تشكل هذه الرواية إضافة أخرى في مسار الأستاذ محمد برادة الإبداعي، إنها الرواية الخامسة. والملاحظ أنها تأتلف وتختلف مع الروايات السابقة. تأتلف معها من حيث البناء والتوجه نحو تشخيص الحقيقة الاجتماعية. وتختلف أيضا من حيث البناء والتشخيص. تشخيص الغرابة: لعل أهم ما يميز هذه الرواية هو كونها تشخص بشكل ضمني الغرابة التي أصبحت مألوفة في التصور الاجتماعي.. والتي تتمثل في أداة ضمنية تنسل من وراء الصور الكبرى لسلوك الشخصيات وأشكال فعلها. وتتمثل أولا في حيادية المثقف تجاه ما يقع وتحوله إلى ذات مشاهدة تكتفي بتدوين ما تراه بحس فاتر. حيث يتوقف تدخلها في بلورة مواقف خفية تتشكل عن طريق اختيار الشكل واللغة, وثانيا في تدبير الفراغ الروحي وثقل الزمان الفارغ من الفعل التداولي، ذلك أن الرواية تطرح بشكل ما مشكل التوازن بين الروح والجسد والشعور بالموت داخل الزمن، وتحاول أن تجيب عنه بفضل مسار سردي يستلهم التأملات الفلسفية حول الجسد، ممفصلة السلوك الإنساني إلى سلوك غريزي مفارق للمعايير الاجتماعية المترسخة من قبل الثقافة، حيث يرتبط السلوك بالوحدة البدائية، بين الانسان والطبيعة ويتحقق في البحث عن الحالات القصوى للانتشاء؛ وبين السلوك المنضبط لللآوفاق الثقافية، التي تعيد الإنسان إلى النهج المترسخ منقذة إياه من التفسخ والتحلل والزوال رامزة بذلك إلى النظام والانسجام. وتطرح الرواية قضية التوازن خلال مسار عبد الجواد عن طريق المزاوجة بين السلوكين مع الحرص على تلطيف النزوع الغريزي المتحرر، الذي يدرك من وجهة نظر الحس المشترك الاجتماعي بوصفه مروقا . وذلك بجعله يبدو مجرد معادل مهيمن عليه من قبل السلوك الغريزي، وأنه فقط فعل خارجي موجه لخلق التوازن الداخلي لمغالبة الرياء والزيف والفساد الاجتماعي: «ثم تطرق إلى حياته وكيف أن تجربة عمره المديد أقنعته بأن الاستمتاع بالحب في إطار من السرية والحميمية هو ما يطيل العمر..»لكن من اللازم الإشارة إلى أن التركيب بين التوجهين متساوق مع الظاهر والباطن أو العلني والسري. انعكاسات الاستبداد وضغط الوضع الاجتماعي: تفلح الرواية أيضا في جعل صوت خفي ينهض من ثناياها ويتسيد في شكل همهمات تدين السلطة وتثبت تورطها في تحولات القيم عن طريق تواطئها مع الفساد وحمايته سواء تعلق الأمر بما هو سياسي أو اقتصادي، بدءا من إقصاء الوارثي أيام كان مدافعا عن الشرعية الملكية المقيدة بدستور يضمن حدا من مشاركة النخب السياسية، وصولا إلى رموز السلطة المتواطئة والمتحكمة في الحانات والحفلات والتي تسير تجارة الممنوعات. إن الرواية لا تظهر سوى شخصيات محبطة وضائعة دفعتها قساوة الواقع إلى الأعمال الممنوعة المدمرة إلى امتهان واضح أو خفي للجسد والكرامة ( ولد هنية / نعيمة).. بؤس المؤسسات: ثمة دليل أيقوني يستشف ويتصل ببؤس المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة المجتمع المدني الذي يتبدى فعله كما لو كان ألعوبة للفرجة وحسب « أشعر أن صهيل الخناجر الهادرة المستنهضة للهمم هو مجرد رشاش مطر سرعان ما يمتصه الرمل من دون أن ينبث شيئا. وأجدني أتحول إلى متفرج محايد وأنا أتابع معارك كلامية خيوطها موصولة بمراكز متخفية تتولى تحريك ما يشبه الدمى تلافيا لخواء ساحة الفرجة.» ص 22 حيث التأشير الواضح على عدم وجود دور يسلم مما هو مرسوم في الخفاء من قبل مؤسسات خفية.