تغريك الطريق الرابطة بين سطات وجماعة بني خلوق المتواجدة في النفوذ الترابي لدائرة البروج قبل أن تعرج على جماعة «كيسر»، فالخضرة تملأ الأفق والورود تملأ الجوانب يمينا ويسارا، مما يجعل بني مسكين في أبهى حللها وكأنها تستعد بلباسها الجميل للاحتفال بعيد المولد النبوي. لكن الواقع لا يرتفع بعد أزيد من 50 سنة على الاستقلال، والذي أدت فيه هذه القبيلة المجاهدة ثمنا باهظا. فبعد أن تمر على قوس لا يحمل أية إشارة للمكان أو الزمان، عليك الحذر جدا، لأن الطريق كلها أعطاب، ولم تعرف إصلاحا منذ شيدها المعمر ولاهم يحزنون. على بعد أمتار تجد نفسك وسط ما يطلق عليه ظلما اسم مركز الجماعة، حيث عدد من المحلات التجارية محاصرة بفعل مخلفات مياه الأمطار، سلكنا إليهم بصعوبة. تبدو عليهم آثار الغضب والحزن من مآل جماعتهم التي قادها «الرويس» «اللي كاين» منذ 33 سنة خلت. التجارة أفلست والمركز لم يعد قابلا للحياة فيه. بل أضحت فقط قاطرة مرور ليس إلا، لحافلات تتجنب المركز لتمكين أبناء المنطقة سواء من النزول أو السفر لمناطق أخرى، في حين تظل الطاكسيات جامدة مكانها تنتظر راكبين قد لا يأتون. نتقدم من (س.م) سائق سيارة أجرة.. «راحنا غير مستاسيونين، ماكاين ما يدار، المركز ماتت فيه الحركة»، الحركة الميتة يجسدها السوق الأسبوعي «اثنين بني خلوق» الغارق في الأوحال، لم يأته لا التجار ولا المتبضعون. دخلناه من الباب الخلفي .. اضطررنا لترك السيارة والترجل في ظروف صعبة.. تجاوزنا الأوحال بصعوبة مباشرة نحو سوق المواشي، حيث الروائح النتنة تستقبل الزوار، وجدنا شيخا من ذاكرة المنطقة: »فينكم أولدي وفين السوق، شوفو الحالة واش الإنسان يقدر يدخل هنا»، الوضع أشبه بأرض معركة، حيث لا شيء غير الركام والأزبال والروائح النتنة، ونحن نتوغل داخل السوق وجدنا ما يطلق عليه بالمجزرة، وهي عبارة عن صندوق محاط بسور لا يتوفر كباقي المنطقة على قناة للصرف الصحي، وبمحاذاته بحيرة حمراء عبارة عن دم أحمر قان تنبعث منه رائحة كريهة علق عليه أحد مرافقينا «هذا راه الدم المغدور ديال المنطقة والسكان». إنه فعلا دم مغدور بدون حسيب ولا رقيب، ومنطقة بني مسكين تنزفه منذ سنين بلا حسيب أو رقيب، وأمام مرأى ومسمع من العيون التي يفترض أنها لاتنام حرصا ووصاية على الشأن العام المحلي. نصل الباب الرئيسي بعد أن لم نجد لا حارسا ولا أي مسؤول بالسوق قصد الحديث إليه. نصل البوابة حيث عدة براريك متناثرة هنا وهناك. وهذا الباب له طعم خاص، فالناس تعرفه أكثر من السوق، لا لجماليته وحسن تشييده، ولكن لأنه يحتضن «الميزان» و ما أدراك ما الميزان في بني خلوق، إنه مجرد اسم و ذكرى حبيب خرج ولم يعد، وترك في قلب الساكنة غصة وألما كبيرين. تحكي الرواية إنه في إحدى السنوات القليلة الماضية قرر المجلس اقتناء «ميزانّ» يوضع في مدخل السوق لإقامة العدل في الوزن، ولكن يشاء قدر بني يخلوق أن يختفي الميزان من مكانه منذ سنوات دون وداع للساكنة. ويحكى فيما يحكى أنه الميزان أعيد إلى الرباط من طرف الشركة المالكة له، وهناك من يقول بأن اختفاءه كان من أجل الإصلاح، وهناك من يقول بأنه حمل لكي لا يعود، لأن المجلس لم يؤد ثمنه.. وبين هذا وذاك لا يمكن أن تعثر على الحقيقة في بني خلوق، لأن الرئيس الحالي منذ ثلث قرن«لا يؤدي الحساب إلا أمام المجلس الأعلى ولجان الداخلية والمجلس الجهوي والتي وحدها يمكنها حل هذا اللغز»، والكلام عن الحساب نقلناه بأمانة عن «الرويس» خلال جلسة الحساب الإداري لدورة فبراير، وهو كلام على