قبل مجيء هذه الحكومة ، كان الحوار بين الفرقاء الاجتماعيين يجري في أجواء توتر وتلويح بالإضرابات ،وفي المجمل كان هناك حوارا غير منتظم وغير مؤسَس لكنه كان يفضي دائما لعدة نتائج. واليوم أسست مؤسسة للتحاور بين ذات الفرقاء الاجتماعيين ، ووضع توقيت دقيق لذلك. وبعد الجولات الأولى تبين أن مؤسسة التحاور هذه أصبحت حاضرة شكلا وغُيب الحوار فيها مضمونا. حقيقة يجب الاعتراف بأن هذه الحكومة الضعيفة الموقرة نجحت فيما فشلت فيها الحكومات السابقة . نجحت في سجن المركزيات النقابية الأساسية بالاستباق في طرح مقترحات تارة والتمديد والتسويف والمماطلة تارة أخرى .ونجحت كذلك في تحصين نفسها من مطالب الشغيلة الآنية والمستقبلية ، ومعها طبقة المستغلين لعرق وجهد العمال في القطاع الخاص. وإذا كان المنطق النقابي الصحيح يقول بأن لا إضراب ولا احتجاج أثناء فترة الحوار أو المفاوضات ، فإن توقيت جولات الحوار بالشكل الذي عليه اليوم ، جعل الحكومة الحالية تشعر بارتياح كبير وعلى امتداد تسعة أشهر كاملة في السنة الواحدة . ستة منها تأكلها جولتا الخريف والربيع وتغرق قيادات النقابات "متلهية" في اجتماعات بات مؤكدا أن لا طائل منها ولا فائدة ، تتوج عادة ببلاغ من جانب الحكومة يغلق باب الحوار غلقا إلى جولة أخرى أما الثلاثة أشهر من التسعة ، فينصرف فيها قواعد وقيادات تلك النقابات لقضاء عطلة الصيف ... ما يتبقي من السنة سوى أشهر فصل الشتاء. وهي أشهر غير كافية لقيادة المركزيات النقابية كي تبلور موقفا نضاليا وكي تجند حوله قواعدها المجمدة ثلاث أرباع السنة. اللهم من مواقف واحتجاجات منعزلة وإضرابات قطاعات هنا وهناك سيما تلك التابعة للوظيفة العمومية. فالهدف إذا من خلق مؤسسة الحوار هو تنويم قيادات وقواعد المركزيات النقابية وليس الوصول لحلول مرحلية لقضايا الشغيلة ببلادنا الرازحة تحت وطأة ظروف معيشية ما انفكت تتعاظم في قسوتها وفي ضغوطها. وإذا كانت الحكومة الحالية قد هيأت مشروعي قانونين متعلقين بالنقابات وبالإضراب ، فلم تكن موفقة بل ولم تكن راغبة في تهذيب نص المشروعين ككل ، في إطار مؤسسة الحوار ولجأت كعادتها إلى الحل السهل لتمريرهما عبر غرفتي البرلمان النائم أعضاؤها ومنذ زمان. مخطط الحكومة واضح جدا . فبما تفكر قيادات المركزيات النقابية فعله مرحليا إزاء هذا الوضع واتجاه هذا المخطط؟ كيف تنجح تلك المركزيات في تعديل منطوق المشروعين نصا وروحا؟ وهل ستكتفي بتجنيد ممثليها في الغرفة الثانية فقط؟ هي أسئلة وغيرها، سواء تعلقت بالأهداف وبالوسائل، لا بد من استحضارها بغية إيجاد أجوية عملية وفي ظرف وجيز لا يتعدى الجمعة الثانية من شهر أبريل المقبل. أوضاع مثل هذه تتطلب تنسيقا بل وتحالفا بين النقابي والسياسي وبالذات في هذا الزمن الرديء سياسيا. آن الأوان للفعاليات النقابية الجدية قناعة والجادة في الدفاع عن الطبقة الشغيلة في بلادنا أن تجنح للعمل مع السياسيين ، سيما أولائك الذين اتخذوا من اليسار موقعا ،حتى ينتزعوا منهم وبوضوح موقفا . وعليها أن تكون السباقة في أخذ المبادرة فمن اصطف معها فقد أفصح عن قناعاته بعدالة قضية العمال أمام الرأي العام، ومن تلكأ في ذلك فقد افتضح أمره أمام الشعب وأمام طبقته العاملة. بحث اليساريون وعلى امتداد ثلاث سنوات في أوضاعهم وتشتتهم وتقهقر نشاطهم وابتعادهم عن هموم أبناء شعبنا ، وقدموا اقتراحات وشعارات جلها آتية من قيادتها دون ارتباط فعلي بما ترتئيه وتبتغيه أغلب قواعده على اختلاف فصائلها وأحزابها. فرصة مناقشة المشروعين الحكوميين من الفرص الناذرة التي ستتاح لليسار لينطلق في عمل ملموس ، من شأن الحماس المواكب له ، أن يفرز علاقات جيدة وجدية بين الأفرقاء تتغلب على الذاتية وتنسجم مع قناعة كل يساري المبنية على أهمية ودور الحركات الاجتماعية. اليساريون اليوم أمام امتحان لمرور من رد الفعل إلى الفعل، لمرور من سلخ الذات وتبادل التهم إلى توحيد الذات والتفاهم، تعزيزا للحس المقاوم الذي ظهر عقب استحقاقي 2007و2009. اليساريون اليوم، لا حق لهم في خذلان الطبقة العاملة المنظمة نقابيا. وعليهم أن يتجندوا كقواعد قبل القيادات لفك العزلة والانتظارية والانغلاق على أنفسهم وفك العزلة والإنتظارية وانغلاق المركزيات على نفسها. حان الوقت بمناسبة مناقشة مشروعي قانون الإضراب وقانون النقابات، لإخراج المركزيات من المجال النقابي الصرف لإنتزاع وبقوة ،وفي غرفتي البرلمان معا ، قوانين تكون منطلقا لحركة سياسية تحقق مصالح الطبقة العاملة بشكل أوسع وأنسب. الخدمات متبادلة والمكاسب أيضا. إذا كان السياسي يحتاج للنقابي لتعزيز نفوذه وامتداده داخل المجتمع ، فالنقابي أيضا يحتاج للسياسي لتمرير اقتراحاته وبدائله وتعزيز نضاله داخل البرلمان . أيها اليساريون في الأحزاب والنقابات هذه فرصة أتيحت لكم.وهي فرصة لاختبار قناعاتكم واختياراتكم من قبل أبناء شعبنا وقواه العمالية. استحضروا ما وقع الصيف الماضي إبان الانتخابات الجماعية حتى لا يقال لكم غدا: الصيف ضيعتم اللبن.