أما مؤسسة الأسرة التي تغيب في الرواية، فتقابلها إمعانا في تشخيص تراجع حضورها سيادة العلاقات العابرة أو شبه العابرة. إذ لا يحضر الزواج، على خلاف ما تؤمن به المحموعة الاجتماعية وتسنه، إلا عرضا بوصفه إضفاء الرسمية على علاقة سرعان ما تنفصم دون مبررات وجدانية.. ونفس الصنيع يطال مؤسسة الدين، التي تبدو من خلال سلوكات الشخوص غير ذات تأثير، على الرغم من كون أثرها موجود بقوة، ليس فقط من خلال المرجعية اللغوية بل من خلال طقوس البعض كما هو الأمر مع الوارثي. ولتلطيف هذا التوصيف تصر الرواية أن تفصل من خلال خطاب الوارثي بين الإيمان والتدين، حيث تعالجهما في مستوى عميق جدا ومجرد.. وهي معالجة تشكل سمة عامة تجعل من الرواية خزانة لمناقشات معمقة وتحيل قراءة التخييل إلى قراءة تثقيفية، ومن خلال كل ذلك تفلح الرواية في فك الرمزية عن السلطة الدينية ورموزها، مع العمل الواضح على تشويهها قياسا إلى ما تؤمن به المجموعة الاجتماعية.وتساهم هذه العلاقات في تشخيص عميق ودقيق لتطور المجتمع انطلاقا من تشخيص الوعي الأنثوي بالذات والعالم، بناء على تجربة تنمو وتتخلق في الزمان كما يعاش (نعيمة في علاقتها بالعالم انتهازية تحول جسدها المتروك للآخرين إلى قنطرة لتملك موضوعاتها التداولية (وقد تكرر ذلك مع كمال والطوسي وحتى مع ولد هنية). بعيدا كل البعد عن كل قيمة يؤمن بها المجتمع الذي تنتمي إليه, ومن جهة ثانية، تشخص الفعل المتصالح مع السلطة انطلاقا من التثمين بوصفه تقييما لمسار مع تلطيف الموقف المتصالح بناء على محدودية فعل الذات في التغيير أو المساهمة في اتخاد القرار. الشيء الذي يؤشر على أزمة قيم وأزمة أخلاق ( السائق المتقاعد يتحول إلى مهرب مثلا..) وهو فعل يؤشر أساسا على فقدان الفرد لمبادئ كلية جمعية وإيمانه بألا دور له, وقد ترتب عن ذلك سيادة خطاب التبرير (نعيمة تبرر الخلاعة وعبد الجواد يبرر بالتوافقات السياسية وولد هنية يبرر بضغط الواقع...) الميتا سرد وفك الرمزية عن الكتابة نفسها: من الملحوظ أن «حيوات متجاورة» تستعيد لعبة الميتا سرد التي جربها الأستاذ برادة في روايته الأولى « لعبة النسيان»، إلا أنها تقوم هنا بوظائف مختلفة، تتجاوز تعرية أسرار الكتابة وكشفها أمام القارئ، وإدماج آليات التوصيف الشكلاني لقراءة النصوص السرية في بناء النص وصوغ تحبيكه و التأثير على معناه، إلى التمويه على المرجعيات الفعلية التي يؤشر عليها النص بقوة. وأيضا ?