أية حال يمكن قراءته على ضوء تدخل قائد المنطقة في ذات الدورة و التي تحدث عدة مرات «عن الانتقال بهذه المنطقة»، مما يعني رسميا أن الانتقال داخل هذه الجماعة لم يواكب الانتقال الديمقراطي الذي انطلق بعد مخاض عسير في هذا البلد سنة 1998، و ربما هو الأمر الذي جعل رئيس هذا المجلس سباقا في إعلان استقلال منطقته عن باقي التراب الوطني وعن وصاية الداخلية بعد أن وزع وثائق يضمنها هو شخصيا وبشكل شفوي فقط. إنها فعلا ثقافة «كاين غير رويس واحد». تترك الميزان وعلاقته بالانتقال، حيث بني مسكين تنتظر الميزان،«آه ياوين الميزان» كما يتغنى بذلك جيل جيلالة الذين يبدو أنهم استحضروا ميزان بني خلوق عند تسجيل هذه الأغنية الخالدة «الميزان». لكن يبقى من حسنات الميزان أن الجماعة لا تتمكن من استخلاص رسوم الدخول لغيابه، بجوار السوق يوجد مقر الجماعة والمقاطعة الحضرية المتجاورين تحتاج إلى زورق للولوج من الباب الصغير، لأن الباب الرئيسي يستعمله «الرويس» لركن سيارته وفقط. على الجانب الأيمن يوجد »هنكار« حول إلى مسجد لا يتوفر على صومعة وعلى أية تجهيزات، فحتى حرمة الصلاة تصبح موضع شك. بجانب نفس «الهنكار» هناك بناية آيلة للسقوط ومسيجة، لا يعرف لماذا تصلح. نتجاوز المدخلن نصعد الطابق الأول، حيث قاعة الاجتماعات بداخلها مرحاض ومطبخ صغيران وعدد من الكراسي بالإضافة إلى طاولة يتحلق حولها المستشارون المجتمعون.. تبدو الأسوار مبرقعة نتيجة الرطوبة وغياب الصيانة، علق أحد المستشارين «راه من دورة لدورة عاد كا نجيو..» وحتى عندما أتت الدورة خيم الصمت لساعات ما بين مطلب «عطينا الوثائق نعرفو فلوس القبيلة فين مشات» وما بين «لا اسيدي ماعاطيش«، والقائد الذي طلب من المعارضة - الأغلبية 12 ضد 4 «سيرو عند الجهات الوصية وهنيوني...» كان رئيس الجلسة في كل مرة يطلب التقدم في دراسة جدول الأعمال، لكن المستشارين تشبثوا بتصحيح الخطأ في الحساب الإداري وتشبث كل برأية، وكان القائد في كل مرة يتصل بجهات ما للإبلاغ بالمأزق ثم يعود إلى مكانه قبل تنبهه جهات ما ليأخذ الكلمة «معانا شي صحافيين اهنا في القاعة». تقدم الصحافيان عن «ليبراسيون» و«الاتحاد الاشتراكي»، «أشنو رأي المجلس، إيه! اسيدي يبقاو معنا»، وهو مارحب به الحضور الغفير في القاعة مع تصفيقات حارة مرحبة. في حدود الساعة السابعة، ألح علينا عدد من الواطنين أن نرافقهم في جولة للمشاريع المهدورة بالجماعة. وبعد إلحاحهم لبينا طلبهم، وغادرنا قاعة الاجتماعات. أول ما قصدناه حمام تابع للجماعة سجلت مداخيله صفر درهم، وهو فعلا تحول إلى مكان مقفر لايتوفر على باب، وبداخله كتبت عبارة «شوف واسكت»، وربما عبارة تكفي بما يريد السكان قوله. فالنظافة لم تعد هنا من الإيمان في بني خلوق، لذلك لا داعي للحمام، لأن فيه هدر للماء وللخشب. أو ربما أن «الرويس» يحب السفر لأهل المنطقة إلى أقرب مركز للاستحمام، مما يتطلب من المجتمع المدني المطالبة ب «تقريب الحمام من المواطنين». غير بعيد عن الحمام بناء مستطيل محاط بسور وبباب علاه الصدأ. إننا أمام ملعب أنشئ منذ سنوات ولم تطأه أي رجل ترغب في ممارسة هواية الجري أو مداعبة كرة مليئة فقط بالهواء. أحد مرافقينا تهكم عن هذا الوضع قائلا:« إلا الرياضة كانت ممنوعة، يجب السماح بالرعي في الملعب»، وفعلا الملعب مليء بالأعشاب الطفيلية التي استوطنت مكان الشباب وساكنة المنطقة. وربما هذا من الملاعب التي يحق لبلخياط أن يبيعها، لأنها تشكل نزيفا ماليا وتضييعا للأرض ليس إلا. وبارتباط بنفس الموضوع