أقول هذا لأنه قد أتيح لي مراراً أن أسمع من ُيدخل في القاموس الإسلامي لفظ «الإرهاب» كما تتداوله الألسنة اليوم، مستشهداً بقوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» (الأنفال - 609) . فمجرد ورود كلمة «ترهبون» في هذه الآية كافٍ عندهم للقول بوجوب القيام ب«الإرهاب» كما يستعمل في الخطاب الإعلامي المعاصر. وللمرء أن يتساءل: علامَ يعتمد هؤلاء في هذا التأويل الذي يقولون به؟ يخيَّل إليَّ أن بعض الفقهاء الذين أفتوا في عصر انحطاط الفكر الإسلامي بالقول: إن تفسير القرآن «صوابه خطأ، وخطؤه كفر»، الشيء الذي أدى إلى الاقتصار على تلاوة القرآن في المساجد كما يقرأ في المقابر، قد فعلوا ذلك لجعل حد لذلك النوع من التفسير والتأويل الذي كان يفرزه عصر الانحطاط، والذي لم يكن يعتمد فيه «المفتون» للعامة (بلسان العامة وعلى مستوى جهلها) على أدنى معرفة بالشروط المطلوب توافرها في كل من يتصدى للإفتاء والتفسير. والواقع أنه ليس فيما ذكره جميع المفسرين، بما في ذلك الذين عاشوا في عصر الانحطاط، ما يفيد أنهم فهموا من قوله تعالى، في الآية السابقة «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ»، ما تعنيه كلمة «الإرهاب» في الخطاب الإعلامي المعاصر. بل كلهم مجمعون على أن معناها هو التخويف: تخويف العدو بإظهار القوة والاستعداد للتصدي له الشيء الذي قد يثنيه عن خوض الحرب خوف الهزيمة. وقد شرح الفخر الرازي في تفسيره المقصود بالآية المذكورة فقال: «وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة، أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان. رابعها: أنهم لا يعينون سائر الكفار. وخامسها: أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام». وإذن فالهدف من إرهاب العدو وتخويفه، بإظهار الاستعداد والقوة، ليس من أجل التغلب عليه في الحرب وحسب، بل أيضاً من أجل حمله على ترك الحرب واللجوء إلى «الحلول السلمية» بعبارتنا المعاصرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى مباشرة، بعد آية «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الأنفال - 61). فكأن النتيجة من إرهاب العدو بمعنى تخويفه ستكون: جنوحه للسلم، وإذا حصل هذا صار التخلي عن الحرب واجباً. والشيء نفسه يمكن أن يقال فيمن يرفع شعار «المقاومة» ضد الاستعمار أو غيره، من دون أن يستحضر في ذهنه أن المقاومة ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لدفع العدو للجنوح للسلم، بمعنى عُدوله عن العدوان أو الاستمرار في ممارسته أياً كان هذا العدوان. إن «المقاومة» عندما تكون مسلحة تقوم بها نخبة قليلة العدد من المكافحين، نيابة عن الشعب. وهي وسيلة لاستعادة حقوق الشعب، فهي مؤقتة بطبيعتها، أما إذا جعلت من نفسها «غاية» و«وضعية» فإن ذلك إنما يكون على حساب الشعب... والمستفيد الوحيد هو العدو الذي يجد في استمرارها كغاية في ذاتها ذريعة لاستمرار عدوانه.