إذا كان القرن الذي ودعناه قرن سبر أغوار الدراما بامتياز، فإنه بالرغم مما قدمته الدراما السينمائية العالمية والتي كانت تحركها بعض الإيديولوجيات، فإن شبه الفراغ الحاصل الآن على مستوى التناول الدرامي، جعلنا أمام إنتاجات عالمية تتناول أنماطا من السيناريوهات التي هي أقرب من الوثائقي منها إلى الدراما السينمائية وأصبحنا أمام إنتاجات عالمية تركز على فناء العالم وعلى كائنات ستقطن الأرض في المستقبل وأن مآل الإنسان بين كفي عفريت. أمام هذا الهول الذي تسعى تلك السيناريوهات تحقيقه، تبقى خطابات الصورة ذات فعالية: فكيف إذن نواجه مثل تلك الخطابات التي قد تغنينا على تصفح عشرات الكتب والبحوث؟ وبالتالي يبقى من حقنا أن نقول كلمتنا من منطلق خصوصياتنا، تم ما هي سبل مواجهة حالة الانفلات هاته التي يعيشها المشاهد المغربي جراء عدم استقراره كمتلقي على جهة بصرية تضمن هدوءه أمام زخم من القنوات الفضائية، وبالتالي تكرس خصوصيته الثقافية والاجتماعية.. مع التركيز على كل عناصر الجمال التي يجب أن تطبع ما سينقل له من صور؟. إن تشبث المشاهد المغربي بثقافة الوثائقي له ما يبرره، فهي تذكره بشيء من كيانه وفي كثير من الأحيان واقعه وصورته، تشبث يؤشر على تطور هذا الذوق ورقيه وأيضا اطمئنانه على ماقد يتضمنه الفيلم الوثائقي من حمولات ومشاهد تحافظ على تجمعه العائلي بواسطة الفرجة الجماعية العائلية.. إن هذا التشبث لا يوازيه تفكيرنا في خلق قناة وثائقية ببطاقة تعريف مغربية، إن كبرى قنوات الأفلام الوثائقية العالمية اليوم والتي تشد أنظار المشاهدين المغاربة حاليا شدا في المقاهي كما في المنازل، لن تثنينا عن القيام بنفس ذلك، لأن أغلب تلك القنوات شيدت نجاحاتها على الاستهلاك والاستيراد أكثر من الإنتاج، وهذا ليس عيبا أن نرى قناة وثائقية مغربية تنهج نفس النهج، بل إن الأمر قد يفتح لنا أبواب أخرى أكثر فعالية وأكثر جاذبية وإنتاجية وإبداعية وجمالية. إن من شأن إنشاء قناة وثائقية مغربية أن يفتح الباب أمام إنتاجات وطنية لمبدعين شباب من طينة مخرجي الأفلام الوثائقية والأفلام الوثائقية/الدرامية، وبالتالي سنكتشف عوالم من تاريخنا وجغرافيتنا التي مازلنا لم نفك طلاسمها بعد.. وطبعا بالاعتماد على ما هو مطمور في الأرشيفات التاريخية والطبيعية والأركيولوجية.. ولنا من الأفلام الوثائقية المغربية ومن المسلسلات الناجحة ما نحن محتاجون له اليوم أكثر من أي وقت مضى لنشاهده وتشاهده هاته الأجيال التي ضلت الطريق نعم طريق الخصوصية المغربية، إن من شأن إنشاء قناة وثائقية مغربية أن يجعل ثلة من مشاهدينا أن يولوا أعينهم وعقولهم بل وقلوبهم صوب هاته القناة التي ستنقل لهم عوالم الكون من منطلق ما هو إيجابي في العولمة وترمم لهم ما كان مشوشا من معارف وما يجهلونه، طبعا وهذا هو الأهم مساعدتهم على الرقي بمستوى تفكيرهم الذي سيكرس لديهم روح الوطنية والمواطنة والتبجح بالهوية المغربية وخصوصياتها والانتماء لها. إن نظرة من الأعلى على الحصيلة السينمائية لسنة 2009، لخير دليل على أن ثقافة الفيلم الوثائقي لم تجد طريقها بعد إلى امتلاك الثقة لدى المسؤولين على سياسة الدعم، وهذا طبيعي لأننا لم نبرح أمكنتنا كمستهلكين لهذا النوع من الفرجة، ديباجة القانون المنظم للمركز السينمائي لا تميز بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي الكل لديها سواء، الإشكال يظهر في كون هذا الجنس السينمائي لم يجد بعد طريقه نحو النجومية ومنحه الحق في التواجد، خصوصا إذا علمنا أن مخرج الفيلم الوثائقي المغربي لم يفرض ذاته ولم يجهز نفسه بعد لكي يكون في مستوى المتطلب، فبقدرما يتميز الفيلم الوثائقي بطابعه الثقافي والجمالي.. بقدرما لم يتكرس لدينا مخرج بمواصفات ثقافية وفلسفية تجعله يدافع عن حقائق ووقائع ذات أهمية تخدم الوطن كما المواطن، ولدينا من الباحثين وأساتذة علم التاريخ والجغرافية والفيزياء والأنتربولوجيا والأركيورلوجيا والجمال وغيرها من العلوم.. ما يسهل علينا امتطاء صهوة هذا الجنس الفني الراقي. خلو الحصيلة السينمائية لموسم 2009 من دعم لمشاريع أفلام وثائقية لا يعني أن هذا النوع الفني غير ذي قيمة، بل بالعكس من ذلك، إن مشاريع من ذلك النوع لم ترق إلى ما يستحق التنويه، ولكن لدينا اليقين أن التفكير في إنشاء قناة وثائقية مغربية سيكون له بالغ الأثر في احتضان مشاريع أفلام وثائقية مغربية، وبالتالي سنخلق أجيالا ربما ستكون محط ثقة جهات مدعمة عمومية أوخاصة.. إن النتيجة المتحصل عليها في نهاية المطاف أمام إنشاء قناة وثائقية وأمام ازدياد ثقة الجهات المدعمة، أولا الرقي من قوة وإشعاع ومساعدة مجموعة من الملتقيات والمهرجانات المهتمة بثقافة الوثائقي، من أجل انتقاء الأجود للتمثيلية أمام المشاركات الوازنة لضيوف يحملون ثقافات بحمولات وإيديولوجيات مختلفة هدفها وهدفنا الأسمى نشر ثقافة الحوار ونبذ كل أشكال التطرف الفكري طبعا عبر ثقافة الفيلم الوثائقي، وثانيا تبقى النتيجة المتوخاة في الأخير: تصحيح المسار ورأب الصدع أمام التصدعات التي يشهدها شبابنا أمام هاته الموجات البصرية التي لا تعترف بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.. رغبتنا جامحة في الأخير أن يزف لنا خبر إنشاء قناة وثائقية مغربية كما زف لنا بالأمس خبر خروج القناة الأمازيغية. حاجتنا إذن قوية في أن نشهد ميلاد قناة وثائقية مغربية تمزج مناصفة ضمن برامجها بين الإطلالة على حضارة وخصوصية الآخر وبين خصوصياتنا وهويتنا وتاريخنا الذي نحن في أمس الحاجة إلى استحضار أبطاله في كل لحظة وحين وإماطة اللثام على جزء من ذاكرتنا الوطنية ونفض الغبار عنها.