تأكد أن المنطقة لاتهمش الشباب واليافعين، بل حتى الأطفال في عمر الزهور شيد لهم روض عبارة عن سياج حائطي بدون بناية، في حين رصدت ميزانية لذلك في الوقت الذي تحتاج الطفولة إلى رعاية، وحتى القطاع الخاص يحارب، إذ حاولت إحدى النساء إقامة روض، لكن «الرويس» لم يرخص لها، ليظل الأطفال هناك، وحتى إشعار آخر ضمن أولويات الجماعة، التي جعلها المشرع رافعة للتنمية. وبعد الحمام، الملعب وروض الأطفال جاء دور المكتبة، أي نعم المكتبة بناية صرف عليها من مال اولاد بني مسكين وظلت تقطنها الغربان، حيث لم يكتمل بناؤها، ولازالت عبارة عن أسوار تهدها عوامل الطبيعة يوما عن يوما. في انتظار فرج يبدو صعبا في القريب، وإلى أن تحط الكتب رحالها ببني مسكين نتمنى للجدران أن تظل صامدة، فربما قدر الثقافة والكتاب يحتاج إلى أكثر من معالجة. وليس هذا بغريب عن جماعة لاتأتيها الجرائد إلا مساء وتباع بثمن خمسة دراهم، أي والله، خمسة دراهم، لأنها يتطلب نقلها عبر حافلة وأداء مقابل ذلك.. وهذا إمعان في حصار ثقافي وإعلامي مضروب بقصد عن المنطقة الغنية بالطاقات الشابة والمثقفة، وكذا المغاربة المهاجرين الذين يودون المساعدة في بناء قبيلتهم وبلدهم. وتبقى آفة الآفات هي تلك المسماة حديقة والمجاورة لمقر الجماعة، وهي عبارة عن أسوار تحولت إلى كمائن تحصد أرواح الأطفال، حيث قضى طفلان حتفهما نتيجة سقوطهما على الأعمدة المسننة، بالإضافة إلى عشرات الإصابات بجروح. لا أحد من مرافقينا تمكن من حل لغز هذه الحديقة: «واش عشرين مليون باش نديروا نبال لقتل أبنائنا.. تحتاج أرواح المتوفين رحمهما الله والمعطوبين شافاهم الله إلى فتح تحقيق بسيط حول هذه الحديقة القاتلة وحول المبلغ الحقيقي الذي أنجزت به ولو من باب الاحترام للموتى». وهناك شكايات من طرف إحدى جمعيات الآباء تحذر من خطورة هذه الحديقة، عفوا من نبالها القاتلة، أحيلت على المعنيين، لكن لا حياة لمن تنادي حسب مرافقينا. بعد هذه الجولة القصيرة، حيث اكتشفنا أننا نصارع الظلام الدامس، إذ تشتعل ثلاثة أعمدة كهربائية لا تكاد تضيء حتى نفسها، عدنا مكرهين إلى مقر الجماعة لمتابعة أطوار الدورة العجائبية، و التي استأنفت أشغالها على الساحعة السابعة مساء، بعدما سجلت السلطة ملاحظات الأغلبية - المعارضة، حيث قدم «الرويس» تقرير مقتضبا تلته مناقشات عميقة لمضمون وثيقة الحساب الإداري ولو في ظل غياب وثائق، حيث سجلت عدة ملاحظات بشأن عدد من النفقات، منها مشكل الأعلام الوطنية، والذي خصصت له أربعة ملايين سنتيم رغم أن عدد المقتنيات منها قليل، والعارفون بأثمنة هذه الرايات يقدرون أن هذا المبلغ يكفي لملء سماء بني خلوق بآلاف الأعلام على امتداد شوارعها، كما أثير مشكل الوقود، الذي خصصت له 12 مليون سنتيم، رغم أن الجماعة لاتتوفر إلا على سيارة واحدة، وسيارة إسعاف يؤدي المواطنون 200 درهم مقابل الاستفادة من خدماتها، حسب ما أفاد بذلك أعضاء المعارضة، الرافضين للحساب الإداري، وكذلك شاحنة صغيرة، كما شكك الاعضاء في المبلغ المحدد لكراء الآليات، مؤكدين أنه لم يتم الاشتغل بأية آلية، وكذلك المبلغ المحدد للاستقبالات، و الذي حدد في مبلغ 27 ألف درهم، رغم أن الجماعة لم تستقبل أحدا. ملاحظات خطيرة سارت إليها المعارضة، اكتفى الرئيس في عدد من الحالات بالرد «طاحت في الماص»، حيث سجل أن مداخيل الملك الغابوي صفر درهم، رغم بيع الأخشاب ووجود جمعية تكتري حق الصيد هناك، ومع ذلك فقد سجل صفر درهم، كذلك سجلت مداخيل الحمام صفر درهم، في حين لم تستخلص حوالي 