد القضاء نهائياً على الخطابي. أجل، لقد تغيرت مقاربة فرنسا للحماية جذريا، حسب العديد من المؤرخين، وهيمن على صناع القرار بها منطق المعمرين والتوسع الإمبريالي «وفق النموذج الجزائري». معتنقو مبدأ «الحرب العصرية» سينتصرون على ليوطي، ويفرضون إرسال المارشال بيتان إلى عين المكان بذريعة أداء مهمة تفتيش، لكنه سيعين بسرعة قائداً عاما للعمليات الميدانية، مع منحه موارداً بشرية وعتاداً بحجم لم يسبق له مثيل. وهكذا، سيجد المقيم العام اختصاصاته منحصرة في تدبير «سياسة الأهالي»، وهو ما يعني تهميشه تدريجياً وعملياً. في شتنبر 1925، سيطلب المارشال، الذي استوعب الرسالة، إعفاءه من مسؤوليته بشكل رسمي، وكيف له غير ذلك بعد قرار الحكومة الفرنسية فصل القيادة السياسية عن القيادة العسكرية، أي إقبار روح وآليات نسق ليوطي القائم على وحدة الفعل العسكري والعمل السياسي؟ يوم 12 أكتوبر 1925، عقب جولة وداع استمرت عشرة أيام عبر ربوع «مغربه الحبيب»، سيتناول ليوطي آخر وجبة غذاء في الإقامة العامة بالدار البيضاء، ليلتحق بعدها مباشرة بالميناء مفعما بأحاسيس تمزج «الظفر بالجنائزية» وفق وصف أندري مالرو، الميناء حيث وجد في انتظاره باخرة «أنفا» وحشودا متراصة من الفرنسيين والمغاربة، ومن القواد القادمين من قبائل جد نائية. في قرية ثوري غير المعروفة، سيغادر ليوطي العالم في نهاية غشت 1934، ويوارى الثرى بها «مؤقتا»، قبل نقل قبره، حسب وصيته، إلى «مغربه»، قبره الذي تقول شاهدته: «هنا يرقد لويس هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا في المغرب ( 1925/1912 )، المتوفى في رحم الديانة الكاثوليكية التي حصل في إطار إيمانه العميق بها على آخر الأسرار المسيحية، والذي كان يحترم بعمق تقاليد الأسلاف والدين الإسلامي الذي حافظ عليه ومارسه سكان المغرب العربي». وشاءت صدف الحياة أن يستقبل المارشال، هناك في قرية ثوري، أسابيع قليلة قبل وفاته، ضيفا استثنائيا: سلطان المغرب، سيدي محمد بن يوسف، مصحوبا بابنه مولاي الحسن، وعمره حينذاك خمس سنوات، ومعهما رئيس البروتوكول، سي قدور بن غبريط. وكانت هذه الزيارة آخر استقبال رسمي لليوطي، آخر التفاتة للحياة.