لى إدماج الكتابة نفسها في نسق التشويه الشامل الذي تمارسه الرواية، وذلك واضح خصوصا من خلال التقابل الموجود بين الحكاية الخاضعة لأسلوب كتابة الرواية ونظيرتها الخاضعة لكتابة السيناريو، حيث التشويه ملموي ومقصود بجلاء،وبذلك نفلح الرواية في القبض المتماسك على جوهر خفي يحكم التفسخ القيمي المشخص لمسيرة من الانحطاط المتعدد الصور الذي تفروه حركة تطور عارية من القيم والأخلاق والمبادئ. من مذكرات السارد - المسرود له هذا الأسبوع، وأنا عائد من باريس حيث شاركت في ندوة: «صورة الآخر في الآداب العالمية»، نسجت الصدفة حديثا بيني وبين مضيفة جميلة، اسمها نعيمة آيت لهنا، فلم أتردد في أن أغازلها، تاركا لها رقم الهاتف. في الواقع، منذ المراهقة، كانت صورة مضيفة الطائرة تسكن مخيلتي، متدثرة بحواشي الفتون والشهوة الجامحة. تندرج المضيفات، عندي ضمن خانة الجمال المكتفي بذاته، الذي لا أجرؤ على أن أخدشه بمغازلة أو كلمات إعجاب. أستشعر، قبل البدء، أنها ستبدو فاترة، دون مقام من تخاطبه. هذه المرة، يعود الفضل في ربط الصلة بنعيمة، إلى الغفوة التي خطفتني وإلى رواية سيمنون الطريفة التي فكت عقدة لساني وأمدتني بعناصر للغزل غير المباشر. آمل أن تتصل نعيمة ليهنأ الجسد المستثار. (...) عندما اتصلت بي نعيمة آيت لهنا في الأسبوع التالي، أحسست أنها ستكون تجربة مختلفة المذاق. وكان لابد من طقوس مختلفة، وعشاءات حول الشموع، وحرص على أن أكون حاضر بمجموع الحواس والامكانات تطلعا إلى تحقيق الإغواء والافتتان... في الفراش كان الجسدان في أوج التفتح لاستقبال العطاء والغوص في مسالك اللذة:لذة أحسستها مختلفة. لعل ذلك بسبب التواطؤ الذي تناسج عبر أحاديث حفها الالتباس وجعلها تقف على الحدود بين الاشارة والافصاح. وبالتدرج أخذ اللقاء يتم حول صورة تجعل المغامرة متخلصة من الحسابات، ومن ما هو آت بعد اللحظات المشرقات. المشعلات للجسد ولما هو خارج الجسد. (ص:19/20) لفت عبد الموجود الوارثي نظري من خلال بعض المقالات والدراسات التي كان ينشرها في الصحف والمجلات عقب الاستقلال، كان يجمع فيها بين المعارف بمقاصد الشريعة والتأويل المنفتح الذي يقرب الدين الصحيح من العقل والتحديث ومناصرة حقوق المرأة، وكانت كتاباته لا تلقي التحبيذ عندنا نحن الشباب عنذئذ، لأننا كنا نعتقد أن الدين هو في جوهره علاقة بين الفرد والله، وأن الإيمان لا يجب أن يخضع لمراقبة الفقهاء والمحتسبين، وأن ماهو مستعجل هو تغيير الهياكل والنظام السياسي للانخراط في العصر الخ... منذ أربع سنوات، صادفت على قناة الدوزيم حوارا مطولا مع الوارثي شارك فيه صحفيون من اتجاهات مختلفة، وطرحوا عليه أسئلة تتصل بتجربته في السلطة على امتداد ثلاثة عقود، وهل هو راض عن أدائه ومواقفه الآن بعد أن بدأت بعض الحقائق تظهر عن زمن الرصاص، وروائح قضايا كريهة تفوح؟ أجاب الوارثي في نوع من الحدة بأنه لم يتوان عن نصح ذوي السلطان وتنبيههم إلى الأخطاء وأنه غير مسؤول مباشرة عن الخروقات المباشرة وأنه سجل كل ذلك وسيظهر في كتاب... ولما سأله أحد الصحفيين لماذا لم ينشر تلك الانتقادات في حينها لتبرئة ذمته، أجابه: كل رأي رهين بمقامه، والناصحون سواء كانوا رجال دين أو مؤرخين، إنما يتوجهون إلى المستقبل. وأضاف: ثم إنني أعرف حدودي و«الملاغة مع المخزن صعيبة». (ص: 99/100)