14 مليون، نظرا لما اعتبرته المعارضة بسوء التسيير، و حتى الأعضاء غير مؤمنين كما ينص على ذلك القانون، وآثار موضوع الأعوان العرضيين نقاشا كبيرا،إذ التهم 5 ملايين سنتيم، في حين يؤكد المستشارون عدم وجود أي موظف من أبناء المنطقة.. عديدة هي الأرقام التي أثارت حفيظة المعارضة - الأغلبية، وأدت بالنتيجة إلى رفض التصويت على الحساب الاداري. ليبقى اليوم دور وزارة الداخلية واللجنة الجهوية للحسابات في تدقيق أمر الميزانية وإيضاح الخط الأبيض من الأسود وإجراء محاسبة نزيهة وشفافة واستيضاح دور بعض الجهات المحلية في السلطة التي كانت تراقب!؟ كل هذا في صمت رهيب لا يشبه الصمت الذي نعرفه.. إنه صمت بصوت جهوري لا ندري ماذا كان يقول. كما أشرنا في البداية، فإن منطقة ابن مسكين الرائدة والمقاومة، تحتاج إلى الورد وإلى إعادة الفرح إلى أبنائها وبناتها، كبار وصغار، وتحتاج فعلا إلى إحياء العيد. الكلمة للساكنة احتجاج المواطنين أمام مقر جماعة بني خلوق بدائرة البروج، بعد أن عمدت السلطة في محاولة منها لإيجاد مخرج لرئيس الجماعة، الذي حوصر من طرف المعارضة بالانتقادات التي تهم السير العادي لهذه الجماعة، من طرف رئيس تعاقب على التسيير منذ 34 سنة، دون أن تمتد إليه يد المساءلة من طرف المسؤولين محليا، إقليميا ومركزيا، أدى إلى تدخل القائد الذي انسحب في سابقة من نوعها من دورة الحساب الإداري، وترك هذه الدورة معلقة، إلا بعد مرور ثلاث ساعات، حين جاءته التعليمات، وتيقن بعدم جدوى هذا «التاكتيك» الذي تصدت له المعارضة، حين أعلن رئيس الجلسة خالد العمراني، عن رفع الجلسة لانسحاب السلطة، وعدم حمل الوثائق المتعلقة بالحساب الإداري لأي اسم لوزارة الداخلية أو اسم الجماعة وكذلك عدم وجود طابع يضفي عليها الرسمية. وأكد رئيس الجلسة كما دون في المحضر أنه لضمان السلامة والأمن داخل القاعة لغياب السلطة ليتم رفع الجلسة الى حين حضور السلطة المحلية. المواطنون أمام هذه الحالة الشاذة، نظموا وقفة احتجاجية بشكل تلقائي، أمام مقر الجماعة، حيث رفعوا شعارات من قبيل «هذا عار، هذا عار بني خلوق في خطر»، مطالبين بتدخل الجهات المسؤولة مركزيا لوضع حد للعبث والمأساة التي يعيش على إيقاعها المواطنون. هذه الوقفة دعت قائد المنطقة إلى الحضور العاجل، حيث فتح حوارا مع المواطنين، وحاول الدفاع عن وجهة نظره التي دافع عنها داخل الدورة، إذ حيث أكد أن القانون غير واضح بخصوص ما طالبت به المعارضة، الشيء الذي أدى به إلى الانسحاب، وعدم الفصل في مطالب المعارضة أيضا. المواطنون بدورهم تناوبوا على الإدلاء بوجهات نظرهم بخصوص ما تعرفه منطقتهم من تهميش وإقصاء ممنهجين منذ انتخابات 1976 والتي كان دائما نفس الرئيس هو الذي يسير هذه الجماعة، ضاربا عرض الحائط كل القوانين وبدون حسيب أو رقيب. في تعليق على ما جرى أشار أحد المواطنين، وهو موجه كلامه للقائد: «الشعب يجب أن يتكلم عن حقوقه، فين حقوق الإنسان». مواطن آخر، خاطب القائد قائلا: »وليداتنا ماكيقراوش ملي طاحت الشتا، الطرقان مقطوعة، والرايس ماكاينش». مواطن آخر أدلى بدلوه في هذا النقاش، مشيرا الى أن الرئيس رفض الترخيص لإحدى الجمعيات المهتمة بالتنمية، هذا الرفض الذي لامبرر له، يؤثر بشكل سلبي على التنمية بهذه البقعة الجغرافية، وزاد قائلا: «لا الرئيس يرعى التنمية من خلال تسييره، ولا يريد المساهمة في تحقيقها من طرف الجمعيات». الأمر بالنسبة لشاب آخر، الذي شدد على هذه المسألة.. إلا أن القائد كان كلامه غير مقنع... لتستمر المأساة.